ولعلّ الخبرة النفسية "الفِطرية" للطغاة وأدواتهم في إدارات السجون السياسية تعمل بشكل دائب على الطرق على مفاصل هذه الحقيقة لاستنهاضها ومواجهة السجين بها ولعل من أهمها إجبار السجناء على مشاهدة "قاتلهم" يومياً. كانت خطب وأفلام أنشطة الفوهرر تُعرض على سجناء معسكرات الاعتقال باستمرار مثلما كانت صور وخطب والاحتفالات بالرفيق "ستالين" تُعرض على سجناء الكولاجات السوفيتية من ضحاياه بصورة مستمرة. إنّ إجبارك على رؤية قاتلك أو جلّادك بصورة يومية شبه "طقوسية" يعني تثبيت الخوف في ذاتك على المدى الطويل مادمت سجينا في الوقت الذي يسرح فيه هو القاتل حرّاً. إنّهم – وبالحدس العملي لا العلمي التجريبي – يتبعون مبدأ "التناشز المعرفي" الذي يجعل المسجون يطوّع أفكاره لتناسب المعطيات السلوكية مِن حوله برغم مناقضتها لما يؤمن به من قيم ومبادىء. ولعل واحدا من المفاتيح الأساسية لتحقيق ذلك هو عملية "التأثيم" المستمرة المرتبطة بإحساس من "الرقابة" الدائمة الموصلة إلى فرض الشعور بـ "الحضور الكلي" و "القدرة الكلية" للطاغية ثم السجّان بأبسط مراتبه، وهذه العملية بتسلسلاتها المركبة والمعقدة التقطها بولص آدم حين ابتعد بنا "ظاهرياً" عن المعضلة المركزية المرتبطة بعدم قدرة دعيّر على البكاء لفقدان طفله الوحيد برغم إلحاح المسجونين إلى "فسحة سردية وصفية" وهي مهمة في بناء العمل السردي الروائي خصوصا وصار يصف لنا الهدف من وضع تلفاز في قاعة السجن:
(نعرفُ بأن التلفاز في أبو غريب هو للتواصُل من القاع الذي نحنُ فيه مع القائد العام للقوات المُسلحة ! كانت فكرة ماكرة لتذكيرنا بأننا خُطاة يومياً..)
لكنها ليست نقلة في الواقع بل بناء "حلقة وصل" انتقالية بين الحكاية الأم وحكاية أخرى ترتبط بها (وفي الحقيقة "تنولد" من رحمها بالاستفادة من التقنية الرائجة لدى سيدة الحكايات "ألف ليلة وليلة") حيث يوظّف حكاية فيلم "البطل" الذي يعرضه التلفاز ليشحن الحكاية بصورة أخرى عن العلاقة الأبوية الممتحنة بين أب ملاكم يستميت ليحصل على نزال أخير من أجل أن يحصل على المال لإسعاد ولده الصغير. يقول السارد مستدركا:
(بيدَ أنَّ عَرض فيلم (البطل) أثناء هذه اللحظات الجنائزية، مَنَحنا فرصة مُفترضة لملامسة الحُرية، بالتماهي مع ميلودراما حول مُلاكمً مُعتَزِل، مُصاب بمرض عضال، مُطَلَّق، يُقرر العودة الى حلبة الملاكمة للظفر بأي مَبلَغ يتركهُ لولده الصغير)
وما يحصل أثناء مشاهدة هذا الفيلم هو مجىء المسجون "عبيّس" ملاكم القسم 2 الذي أفسد المشاهدة على المسجونين الحاضرين بسذاجته حيث لم يكن يفهم الترجمة فصار يسأل عن كل شيء. وحينما حلت خاتمة الفيلم حيث يسقط الأب الملاكم بالضربة القاضية ويحتضن الطفل المسكين رأسه المُدمّى، يستعر الانفعال والحنق في نفس عبيّس ويهتاج ويرمي التلفاز بكرسي ويكاد يكسره زاعقاً:
(ـ أين أختفيت ياحقير، إظهر ثانية، سأُهَشِّمُ وجهك بقبضتي!)
