مقدمة في الديانات الابراهيمية
المرحلة الثانية
علي الابراهيميانّ المجتمع السابق على نوح لم يخلُ من المؤمنين الذين حفظوا عقائد السابقين , وهذا ما أفاده نص يشرح ايمان ( لامك ) ابي ( نوح ) النبي ) : (( وَعَاشَ لاَمَكُ مِئَةً وَاثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَوَلَدَ ابْنًا. * وَدَعَا اسْمَهُ نُوحًا، قَائِلاً: « هذَا يُعَزِّينَا عَنْ عَمَلِنَا وَتَعَبِ أَيْدِينَا مِنْ قِبَلِ الأَرْضِ الَّتِي لَعَنَهَا الرَّبُّ » )) . لكنَّ نوحاً اوجد اولى المجتمعات الايمانية الجلية , والتي ظهر فيها ( التدين ) كجزء اساسي في الحياة , بل ترتبط به كافة النشاطات الاخرى , كما هو واضح في يوميات وقوانين واعراف المجتمع السومري التي ثبتت علميا .
ان القرآن الكريم يوضح لنا مدى التغير الجذري في مجتمع نوح ( بعد الطوفان ) , والذي جعل الله تعالى يباركهم ويجزل نعمته عليهم :} قِيلَ يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } (سورة هود: ٤٨) . وكانت النتيجة الطبيعية ان يكون هؤلاء هم ورثة المشروع الالهي الايماني : } فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ } (سورة يونس: ٧٣) .
لقد التزمت الأديان الإبراهيمية مسمى ( نوح ) لبطل قصة الطوفان التاريخية ، فيما اعتمدت النصوص الآثارية تسميات ( اوتو نبشتم ) و ( زيوسدرا ) ، لكن يبقى المعنون واحداً بحسب القراءة المقارنة للنصوص .
تأثيرات التكوين الفكري في ترجمة النص الآثاري
قراءة نقدية لنصوص الآثاري ( صموئيل نوح كريمر )
الصراعات الايدلوجية بين معتنقي الاديان وكذلك بين معتنقي الافكار جعلت تزوير الحقائق التأريخية امراً مألوفا وخطيرا وشائعا , لا سيما ان معظم تأريخ البعثات التنقيبية في العراق ادارته الماكنة اليهودية منذ القرن الثاني عشر على يد احد الحاخامات ( بنيامين بن يونس ) وحتى القرن العشرين ( صموئيل نوح كريمر ) , لذلك كان من اللازم على الباحث ان يتحلى بذوق وحس خاصين لتمييز الحقيقي عن غيره , او على الاقل لرسم ملامح عامة للحقيقة . ولعل تبني اليهود منذ قرون دراسة الآثار العراقية شكل تهديدا واقعيا لتأريخ وحضارة هذا البلد .
ان المؤسسات والمراكز التي أشرفت على بعثات التنقيب في العراق ومصر أخفت الكثير من المكتشفات الآثارية , وربما غيبت المهم من الحقائق . فيما الاثاريون الغربيون ترجموا النصوص السومرية والمصرية بشكل متأثر باعتقاداتهم وتصوراتهم الشخصية وبيئتهم المحيطة يهودية او مسيحية في أحسن الأحوال . وربما ان هؤلاء العلماء لم يكشفوا الا اقل القليل مما وجدوا . لذلك هم قاموا بتشويه الحقيقة التي لم ادرك انا شخصيا الا بعض ملامحها .
المكتشفات الاثرية اليوم مساهم كبير وخطير في قراءة التاريخ ، الا انها تعاني عدة سلبيات أيضاً ، منها الاحتكار لهذه الكنوز من قبل دول ومؤسسات لها سياسات واهداف ، ومنها ايضا الترجمة المختلفة والمضطربة لتلك النصوص والرموز الآثارية ، حيث انّ الأغلب منها ترجمته مؤسسات غربية تفتقد للرؤية الشرقية التي كتبت تلك النصوص ، ولا تملك العقل الفلسفي للإنسان الشرق أوسطي المُتَرجَم له ، كما انها تنطلق في ترجمتها من احكام وقناعات مسبقة أسقطتها على جوهر النص .
