المحرر موضوع: تقديس التاريخ والبشر أم صناعة الحياة  (زيارة 319 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل لويس إقليمس

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 426
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
تقديس التاريخ والبشر أم صناعة الحياة
لويس إقليمس
بغداد، في 10 تشرين ثاني 2020
كنّا دومًا نقول ونردّد، إنّ في العراق خزينًا واسعًا من الأفكار والقيم والرؤى التي يمكن الاعتماد عليها في صنع حياة جديدة لأبناء العراق ومشاركتهم للإنسانية جمعاء في البناء المعاصر الشامخ الذي يمكن أن يشكّل قاعدة معيارية مستقبلية لإعادة بناء الشخصية العراقية وفق مقاييس وطنية تجابه العصر والحاجة والظرف بعد جرفها مرغمةً بطوفان التبعية والولائية والتقديس العبثي المفرط لأشخاص ومسمّيات ومراسم ومظاهر دخيلة وغريبة لا ترقى لتاريخ الوطن الحضاري والثقافي والتعددي. فالمغالاة في أية مظاهر "تقديسية" للفرد أو الجماعة أو الدين أو المذهب أو الطائفة أو القومية أو العشيرة أو القبيلة وما سواها من مفردات دونية أو فرعية ثانوية هي في نظر القيم السماوية المقدَّسة (بفتح الفاء) خروجٌ عن طاعة خالق السماء والأرض والعناصر. فهو وحده هو القدّوس الطاهر ولا أحدَ سواه، إلاّ ما يخصّ الأوطان الطيبة التي تحتضن البشر القاطنين فيها والمستغيثين بها والمعتاشين عليها بفضل نعم السماء ورحمة الله الخالق الواسعة. وأية محاولة أو انجرار باتجاه إضفاء صفة "القداسة" و"المقدَّس" لأية مسميات أخرى لغير الله بقدرته الجبارة والأوطان بخيراتها الفياضة، بما فيها من مسميات بشرية ضعيفة ومواقع مستحدثة للعبادة والزيارة، هي خروجٌ عن إرادة الله القدير الماسك الأرض والسماء بيديه دون سواه. بل يُعدّ ذلك عبثًا ومساسًا بصفة لا تليق إلاّ بالخالق العظيم وأوليائه وقدّيسيه الأصفياء، بعد أن انتشرت مؤخرًا صيحات نشاز تُسبغ سمة "المقدَّس" على بشرٍ وأضرحة لا شأنَ لها بأضرحة الأئمة والقدّيسين الذين أكرمهم التاريخ ومنحهم حقّ حمل هذه الصفة حصرًا، حفظًا لكرامتهم وتقديرًا لمنزلتهم التاريخية وعلوّ شأنهم بين البشر بفضل أعمالهم الطيبة وكراماتهم.
صناعة الحياة
مربط المقدمة يترافقُ مع مقترح رائع لأحد الزملاء في نخبة اقتصادية متميزة في تغريدة أخرجها بكلّ جدارة وجرأة نابعة عن حرصٍ وطنيّ غير مشكوكٍ فيه. وفي حالة تطبيقه سيكون له شأنٌ في إعادة بناء الشخصية العراقية وزرع بذور التنوير في صفوف الشعب اللاّهث وراء ترّهات وتقاليد غير منتجة في حياته عندما يجري تعطيل الحياة قسرًا في مناسبات الزيارة الأربعينية لأخوة الوطن من أبناء المذهب الشيعي وغيرها من مناسبات مذهبية ولأيام عديدات، كما هي الحال هذه الأيام في تقليد استفزازيّ لمناسبة زيارة الإمام موسى الكاظم. ففي هذه الزيارات المليونية غير الحضارية التي تتقاطع مع العقل والحكمة والمنطق، صارت تتأثر بها مصالح الوطن والناس على السواء، لأنها تجري بغير مسوّغ ولا حقّ، بل  أصبحت تُفرض على عموم الناس ورغمًا عن الجميع. وفي هذا السلوك غير المسوّغ، الشيءُ الكثيرُ من انتهاكٍ لحقوق الناس واغتصابٍ لحريات باقي المكوّنات أو حتى لشرائح كبيرة من أبناء ذات المذهب الذين ينساقون إليها تماهيًا مع الدعاة إليها، حتى في حالة