الآن سوف يتقابل في أذهاننا:
دعيّر المثكول بطفله -------- طفله (حميّد المتوفى)
الملاكم (بطل الفيلم المتوفى) ---------- طفله المُحبط المثكول بأبيه
عبيس (ملاكم القسم 2) ------------- طفل الملاكم بطل الفيلم ----- الملاكم ---- حميّد (طفل دعيّر المتوفى) ---- دعيّر
يضعنا بولص آدم الآن في مركز ثلاث "حكايات" :
(1). الحكاية الأمّ: دعيّر المثكول بوفاة طفله الوحيد وفشله في الاستجابة لضغط رفاقه للبكاء على الفقيد.
(2). الحكاية الفرعية الأولى: الملاكم "المثكول" بفقدان آخر أمل لتقديم شيء من المال لطفله الوحيد.
(3). الحكاية الفرعية الثانية: عبيّس الملاكم "المثكول" بانثكال ملاكم الفيلم حين أجهض أمله الملاكم الخصم بالضربة القاضية
ولكن "محصلة" التفاعل النهائي من حاصل جمع انفعال الانثكالين الأخيرين هو إجهاض انفعال الانثكال الأوّل:
(قَذَف [= عبيّس] ما بيده بقوة ليرتطم بالجدار أعلى الشاشة، وصار كالفَهَد المُحاصر في قفص وهو يرى فَريسة خارجه، ولولا أن التلفاز مُثبت على الجدار أعلى، لكان قد هشَّمَهُ، ثم تكوّرَ على نفسه مُستمراً بمتابعة هيجانية، أضحَكَت كُل الحَزانى على الطفل الراحل حميّد..)
لكنها ليست محطة وفّرها القاص لالتقاط الانفاس من قبلنا كقرّاء بل هي "لعبة" شديدة الجدّية يمنح من خلالها القاص لكل حكاية من الحكايات الثلاث شحنة مرتدة تؤجج شحنة الحكاية السابقة لها والتي تليها. فكل حكاية هي في الواقع "مقلوب" الحكاية السابقة مع شرط أن نستعيد في أذهاننا "الصورة الكلية – الجشطلت – Gestalt" لمسارات النص التي توفرت لنا حتى الآن. فـ "دعيّر" منثكل بطفله الوحيد حميّد الذي من المؤكد أنّه قد بنى تلالا أو جبالا من الآمال و "السيناريوهات" لعلاقته معه وتعويضه حين خروجه من السجن. وهذا متوقّع من أي سجين لديه زوجة وطفل في خارج السجن. لكن القدر الساخر خرّب كل شىء وهدم قصور الآمال على رؤوس ساكنيها عبر ضربته المفارقة ذات المسحة الهازلة:
يفقد الأب السجين ولده بسبب انشغال الأم بمطاردة فأر،
ويفقد الطفل الوحيد أباه البطل ملاكم الفيلم في "لعبة" لم يحسبها الأب بدقة بل بعاطفته الهوجاء لإسعاد طفله،
و"يفقد" عبيّس ملاكم السجن طفل الفيلم وأباه وطفل زميله دعيّر.
والفقدان في الفيلم بهذه الصورة المؤلمة الفاجعة مرتبطا بالطفل لا بالملاكم بصورة رئيسية هو الذي أثار مشاعر التعاطف الهوجاء في نفس عبيّس المسجون البسيط الساذج فحاول تحطيم الملاكم المنتصر في التلفاز ثأراً للطفل المنكوب ولأبيه الملاكم القتيل فدفعه هذا إلى أن ينطلق نحو دعيّر ليواسيه بطريقة غريبة ومؤذية سوف تتسبّب بأفدح العواقب.
واستمرارا مع حكاية (الطفل الراحل حميّد) التي ختم بها القاص حكاية انفعال عبيّس (الحكاية الفرعية الثانية) ، ومنها ، يعود بنا إلى نقطة بدء الحكاية الأم ولكن من مستوى أعلى:
(تجمّع المُعزّون حول رأس دعيّر وكأنه في بئر، لم يكفوا عن شد العزم وترديد الأدعية ورجاء الجنة للفقيد...)