لذلك كله كان من الضروري ان ينطلق الباحث وهو يدرك كل ذلك ، محاولاً إيجاد الحلول لهذه الاشكالات ، ولعلّي رأيت انّ المقارنة على عدة ابعاد هي الحلّ الأمثل لترتيب الملامح في الصورة التاريخية ، كما يكون التوافق بين النص الآثاري والنص الديني عاملاً مساعداً في دعم الأفكار ، فيما تكون الروايات الشعبية في حال توافقها مع احد النصين الآثاري او الديني او كليهما أمراً معززاً للقناعة ودليلاً شبه حاسم .
من هنا كنت أفضِّل دائماً كتابة التاريخ بما يشبه القصة الواحدة - وهو كذلك فعلا - ، او اعادة جمع اجزاء الصورة لتشكيل اللوحة الانسانية . حيث لم تستسغ طبيعتي الفكرية العزل الذي يمارسه الباحثون لتاريخ الحضارات ، وقرّرت انّ هذا المنهج سيسلب جوهر الحركة التاريخية .
كان هناك على الدوام تعمّد واضح في إفقاد بعض الشعوب لهويتها ، من خلال قطعها عن ماضيها الحضاري ، وكانت الى جانب ذلك رغبة غير موضوعية في إيجاد تاريخ له ملامح تمّ تخليقها في مختبرات خاصة ، لإيهام البشرية انّ هناك جنساً واحداً متفوقا .
ان هدف هذه القراءة المساهمة في اعادة قراءة المشهد التاريخي لحضارتنا ، وتنقية الموروث الآثاري من شوائب الترجمات - وبالتالي التصورات - الخاطئة او المشكوك في صحتها ، بما يمكّن القارئ من فهم واقعي ومنطقي للمعتقد السومري بصورة خاصة ، بعد تناولي للمعتقدات المصرية القديمة في مؤلف اخر تحت عنوان ( صراع الحضارتين ) .
انني كباحث اعتمد الربط المنطقي للحدث وأجمع بين المصادر ، وأحاول قراءة الموروث التاريخي من خلال آليتين ، الاولى علمية فكرية ، والأخرى خيالية تصورية ، بمعنى أني حاولت مراراً ان أعيش زمان الحدث وموقفه ، وان أفكّر بذهنية كل شعب وكل قرن ، لأنّ قراءة الحدث التاريخي بعقلنا المعاصر خطأ كبير ، فربّما لم يُرِد إنسان ذلك العصر المعنى الذي نفهمه اليوم .
انّ المادة الآثارية واحدة من حيث الأصل ، والمنهج العلمي كذلك متفق عليه عند استعراضها ، لكنّ المختلف فيه هو ( الترجمة ) ، التي تتأثر في البيئة العلمية بالخلفية الثقافية والتكوينية لعقل الباحث ، لهذا ما نحاول نقده وإعادة صياغته ليست المادة الآثارية ، بل الترجمات الشخصية لها .
ان العالِمَين ( صموئيل نوح كريمر ) و ( ياروسلاف تشيرني ) من اهم وأشهر الآثاريين الذين اشرفوا على البعثات التنقيبية في العراق ومصر ، وكانت منتجاتهما البحثية أساساً لمن جاء بعدهما ، خصوصاً ان ( كريمر ) قد أسس لقسم السومريات ( الاشوريات ) في جامعة بنسلفانيا الامريكية ، التي تبنت ترجمة العديد من النصوص السومرية ، فيما وجّه ( تشيرني ) بوصلة التفاسير الخاصة بالمعتقد المصري . لذلك اخترت كتابيهما ( السومريون ) و ( الديانة المصرية القديمة ) نموذجاً للبحث والتحليل .
