"نابليون بشي" :المقتل
الحلقة الثالثة 3-3
بقلم : صباح نعمو صادق
مساء ذلك الثلاثاء المشؤوم، كان عليّ ان اعبر مخزن نوبل، في طريقي لحضور مجلس صغير، يعقده أصدقاء وأحباب من أهل القلم ومريدي المعرفة والحضور الإنساني، همهمت مع نفسي..يا نابليون بشي كم انت انسان حالم؟ وأحلامك الجميلة المؤثرة علينا، وتحمسك القوي الصلد، هما اللذان جعلاك بالفعل ظاهرة لن تتكرر بسهولة. في حياتك السياسية الصاخبة، كما في موتك الصامت، قلت لنا هذه هي الحياة وعلينا ان نتحملها، نحيا ونموت وغناؤها لا ينقطع، نغفو وننام وأحلامها لا تزال مستمرة. نخر صرعى الظلم والحزن والتشاؤم، وتظل هي متربعة على عرشها عزيزة كريمة، نبكي وتأخذنا الخيبة، نفقد حماسنا للعيش والمواصلة، وتبقى باسمة غير عابسة، نرسف في الأغلال وتظل حرة طليقة.
في مطعم وبار أمريكي تجمعنا على بعضنا نحن البقية الباقية، نتواصل، نتحد، نختلف، نتعارك، ثم نتعانق ونلتقي من جديد. أصواتنا تتصاعد وتختلط وصياحنا يتعالى في غير تناسق ولا هدف، مع وتيرة كل رشفة شراب، وبعضنا يعب في كرشه أكثر من قنينة ويسكي، فتنقلب نقاشاتنا الى صيحات منفرة مدوية مزمجرة، في عمق هذا البار الأميركي الذي لا يفهمنا، ولا يعرف غير دولاراتنا السخية الحارة..ونحن على حالنا هذا، دخل علينا شقيقي (جمال) بخطوات سريعة مذعورة لاهثة، وأنفاس متقطعة كسيرة كمن يطلب الاستغاثة: إن وضعا غير طبيعي يدور في مخزن نابليون بشي! الناس متجمعة، والشرطة تحيط بالمخزن الذي لا يزال مضيئا كالعادة..قلنا: لعلهم فعلوها وتمكنوا منه هذه المرة. لبرهة خيم وجوم عابس وسكون شامل على الجميع، وسرت على هذا السكون قشعريرة وحيرة، ووجدت نفسي أقفز فجأة من مقعدي، وبعفوية وأرتباك أهرع الى خارج البار الى حيث تقف سيارتي. كنت أنهب الطريق نهبا، وقد خالطني بغتة شعور ومزيج من الرهبة والتساؤل، عما اذا كانت فرق القتل الجوالة المحترفة قد وصلت فعلا الى هذا المكان النائي الصعب المحصن الذي أسمه أميركا. وصلت اذاً صوب ديارنا الجديدة، وقد توهمنا فيها الأمان والحرية والهدوء..؟!
حقا .. كيف استطاعوا عبور عالم يفصلنا عنه سبعة عوالم وسبعة بحور، ومحيط مترام لا حدود له. بلمح البصر، كنت مرميا في قلب الموقع، ها هم الناس متجمهرين قبالة المخزن، كلدان، أميريكان، شرطة،اسعاف وشرطة سرية. شرطة هيزل بارك منهمكة في حركة غير عادية كأنها في وليمة، واتصالات سلكية ولاسلكية وتلفونية، وهم يمنعوننا من دخول المخزن.. كل شيء كان يجري بانتظام عجيب، مثل سيناريو مرسوم مسبقا. بعد انتظار طويل وعويل ممل اعترفت الشرطة على لسان(السارجن كلفن)، ان نابليون بشي صاحب مخزن نوبل مضروب بالنار، وأضاف: إطلاقة واحدة سددت الى قلبه أردته قتيلا في الحال. وتابع كمن يعرف كل شيء..لماذا في قلبه؟ معلوماتنا تشير الى انهم يضربون اطلاقاتهم على مركز الدماغ الأيسر، وتساءل المحقق الأول: هل كان السيد نوبل يملك حقا جريدة سياسية معارضة؟ لأننا لم نجد دليلا على ان القاتل كان يبغي الحصول على المال، فالقاصة والجارور مفتوحان، والمال لا يزال فيهما. قال شرطي آخر: ان مستر نوبل يرقد دون حراك من وراء كاونتره المفتوح، وقد نزف دما كثيرا طفح من حوله وعليه. اذا كان طعما لرصاصهم الذي لايخطىء هدفه، والضحية هي دائما انسان مأخوذ على حين غرة، وكأنه ولد للمشقة والموت في غابة انسانية موحشة. ما أشد حكمة جبران وهو يهتف فينا من عليائه:
(...ويل لأمة تهتف للباغي هتاف الأبطال
...ويل لأمة وليها ثعلب ماكر وحكيمها مشعوذ
...ويل لأمة تستقبل حاكمها الجديد بالطبل والزمر وتشيعه بالتنكير والصفير، لتعود فتستقبل الخلف كما استقبلت به السلف.