وفي استخدام وصف "وكأنّه في بئر" تظهر الحرفية العالية القائمة على "الانضباط" اللغوي إذا جاز الوصف حيث تعيدنا كلمة "بئر" إلى مفردة ومعضلة "الجبّ/البالوعة" التي افتتحنا بها باب عالم هذه الحكاية. فالكاتب -ومن حيث "لا يدري"- تخضع اختياراته للمفردات اللغوية وعباراته الوصفية للهمّ المهيمن عليه فتطفو من مخزون الذاكرة الكلمات المرادفة لمفردة الحبكة المركزية بين وقت وآخر. بل إنّ هذا الهمّ الذي من المؤكد أن الكاتب قد انشغل به طويلا واختمر في أعماق لاشعوره قبل الشروع بعملية كتابة النصّ قد "اختار" ألوان وبنى حكاياته الفرعية اللغوية متسقة مع ألوان وبنى الحكاية الأم بنوع من "الحتمية" اللاواعية تقريبا. وقد اتضح هذا في الحكايتين الفرعيتين حيث "ابتُـلع" الوجود الشخصي في كليهما بفعل الاندفاعية الهوجاء (وفي فيلم البطل كان الملاكم الأب "سجين" الإدمان على الكحول والمقامرة والنوبات العنيفة وهو ما يُستنتج أيضا من وصف القاص لطبيعة عبيّس وبنيته:
(طويل القامة، مَرصوص العَضَل، تَميز بغلاظة عُنق وكَفين، الوشمُ علامتَهُ الفارقة، عقارب وقلوب مُصابة بأسهُم وسلاسل، أسماء وتواريخ، كان الجزء العلوي منه، نَصّاً بيوغرافيا يُعبر عن تاريخ شخصي حافل، كَواهُ الوشم على جلده الأسمر، صوته، كان كشخيره عالياً دوماً)
وفي الفيلم -وبطبيعة الحال ليس من واجبات القاص أن يشرح لنا حكايته بل من واجب الناقد الذي عليه أن يضىء للقارىء أي زاوية يسهم إيضاحها في تعميق إدراكه للنص وفهم رسائل الكاتب الفكرية والنفسية التي يمرّرها من خلال استعارة تلك النتاجات الفنية- تتشابه نوبات العنف التي ينفجر فيها الأب الملاكم وتوصله إحداها إلى السجن مع نوبة العنف الهوجاء العشوائية التي انفجر فيها عبيّس الساذج ضد الملاكم المنتصر الذي اختفى من المشهد. والقاسم المشترك الأعظم بين الحكايات الثلاث (الحكاية الأم والحكايتين الفرعيتين) هو ألم "الفقدان/الابتلاع" والخراب الذي يترتب عليه وأعلى أشكاله هو الموت/المثكل الذي سيمدّ خيطه الأسود ليسلك خرزة جديدة في مسبحة الحكايات وهي الحكاية الفرعية (أمْ حكايةٌ أمٌّ مؤجلة؟!) التي يستعيدها الراوي بعد العودة إلى الحكاية الأم حين وصف لنا كيف "تجمّعَ المعزّون حول رأس دعيّر وكأنّه في بئر" يشدّون أزره ويردّدون الأدعية ويرجون الجنة لطفله الفقيد "حميّد".
وهنا ينقلنا السارد من الباحة السفلية إلى زنزانة دعيّر في الطابق العلوي من قسم السجن حيث يبدأ يحكي لنا الحكاية الفرعية الجديدة التي هي في حقيقتها "أمّ الحكايات" كما سنرى. دعيّر يجلس على سريره في الزنزانة:
(والشباك الجالس تحته على السرير، يَطُل على قسم المُغلقة الخاصة، سبَقَ وأن تم سدُّه بالطابوق والسمنت، كُنا نَسمَعُ صُراخا طوال النهار في الجهة الأُخرى، ولم نكُن نعلَمُ بأن الشباك يَطلُّ على باحة تعذيب وفضائع)
وهنا يبتكر القاص طريقة في "التلصصية أو التبصّصية/البصبصة" على خفايا السجن لم يبتكرها أحد قبله وسوف تُسجل امتيازاً باسمه. فقد تفنّن كتّاب القصص والروايات العرب والأجانب في ابتكار طرق يتبصص بواسطتها الفرد أو السجين المنعزل عن العالم على مجريات الحياة في العالم الخارجي (بالتأكيد سنتذكر هنا رواية "الجحيم" لهنري باربوس) أو على ما يجري في مكان مجاور لزنزانته (5). لكن بولص آدم مُبدع والمبدعون الأصلاء عادة ليسوا بحاجة للتقليد. إنّهم خبراء في اللعب باللغة فلا تُستنزف مخزونات مفرداتهم أبدا وبمكوّنات الحياة الجامدة فينفخون فيها الحياة وإذا بهم خالقون. إنّ المبدع يستطيع أن يمدّ يده في جرابه ويُخرج لك اشياء تغشي البصر وتشوّش البصيرة. وهذا سرّ التحذير من الشعراء في بعض الأساطير والكتب الدينية. وتتجلى هذه القدرة لدى بولص آدم في الحكاية الثالثة التي صار مسرحها الصغير زنزانة دعيّر المثكول بموت طفله الوحيد والجالس الآن تحت شبّاك كان يطل سابقاً على قسم المُغلقة الخاصة حيث تجري عمليات التعذيب وفظائع تدمير السجناء لكن تمّ غلفه بالطابوق والاسمنت. وبرغم ذلك ظلت أصوات المُعذّبين المسحوقين تصلهم عبر الحائط الصغير. أصغر السجناء "رحيم" تمكَنَ من خلخلة طابوقة في هذا الجدار الصغير وزحزحتها، وصار يسحبها برويّة، بين وقت وآخر، فيرى المَخفي من الفظائع المهولة، وينقُلَ للسجناء -بالبث الحي- ما يحدث هناك.