انّ الحضارة السومرية هي لاشك اقدم الحضارات البشرية واصلها ، لهذا كان من المناسب أولاً تناول كتاب ( السومريون ) بالنقد والتحليل ، لكنّي تناولت مسبقاً مباحث من كتاب ( الديانة المصرية القديمة ) لأسباب عديدة ، منها انني رغبت بضم ترجمات عراقية للألواح السومرية ، وهذا ما احتاج الى وقت وإعداد . وهنا سنأخذ كتاب ( كريمر ) الموسوم ب ( السومريون ، تاريخهم وحضارتهم وخصائصهم ) مادة للقراءة والبحث ، توخياً لنتائج تناسب ما نعتقده من وعي سومري مميز ، اقرّ به ( كريمر ) ، لكنّه حين الترجمة كان ينطلق من زوايا تحصر العقل السومري في نطاق البدائية .
الكوسمولوجيا السومرية والترسبات السوسيولوجيّة لدى كريمر :
انّ كتاب ( السومريون ) كبير من حيث المادة ، ومتنوع من حيث المواضيع ، لذلك ارتأيت - لأنني في إطار بيان المعتقدات - تناول الفصلين الرابع والخامس منه ، الخاصين بالديانة والأدب .
وقد ابتدأ كريمر اول قصيدته كفراً ، حيث افترض مسبقاً انّ النظريتين ( الكونية ) و ( اللاهوتية ) ليستا سوى استنباط فكري من قبل العقل البشري السومري . وهو - رغم اعجابه الواضح واعترافه باشتراك هذه النظريات مع عقائد الأديان الإبراهيمية - الّا انه يرى أصلهما ناشئاً عن تأملات السومريين للطبيعة والكون وطريقة عملهما . فيقول : ( لقد طوّر السومريون خلال الألف الثالث قبل الميلاد افكاراً دينية ومفاهيم روحية تركت في العالم الحديث أثراً لا يمكن محوه ، وخاصة ما منها عن طريق الديانات اليهودية والمسيحية والإسلام . فعلى المستوى العقلي استنبط المفكرون والحكماء السومريون ، كنتيجة لتأملاتهم في اصل وطبيعة الكون وطريقة عمله ، نظرية كونية واُخرى لاهوتية كانتا تنطويان على ايمان راسخ قوي بحيث أنهما اصبحتا العقيدة والمبدأ الاساسيين في اغلب أقطار الشرق الأدنى القديم ) .
انّ عبارة ( ... كنتيجة لتأملاتهم في اصل وطبيعة الكون وطريقة عمله ... ) ليست جزءاً من المادة الوثائقية الآثارية كما هو واضح ، إنما هي وجهة نظر شخصية من العلامة كريمر ، ناشئة عن تصوّر خاص انطلق منه في رؤيته للنص الآثاري ، وهو ما سنناقشه في الغالب ضمن البحث ، وسنتعامل مع التصوّرات المستندة الى الأسس العلمية الحديثة ، كما سنعتمد - كشرقيين اقرب الى الذهنية السومرية - الفلسفة الأكثر توافقاً مع ما ترسمه الوثيقة السومرية ، لاسيما حين نعي انّ المجتمع السومري كان متحضراً جداً ومتقدماً في المجال الفكري .
فكريمر - كنتيجة متوقعة لخلفيته الثقافية - لم يشأ ان يفترض - في احتمال معتد به وله ما يقويه من الاستدلالات - انّ هذه النظرية الكونية اللاهوتية السومرية الإبراهيمية المشتركة قادمة من اصل واحد ، هو الأصل السماوي ، بمعنى انّ كريمر انطلق في توصيفه من الارض ، في حين كان يُفترض ايضاً ان يجرِّب الانطلاق من السماء .