...ويل لأمة عقدت السنون حكماءها وخلفت ذوي البأس من رجالها في مهادهم.
...ويل لأمة تفرقت أحزابا وظن كل حزب انه أمة لوحده.)
وهل من أمة كالعراق تفرقت شيعا وأحزابا..؟!
خلسة اقتحمت المخزن ..انكببت على القتيل أراه، وقلت بخشوع وعفوية: نابليون..إغتالك الأنذال..لحقونا الى هنا يانابليون؟ لم يكف ارهابهم وظلمهم وسبيهم لشعبهم. كنت لا أزال أتحسسه، والحق، اني رأيت نابليون يرقد في ثقة وطمأنينة غريبتين، وقد أسبل عينيه الواسعتين، وأشبك ذراعيه فوق صدره الرحب، وزم شفتيه الكبيرتين..رجل مستعد وجاهز للموت، فبماذا تراهم يخيفونه ليسكت؟ لقد كان يعرف كل شيء.
استرعت انتباهي ملامحه الوقورة، وهيأته المربوعة، كانت فيه كل عراقيته السومرية، وهي تذكرنا بأنفسنا وتاريخنا، وكان وجهه الممتلىء الفاتح السمرة لا يزال يشع رجولة وكبرياء..رجولة تبعث القشعريرة في الرجال، اذا ما تمعنت فيها وجدت في صفائها وصفائحها تاريخ شعاع الشمس المجيدة التي صنعت حضارة بلاد ما بين النهرين. تمعنت بدهشة الى جسده الكبير الممدد على الأرض، شاهقا عاليا يعج بالصلابة والفتوة، مع هذا، كان شهيد الفكر الحر نابليون يرقد دون حراك.
عبثا حاول الشرطي سحبي الى الوراء وأنا متسمر كالعمود محدقا فيه، وأقول في صوت هامس مستنكر: آه نابليون ..قتلوك اذاً..كم كنت انسانا حالما، وكم كان خيالك واسعا ممتدا الى أمجادنا التاريخية المشهودة؟ هل أصبح الأنحطاط الأنساني صفة مميزة لعصرنا وزماننا؟ كنت يا نابليون تلقي عليّ مواعظك وتقول: لنكن نبراسا وقدوة للآخرين..علينا ان لا نخاف ظلام التاريخ، وان لا ندعه يخيم ويعشعش في قلوب الناس، وحين احذرك واخيفك من غدرهم، وانهم سيؤذونك لأنك تجاوزت الحد المسموح، كما فعلوا ذلك بغيرك. كنت تربت على كتفي وتضحك بثقة وتقول: مرحبا برصاصهم فليأتوا، ثم تصمت صمت الإنسان الواثق من نفسه.
في سواد ليل ديترويت أخرجوا شهيد الفكر الحر على نقالة الإسعاف، وكان ملفوفا بخرقة بيضاء بعناية، اندفعت الجمهرة الصغيرة نحوه، وقذف بعضهم نفسه في هذا الحشد كمن يريد انتشال غريق دون جدوى. لقد كان عدونا عدوا ماكرا لا نراه بالعين المجردة. كان البعض من المحتشدين قد اخذهم الغضب كثيرا، يصكون أسنانهم حقدا على الظلام، وأحس البعض الآخر انه يستطيع ان يدك الجبال ويهز السماء. ولكن الحقيقة كانت كما هي، مات الرجل الذي أوقف همه السياسي والفكري على الشرق، شرقنا الذي لازال رغم كل شيء قبلة أنظارنا.
لقد رحل ذلك الإنسان المكافح الصريح الكثير الخيال والذي لم يتحمله أهله وبني قومه، مات نابليون بشي رغم ارادتنا، وصرنا لا نملك الا ان نبكيه، نبكيه دون خجل حتى أمام الأمريكان ذوي القلوب الحجرية الهازئة بعواطفنا الشرقية الساذجة. آه من الرجال عندما تبكي!بكاءً مرا في لحظة نعرفها جميعا ونحس من خلالها اننا ضعفاء، وأكثر عجزا، تلك اللحظة التي نعود فيها لأنفسنا ولا نملك معها الاّ البكاء المستمر.
حينما رأيناه للمرة الأخيرة وهو يرقد في جلال وهيبة في قاعة الدفان الكلداني المعروف(جيري يونو) الذي رتب كل شيء يليق بهذه الحادثة الفريدة، قدمت لشهيد الفكر باقة رياحين فواحة، وطلبت من الفنان الصديق(جاني دانيال) ان يخط عليها عبارة( من هيئة تحرير جريدة المشرق). وفي القاعة التي خصت بالحضور كان كل شيء قد تم اعداده بدقة عالية في مأتم كلداني مهيب مليء بالحزن والأسى، لم نملك معه الاّ ان نقدم لنابليون ( الذي ملأ دنيا الكلدان صراعا وضجيجا ونقاشا). اكليل ورد وقبلة اخيرة. ان هذا يعبر يقينا عن خيبة وفشل الإنسان أمام قوة ولغز الموت القاهر للحياة.
لقد غادرنا الوجه الوديع الذي كان ينضح عرقا في حياته ومماته. وسيبقى الموكب يسير الى ان ينجلي هذا الليل الأسود الطويل.