أوّل ردود الأفعال على تصرّف رحيم هذا أتى من السجناء الذين تعرّضوا للتعذيب سابقاً. فالكثير من هؤلاء يستمرون في المعاناة مما يُصطلح عليه في الطب النفسي بـ "متلازمة عقبى الشدائد الفاجعة" وهو الاضطراب الذي تستمر غيلان التعذيب بملاحقتهم فيه حتى بعد سنين من خلاصهم من التجربة المريرة فتراهم يتجنّبون كل ذكرى تعيد إلى أذهانهم تلك التجربة أو ما يشابهها من أفلام وروايات وأخبار صحفية وحوادث وغيرها.. وتتحطم علاقاتهم الإنسانية الزوجية والعائلية والعامة لأنهم مازالوا يحيون التجربة المدمرة تلك.. نومهم يزدحم بكوابيس العذاب.. رؤية شرطي في الشارع أو مشهد عن التعذيب في فيلم قد تفزعهم وتجعل قلوبهم تدق والعرق يتصبب منهم.. يتجنبون أي طابور بشري حتى لو كان لغرض مهم!! وغير ذلك الكثير. ومن الطبيعي أن لا يكتفي هؤلاء بالطلب من "رحيم" إعادة الطابوقة إلى مكانها فحسب بل يحذرونه من عواقب فعله هذا لأنهم خبروا هذه العواقب جيدا. لكن ما هو مفزع هو ما حصل لرحيم نفسه. لقد ظهر التأثير النفسي المبهض عليه سريعاً. ليس شرطا أن يتعرّض الفرد للتعذيب كي يتحطم .. بل يكفي أن يراه فقط. يا إلهي.. ما الذي كان يفعله الجلادون بالضحايا؟؟
(رحيم تغيَّرَ كثيراً بعدَ ذلك، حكى لي كوابيسَ لم أكُن أتخيلها، أمسى لاينامُ الليلَ من أوجاع رأسه، زارته والدته في المواجهة، قال لها بأنه سينتحر!)
لقد تمّ "ابتلاع" رحيم. وهذا ضحية جديد لـ "بالوعة/جُبّ" السجن. يمكن لفتحة بسيطة تعملها بلا حذر في مكان غير مناسب وفي وقت غير مناسب أن تُصبح "البالوعة" التي تبتلع وجودك وتنغلق عليه إلى الأبد. دروس ودروس وعِبَر تأخذها من بولص آدم مبدع هذه الحكاية الحاضر وسجينها السابق. ومن جديد، ليس من واجبات الحكّاء أن يكتب تاريخا أو يشخصن نظريات علمية. أسوأ مؤرخ هو أفضل من أيّ قاصٍّ أو روائي في هذا المجال. بعض الكتّاب يفتشون في سجلات مديريات الأمن والمخابرات ليسردوا لنا حكايات تشيب الرأس عن أهوال تعرّض لها مواطنون في سراديب تلك الدوائر المرعبة. صاروا يذكرون حتى الأسماء الصريحة للضحايا والجلادين على حدّ سواء معتقدين أنّ هذا المسعى يعزّز قوّة تأثير "نصوصهم" عن التجربة القاسية المُعذبة للسجناء. بولص آدم يقدّم "الوصفة" الصحيحة. الحكّأء خبير في "إعادة ترتيب" و "إعادة إنتاج" حكايات العالم الحقيقي من حيث فعلها في شبكة علاقات إنسانية تضعنا –من حيت لا ندري أيضا- في محور تجاذباتها. مّنْ يستطيع نسيان السطرين السابقين اللذين وصف القاص بهما تدهور حال السجين الشاب "رحيم"؟:
(رحيم تغيَّرَ كثيراً بعدَ ذلك، حكى لي كوابيسَ لم أكُن أتخيلها، أمسى لاينامُ الليلَ من أوجاع رأسه، زارته والدته في المواجهة، قال لها بأنه سينتحر!)