انّ ما يضعف التصور الافتراضي لكريمر هو انه لم يكشف لنا عن الالية التي انتقلت بها هذه العقائد من السومريين الى الديانات الإبراهيمية ، هل تم هذا الانتقال عن طريق اكتشاف مؤسسي هذه الديانات الكبرى لآثار السومريين والواحهم المكتوبة ، وهذا ما لا اعتقد ان كريمر يراه مناسباً ، او ان هذا الانتقال كان ذهنياً يسري عن طريق الاعتقاد الاجتماعي المتسلسل ، وهنا يمكننا الافتراض ايضاً بأنّ السومريين اخذوا معتقداتهم هذه عن طريق طرف ثالث سبقهم ولم نعرف حضارته بعد ، او انه السماء التي خاطبتهم جميعا .
ومن اجل مثال عملي لمدى تأثير الخلفية المعرفية المحدودة لكريمر جهة فهمه للنص السومري يمكننا استقطاع بعض من تفسيره لوجود المادة ( ليل = lil) في القاموس السماوي للسومريين : ( وكانوا - السومريون - يقرون بوجود مادة بين السماء والأرض أطلقوا عليها " ليل = lil" وهي كلمة معناها التقريبي ، ريح ، هواء ، نفس ، روح ، ويبدو انّ اكثر خصائصها أهمية هي الحركة والامتداد ، ولذلك يضاهي بوجه التقريب كلمتنا " الجو " . وكان يعتقد ان الشمس والقمر والكواكب والنجوم مكونة من نفس مادة " الجو " الّا انها علاوة على ذلك وهبت قدرة على الإشراق . ويحيط بال " سماء - ارض " من جميع الجوانب ، بما في ذلك من الأعلى والأسفل ، البحر اللامتناهي الذي يظل فيه الكون ، بطريقة ما ، ثابتاً وبلا حركة ) .
لكن ماذا لو اعطينا هذه الصورة السومرية للكون الى فيزيائي مثل ( ستيفن هوكينج ) ، ماذا سيتبادر الى ذهنه حينها ، يمكننا معرفة ذلك من خلال احدى اعتقاداته القريبة جداً للرؤية السومرية : ( فلابد ان تشمل مجرتنا والمجرات الاخرى على كميات كبيرة من " مادة داكنة " لا يمكننا رؤيتها مباشرة لكننا نعلم انها لابد ان تكون هناك بناءً على التأثير الذي تمارسه قوى جاذبيتها على مدارات النجوم في المجرات الحلزونية ، مثل مجرتنا درب اللبانة ، فهذه النجوم تدور حول مجراتها بسرعة اكبر مما لو بقيت تظل في مداراتها تحت تأثير قوى جاذبية النجوم المرئية في المجرات فحسب . والى جانب ذلك فان معظم النجوم تشكل تجمعات ، الامر الذي يمكننا من التنبؤ بوجود كثير من " المادة الداكنة " فيما بين المجرات في هذه التجمعات ، وذلك بدراسة تأثيرها في حركة بعضها بعضا ) .
وفي الرؤية الدينية أورد القران الكريم ما نصّه ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) . وقد أورد المجلسي في بحار الأنوار ( " بغير عمد ترونها " قال الرازي : في قوله " ترونها " أقوال : ... الثالث أن قوله " ترونها " صفة للعمد ، والمعنى : بغير عمد مرئية أي للسماوات عمد ولكنا لا نراها ، ... وعندي فيه وجه آخر أحسن من الكل ، وهو أن العماد ما يعتمد عليه وقد دللنا على أن هذه الاجسام إنما بقيت واقفة في الجو العالي بقدرة الله فحينئذ يكون عمدها هو قدرة الله تعالى فصح أن يقال رفع السماوات بغير عمد ترونها أي لها عمد في الحقيقة إلا أن تلك العمد هي إمساك الله تعالى وحفظه وتدبيره و إبقاؤه إياها في الجو العالي وأنتم لا ترون ذلك التدبير ولا تعرفون كيفية ذلك الامساك " انتهى " . واقول : هذا الوجه الاخير الذي يتبجح به ونسبه إلى نفسه أورده شيخنا الطبرسي ره في مجمع البيان راويا عن ابن عباس ومجاهد ) .