إدراكهم انسياقَها لأخذ مسارات وأشكالًا غير حضارية، ومع ما تسببه من اختناقات مرورية بسبب قطع طرقٍ لتأمين مسيرات الزوار البسطاء السذّج المعتقدين بما لا يفقهون به أو يدركونه. هذا إذا أضفنا إلى هذه جميعًا ما تعانيه مؤسساتُ الدولة العراقية طيلة فترة المناسبة من شللٍ شبه مطبق يُضفي ضعفًا على هيبتها المسلوبة أصلاً ويلقي بظلاله على وسائل تنمية اقتصاد البلاد المترنّح. وهذا ما يتطلّبُ تنضيجَ الأفكار وتنوير البسطاء من الناس الذين ينساقون كالخراف بلا روية ولا تفكير ولا تمحيص وراء دعوات وتحريضات دعاة تكريس التخلّف وإبقاء البشر أسرى مثل هذه التقاليد الاستهلاكية المتخلفة التي لا تخرج عن سمة التبعية الساذجة لأولي الأمر بدعوى "التشوير" في حالة رفض المشاركة أو عدم الانصياع للضرورة المذهبية التي يعدّها هؤلاء جزءً من سلوكيات إيمانية لا بدّ منها لبلوغ المرام وحصول الكرامات وتعزيز القدرات وإنفاذ سلطة الحكم.
    فكرة هذا الزميل المبدع في أفكاره، تنبع من مداركه الواسعة ورؤيته الوطنية الطيبة بتطرقه العملي لإمكانية تغيير شيءٍ كثيرٍ من مظاهر "التقديس" غير المجدية الجارية في مناسبات الزيارات المليونية إلى المدن "المقدسة!". وقد تنفع الفكرة أيضًا، حين تطبيقها في غيرها من الزيارات والمناسبات الشعبية عند سائر المكوّنات الأخرى في جنوب العراق ووسطه وشماله حتمًا، في حالة وجود الإرادة الكافية لتحويل مثل هذه المناسبات إلى أدوات لشحذ همم الزوار وتوجيههم باتجاه "صناعة الحياة" عبر المبادرة بزرع نخلة نادرة أو شجرة مثمرة لكلّ زائر في الأراضي التي يجتازُها الزائر للوصول إلى المواقع المقصودة. وبذلك نكون قد حوّلنا الصحراء والأراضي البور إلى مزارع وارفة وحدائق خضراء مثمرة، وأعدنا البلاد لتكون "أرض سوادٍ" من جديد تختال بخضرتها وتطيبُ بثمرتها لتضيفَ عوائد غير مسبوقة لخزينة الدولة تعزيزًا لاقتصاد البلاد المنهار. ولنا في مبادرة الفتاة الكردية في شمال الوطن بكردستان، ومثيلتُها التي أقرتها حكومة رئيس الوزراء الأثيوبي "آبي" مؤخرًا، خير نموذج لزرع بذور الأمل بين الحكومة والشعب وتعزيز أدوات جديدة لإدامة تعظيم الثروات والعمل على تنظيف المناخ.
ولأجل بلوغ هذه الغاية، لا بدّ من تكاتف الجهود الجماعية والتوعوية عبر مواقع التواصل الاجتماعي المتعددة وجهاتٍ ذات قدرة في التأثير على إرادة الزوار وسلوكياتهم، ومنها المرجعيات الدينية المتنورة والمتمدنة وأدواتُها المنفتحة بالتعاون مع أجهزة الدولة في الوزارات والمؤسسات المعنية والدوائر الإعلامية والمنظمات الجماهيرية المدنية التي يمكنها التكفّل جميعًا بإدامة هذه المبادرة عبر تهيئة مستلزماتها وضمان متابعة إروائها ونموّها بما هو متيسر ومتاح من أجهزة ريّ متطورة. وبتطبيق هذه المبادرة الرائدة يكون الزائر المؤمن والمواطن الناضج قد ساهم روحيًا بشيء من إيمانه بمعتقده بدل إسباغ صفة القداسة اعتباطًا على الحجر والبشر وترسيم خطوط حمراء على تقاليد ومظاهر استهلاكية غير منتجة بل خارجة عن سمة التحضّر والتمدّن في عصرٍ مضنك لم يعدْ في مقدوره القبول بتخريفات وتأويلات وأحاديث وطرائف عفا عليها الزمن، لاسيّما بعد أن اجتازَ البشر مرحلة العولمة إلى سارية الرمز الرقمي الذي يتحكم اليوم في كلّ شيء وأيّ شيء.