لقد "ابتُلع" رحيم و "ابتُلعنا"معه.
والحكايات العظيمة هي التي "تبتلعنا" إلى عالمها طول مدّة القراءة....
وحين نفرغ منها و "نخرج" و "نعود" ، لن نعود كما كنّأ إلى نقطة البدء أبدا. لا بُدّ أن "يعلق" بنا شيء منها: فكرة، انفعال/ صورة/ صرخة رعب: كابوس.. أي شيء .. أي شيء.. والحال هنا يشبه حال المغارة الأسطورية في سيّدة الحكايات التي يدخلها الشخص ويخرج مرعويا وقد فقد القدرة على النطق.. هذا ما يفعله الإبداع العظيم ومنه حكايات بولص آدم هذه. لا يمكن أن تخرج من "جبّ" الإبداع العظيم كما دخلت.. أبدا.. أبدا. وأنا شخصيا علق بي مشهد رحيم وهو يشكو لأمّه المسكينة ويرعبها بخبر أنّه سوف ينتحر وهي التي قد تكون قطعت المسافات كي تطمئن عليه وتُطمئنه.. هل الأمهات هنّ بطلات كل العصور؟؟.. بطلات كل التجارب؟؟ وهل الأم العراقية العشتارية هي بطلة "الانتظار" الأسطوري الذي لا مخرج منه ولا يعلم نهايته إلّا الله؟ هل هنّ النص المستتر العظيم؟
ولو لاحظتَ المواقف التي "يحضر" فيها السارد في هذه الحكاية بصورة مباشرة عبر ضمير المتكلم فسيلفت انتباهك إلى حقيقة خطيرة قد تكون غائبة عن أذهاننا كمتلقين في كثير من الأحيان وهو مقدار "النزف" المعنوي الذي يعانيه المبدع وهو يستعيد التجارب المباشرة التي عاشها وغير المباشرة التي تسلّمها عبر طرق مختلفة. إنّه يعيد "عيشها" و "يُبتلع" في عوالمها المتأججة فيدفع ضريبة باهضة في الوقت الذي بإمكانه تجنّب التجارب المؤلمة، فيقترب حاله بذلك من حال ضحايا اضطراب "عقبى الشدائد الفاجعة" الذين يهربون من المثيرات التي تذكّرهم بعذاباتهم الساحقة السابقة التي تطاردهم غيلانها وتولغ في تمزيق أرواحهم. هذا ما نقرأ عنه في مقالات الصحافة واللقاءات المتلفزة عن أنّ المبدع الحقيقي يدفع ثمن إبداعه من صحة أعصابه وسلامة قلبه. والمبدع العظيم هو الذي يجعلنا ندفع الثمن.. هكذا يجب أن تكون المعادلة: واحدة بواحدة!! طبعا، الغوص في عوالم الإبداع الإنساني العظيم ليس نزهة أو رحلة عابرة. ينبغي أن يتيح القارىء الحقيقي الجاد لذاته أن "تُبتلع" في عالم النص كي ينعم بعطاياه التماهوية الموصلة إلى التنعّم التنفيسي حتى لو كان ذا طبيعة مازوخية.