ولا نستغرب عدم استيعاب كريمر للرؤية العلمية السومرية للكون ، لأسباب منها : الافتراضات المسبقة التي ترى ان السومريين شعب بدائي ، وعدم استساغة ثبوت وجود نظريات علمية ضخمة في الازمان الغابرة ، وعدم معرفة كريمر لتنظيرات علم الفلك الحديث الذي انطلق في الفترة التي اعقبت إصداره لنصوصه .
ومن هنا نستطيع معرفة ان عبارة كريمر القائلة : ( لم يكن تحت تصرف الفلاسفة والمفكرين السومريين ، اذا تحدثنا من الناحية العملية سوى اكثر الأفكار بدائية وسطحية عن الطبيعة والكون وطريقة عمله ) تنطبق على كريمر وحده لا على الحكماء السومريين .
وهو لهذا لم يستطع حتماً تفسير نص سومري لم يحن اوان تفسيره في تلك الفترة من تاريخ المعرفة ، فكتب عن ( اصل وتركيب الكون ) عند السومريين قائلاً : ( ومن هذه الحقائق الاساسية المتعلقة بتركيب الكون - وهي حقائق كانت تبدو للمفكرين السومريين جلية لا جدال فيها - طوروا نظرية في اصل الكون تتلاءم معها . فقد استنتجوا بأنّ هناك أولاً " البحر الاول " . وتشير الدلائل الى انهم كانوا ينظرون الى ذلك البحر على انه اول سبب وأهم محرك ، ولم يسألوا أنفسهم قط عما قد سبق البحر في الزمان والمكان . وفي هذا " البحر الاول " ولد بطريقة ما الكون - اي " السماء - ارض " - المكون من قبة السماء التي وضعت فوق ارض منبسطة ومتصلة بها . الّا انه حلّ بينهما " الجو " المتحرك المتمدد الذي فصل السماء عن الارض وتولدت من هذا " الجو " المجموعة النيرة من الاجرام ، وهي القمر والشمس والكواكب والنجوم . وبعد فصل السماء عن الارض وخلق المجموعة النجمية المضيئة ظهرت الى الوجود الحياة النباتية والحيوانية والبشرية ) .
ومرة اخرى نرجع الى النظرية الكونية المعاصرة والقائمة على الأسس المعرفية الحديثة لنرى حكمها وتفسيرها للنص السومري : ( في الواقع تشترك جميع حلول معادلات أينشتاين التي تتضمن كمية المادة المرئية في الكون ، في شيء مهم واحد : في لحظة ما من الماضي " منذ ١٣،٧ بليون سنة " لابد ان تكون المسافة بين المجرات المتجاورة مساوية للصفر . وبعبارة اخرى كان العالم محصوراً في نقطة مفردة حجمها صفر ، مثل كرة نصف قطرها صفر ، في هذا الوقت كان لابد لكثافة العالم وتحدب الزمكان ان يكونا لانهائيين ، وهو الوقت الذي نطلق عليه " الانفجار الكبير " " TheBigBang" ) .
فيما يقول ريتشارد موريس : ( وأود إذن ان اؤكد على ان البرهان على ان الكون قد بدأ بانفجار كبير منذ ما يقرب من خمسة عشر الف مليون سنة ، ما زال يبدو برهاناً ساحقا ) .
ومن هنا نرى ان السومريين كانوا اعرف من كريمر بقصة تشكّل الكون ونشأته ، وفقاً لشهادة العلم الحديث ، والتي تلت الحقبة العلمية التي عمل فيها هذا الباحث . وهو الامر الذي يتناسب مع عقيدة الأديان الإبراهيمية حول اصل الكون ، لهذا نجد ايضاً انّ ( البحر الاول ) كان له في الكتب السماوية المقدسة ذكر ايضاً : ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) .