من هنا، نقول إنّ حاجات الإنسان المتغيرة تقتضي اليوم التزام رؤية جديدة في النظر إلى الحياة المعاصرة، إلى "صناعة الحياة" وليس بالتراجع المتقهقر إلى تاريخٍ أصبح من الماضي ولم يعد مقبولاً إعادةُ توليفه وإنتاجه بوسائل غير حضارية فيها الشيء الكثير من مظاهر الغرابة في التقديس والاستهلاك غير المبرّر وفي البذخ الذي يحضّ لأشكالٍ جديدة من أدوات الفساد. فهذه، كما نشهد جميعًا، صارت تكلّف الدولة والشعب أوقاتًا ضائعة ومبالغ مهمّة، هي والشعب بأمسّ الحاجة إليها لإعادة بناء المؤسسات المتخلفة المنهارة، ولاسيّما التربوية والتعليمية منها، والتي هي السبب الرئيس بالهرولة باتجاه إبقاء زخم هذه الممارسات غير المنتجة وإدامة تدويرها بشكلٍ كارثيّ سنة بعد أخرى بالرغم من تحوّلها إلى تقاليد استهلاكية متخلفة لا تمتّ بصلة إلى عمق الإيمان والاعتقاد.
للحاضر همومُه
يكفينا التعظيم بالماضي الآيل الذي يمكن فقط استنباطُ أفضل الدروس منه وأيسرها بغية إصلاح الذات والمجتمع والدولة على ضوء نتاجات الأمس وليس بتدوير محتواها ومظاهرها التي لم تعد تنفع مع تقدم العصر وتزايد الحاجة إلى وسائل أخرى تساهم في بناء كيان النفس البشرية بمظاهر إيمانية أكثر مقبولية وأكثر تمدنًا.  فالحاضر أهمُّ من الأمس. ولكلّ زمنٍ همُّهُ. فما يمكن أن تقدّمه هذه وبدائلُها الحضارية من اجل تقدم المجتمع وتطور مدنه وبلداته والسيرالصحيح والحثيث نحو سلّمِ رقيّ الوطن ورفعته بين الأمم وشعوب ودول العالم، هي الأَوْلى بالسمع والطاعة. كما أنّ الإيغال غير المتمدّن في جزئياتٍ من هذه الممارسات الاستهلاكية غير المنتجة عندما تطغى على قدرات العقل وتسلبها إرادتها وفكرها وتمحيصها، فإنها بالنتيجة تقود العقل والعقلاء إلى مرافئ الجهل والتخلّف. حينئذٍ تتضاعف تكاليفُ الجهل ويصعب معالجتُه إلاّ بالكيّ، وهو آخر العلاج.
عندما سُئلت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل يومًا عن فحوى الإنفاق الكبير على المعرفة والعلم والعلماء، ردّت بأنّ تكاليف الجهل أكثر بكثير من تكاليف المعرفة، داعية إلى ضرورة "تهديم أسوار الجهل وضيق الأفق، لأن لا شيءَ يبقى على حاله". هكذا الشعوب التي خرجت من نفق التخلّف والجهل، وجدت تقدمها وتطورها باستقلال إرادتها ونضج تفكيرها وحداثة تصوراتها الإيمانية، وليس بالطاعة العمياء والسلوكيات غير الحضارية التي تضرّ بقدر ما تنفع.