وأتذكر هنا عبارة عنيفة –كالعادة- لـ "شارل بودلير" عالقة في ذهني منذ عقود يقول فيها:
"علينا أن نشرب الخمرة بنفس الطريقة التي عُصر فيها العنب كي يصبح خمرا" وبالنسبة لي ، أقرأ وأحلّل و "أشرب" النصوص و "تبتلعني" بهذه الطريقة. وقد قرأتُ هذا النص وحلّلته و "شربته" و "ابتلعني" بنفس الطريقة التي عَصَرَ فيها بولص آدم روحه ليحيلها حكاية!! صحيح أن الروايات والقصص مهما كانت عظيمة تُقرأ "للمتعة" حسب الفكرة الموفقة نسبيا لسومرست موم في كتابه الرائع "عشر روايات خالدة" (6). لكن هذا ليس دقيقاً حين نضع في حسابنا الدوافع النفسية اللاشعورية للقارىء وهي تجد متنفسها "التماهوي" في عالم النص. والأهم في هذا التماهي المُشفي والمؤذي في آنٍ واحد هو الكيفية التي "يُكمل" فيها القارىء "نصّه" مؤسسا على انفتاح نص المبدع الأصلي. كيف يشيد معمار حكايته التي حرّكت دوافعها الدفينة مُحفّزات الحكاية التي بين يديه. وقد أتاح بولص آدم لنا –وعلينا أن نشكره على هذه العطايا النفيسة- فرصة نادرة الحدوث في أن نبني حكاية تمسّ مصيرنا الشخصي كنوع إنساني تتعدى المصير الفردي لنا ولشخوص الحكاية. لقد دقّ جرس التنبيه في أذهاننا -وبقوّة- منبّ÷اً –عبر الفن طبعا- إلى مفاهيم ومعضلات ووقائع شائكة ومضللة منها –على سبيل المثال لا الحصر- مّا يُسمّى بالمصادفة العمياء. لا توجد "مصادفة" في حياتنا على الإطلاق لأن أغلب أفعالنا "التصادفية" هي إمّا نتيجة حتمية لاشعورية لا ندركها بعقلنا الواعي المسكين الذي هو وكالة حسّية بسيطة أو أنها محصلة تقاطع ضرورتين أو أكثر يحكم عقلنا المسكين على نتيجتها الظاهرة فقط بأنها تصادفية. ونستطيع التساؤل بـ "وقاحة" أو "جسارة" المحلّل النفسي الذي لا يعرف المهادنة ولهذا تجده يُواجَه بحساسية عالية بل يكون "مكروهاً" ليس في الأوساط الشعبية التي تخشى "الانكشاف" بل حتى في أوساط النخبة المثقفة. مشكلة التحليل النفسي وامتيازه هو أنّه علم الأعماق والمكبوت الذي لا يعرف التصافقات ولا التسويات. والتساؤل "المشين" والصادم ولكن الدقيق هو: هل كان انشغال زوجة دعيّر/أم حميّد بمطاردة الفأر العصي ونسيانها أهم شيء لديها في الوجود وهو طفلها الوحيد؛ النسيان الذي أدّى إلى موته ساقطا في "بالوعة" ، فعلا "تصادفياً" أم حركة يأس وخلاص تدميرية فرضتها الصراعات اللاشعورية وجحيم زمن الانتظار المتطاول الثقيل لامرأة "ابتلعتها" محنة سجن زوجها ونفضت يديها من تراب الأمل؟
وكل ما قدّمتُ له وقلته من تحليل عميق من قَبلُ سوف يحصل الآن مع دخول عاصفة عبيّس إلى زنزانة دعيّر الذي أحاط به المواسون ومايزال عصيّاً على البكاء. لكن احتضان عبيّس الخانق له لم يجعله يبكي فقط .. ويغنّي .. بل فتح فوهة أو أبواب "بالوعة" جحيم جديدة على مصاريعها:
(انتهى الفيلم بموت البطل وأصبح الطفلُ الباكي على جثة أبيه، رمز اليتيم المحروم في هذه الدُّنيا، فما كان من مُلاكمنا وهو يقارن هذا مع قصة حميّد، حتى هُرعَ راكضاً نحو زنزانتنا وأحتضن دعَيّر باكياً على هذين المُصابَين، يكتم أنفاس دعَيّر الذي تحولَ الى مَلجأ أحزان، بنشيجه الهستيري..
وأَخيراً، بكى أبو حمَيّد والأبوذية تشتعل في فمه)
الآن تحقّق الهدف الذي استمات المسجونون؛ رفاق دعيّر مطرب سجنهم ؛ أبو غريب، أن يحقّقوه بحسن النيّة وهو أن يبكي ويذرف دموعه حزنا على طفله الوحيد الفقيد كي لا ينفجر كمداً وصمتاً واحتقانا كما يرون. هذا ما أرادوه وقد تحقّق بعد أن التحم عبيّس بدعيّر حدّ اختناق الأخير الذي حاول بكل قوّة التخلّص من هذه العاطفة العاصفة الهوجاء العنيفة وهي الوجه الثاني لعملة الحرص "العدواني" لرفاقه السجانى فحرّك يديه وأسقط شيئاً "بسيطاً" ... و "دون أن يدري" :
(.. أراد أن يَفلُتَ من هذا الأحتضان العنيف، دَفَعَ المُلاكم عبَيّس بيد ويده الأخرى ضَربَت دون قصد طابوقة رَحيم، سقطَت في باحة الشنق الساكنة، تَدحرجَت بصدى مُضاعف، رُبما إستيقَظَ الحرَسْ)..
وبهذه العبارة.. وببرود محايد شديد الأذى، يختم بولص حكايته.
ولن يفيد هذا الهدوء الظاهري للراوي ولن تنفع عملية التهوين عبر "ربّما" الاحتمالية . لقد انفتحت بالوعة الجحيم .. وبالمناسبة فإن من معاني السجن هو "السجّين" وهو وادٍ في جهنم يقابل "علّيين" في الجنّة. قال تعالى : "كلا إنّ كتاب الفُجّار لفي سِجّين"
وقد كانت حركة "تصادفية" لكنها حركة "خلاصٍ" مِن كل شيء بعد احتباس عسير مرير طال أمده وكان يوشك على الانفجار ، وهاهو يتفجّر فعلياً فاتحاً فوهة بالوعة سوف تبتلعه وتبتلع الجميع..
وإذا كانت زوجة دعيّر قد تسبّب انهمامها "غير المقصود" بفأرٍ عصيّ لعوب في ضياع طفلها الوحيد ، في حركة هي –في حقيقتها العميقة- حركة "خلاصٍ" تدميرية للذات ولكل شيء من حولها.. فإنّ زوجها "دعيّر" قد تسبّب أيضا ، وفي حركة "خلاصٍ" "غير مقصودة" لكنها تدميرية الطابع للذات ولذكرى طفله الوحيد الفقيد ولكل شيء من حوله. ولكن تداعي المعاني الأكبر والأخطر الذي تحيل إليه هذه الحكاية بكل مثاباتها الواخزة بعمق هو أننا جميعاً ضحايا "فأر" من نوع آخر.. متعملق ومتجبّر ومتعسّف.. وأننا بسبب تجبّر وتعسّف هذا "الفأر" في "بالوعة" مدلهمة .. ساقطون ..
و... خائفون..
إنّه.... "فأر الوجود"
لقد أسقط "دعيّر" طابوقة بحركة "عشوائية" و "دون قصد" فخلق "فتحة" صغيرة سوف "تبتلع" كل شيء .. نعم .. كل شيء .. وبلا رحمة .. سوف تبتلع دعيّر وعبيّس ورحيم .. وكل المساجين.. والراوي .. والقرّاء .. والناقد.. فشكرا لك بولص آدم على هذا الإبداع الكبير.
حسين سرمك حسن
بغداد المحروسة
20/آذار/2020
هوامش:
*هذه المقولة للناقد.
(1). من أدب السجون العراقي- حسين سرمك حسن- دار الشؤون الثقافية- بغداد- 2020.
(2). لسان العرب- الجزء 7 – ص 131- موقع المكتبة الإسلامية –الشابكة (الإنترنت)
(3). راجع قصة "علاڱات تعبان" في هذه المجموعة.
(4). للاطلاع على تحليل مهم وعميق للعلاقة الصوتية "الشبقية" بين الجمهور العربي وصوت الزعيم الراحل جمال عبد الناصر أرجو مراجعة كتاب: المثقفون العرب والتراث؛ التحليل النفسى لعُصاب جماعى- جورج طرابيشي- دار رياض الريس- بيروت- 1991.
(5). وقد وقع أحد كتاب القصة في مطب حماسة التقليد فجعل أحد السجناء يصعد على سُلّم لينظر من نافذة ويخبر رفاقه بما يجري في العالم الخارجي ناسيا أن إدارات السجون لا تزوّد كل زنزانة بسُلّمٍ عادة!!.
(6). عشر روايات خالدة- سومرست موم- ترجمة: سيد جاد وسعيد عبد المحسن- دار المعارف المصرية- القاهرة- 1971.
------------------------------------------------------------------------------------
بولص آدم: بانتظار الأبوذية
https://www.alnaked-aliraqi.net/article/73353.php