وفي خطبة لعلي بن ابي طالب في نهج البلاغة ورد في وصف بدء الخلق : ( أَنْشَأَ الْخَلْقَ إِنْشَاءً وَابْتَدَأَهُ ابْتِدَاءً بِلَا رَوِيَّةٍ أَجَالَهَا وَلَا تَجْرِبَةٍ اسْتَفَادَهَا وَلَا حَرَكَةٍ أَحْدَثَهَا وَلَا هَمَامَةِ نَفْسٍ اضْطَرَبَ فِيهَا أَحَالَ الْأَشْيَاءَ لِأَوْقَاتِهَا وَلَأَمَ بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا وَغَرَّزَ غَرَائِزَهَا وَأَلْزَمَهَا أَشْبَاحَهَا عَالِماً بِهَا قَبْلَ ابْتِدَائِهَا مُحِيطاً بِحُدُودِهَا وَانْتِهَائِهَا عَارِفاً بِقَرَائِنِهَا وَأَحْنَائِهَا ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ فَتْقَ الْأَجْوَاءِ وَشَقَّ الْأَرْجَاءِ وَسَكَائِكَ الْهَوَاءِ فَأَجْرَى فِيهَا مَاءً مُتَلَاطِماً تَيَّارُهُ مُتَرَاكِماً زَخَّارُهُ حَمَلَهُ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ وَالزَّعْزَعِ الْقَاصِفَةِ فَأَمَرَهَا بِرَدِّهِ وَسَلَّطَهَا عَلَى شَدِّهِ وَقَرَنَهَا إِلَى حَدِّهِ الْهَوَاءُ مِنْ تَحْتِهَا فَتِيقٌ وَالْمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا دَفِيقٌ ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ رِيحاً اعْتَقَمَ مَهَبَّهَا وَأَدَامَ مُرَبَّهَا وَأَعْصَفَ مَجْرَاهَا وَأَبْعَدَ مَنْشَأَهَا فَأَمَرَهَا بِتَصْفِيقِ الْمَاءِ الزَّخَّارِ وَإِثَارَةِ مَوْجِ الْبِحَارِ فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ السِّقَاءِ وَعَصَفَتْ بِهِ عَصْفَهَا بِالْفَضَاءِ تَرُدُّ أَوَّلَهُ إِلَى آخِرِهِ وَسَاجِيَهُ إِلَى مَائِرِهِ حَتَّى عَبَّ عُبَابُهُ وَرَمَى بِالزَّبَدِ رُكَامُهُ فَرَفَعَهُ فِي هَوَاءٍ مُنْفَتِقٍ وَجَوٍّ مُنْفَهِقٍ فَسَوَّى مِنْهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ جَعَلَ سُفْلَاهُنَّ مَوْجاً مَكْفُوفاً وَعُلْيَاهُنَّ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَسَمْكاً مَرْفُوعاً بِغَيْرِ عَمَدٍ يَدْعَمُهَا وَلَا دِسَارٍ يَنْظِمُهَا ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ وَضِيَاءِ الثَّوَاقِبِ وَأَجْرَى فِيهَا سِرَاجاً مُسْتَطِيراً وَقَمَراً مُنِيراً فِي فَلَكٍ دَائِرٍ وَسَقْفٍ سَائِرٍ وَرَقِيمٍ مَائِرٍ ) .
والسومريون لم يسألوا أنفسهم ( عما قد سبق البحر في الزمان والمكان ) - كما عبّر كريمر - لأنهم ربما كانوا يحملون ذات العقيدة التي حملها المسلمون من وجود خالق واحد أفاض هذا الكون برمته . وهو ما أشار اليه القران الكريم في قوله : ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ) .
وبالتالي ليست هذه النظرية فريدة وحيدة في شعب سومر ، بل اتفقت مع الرؤية العلمية للقرن الواحد والعشرين كما أثبتنا ، وكذلك مع الاعتقاد الاسلامي المحض الذي مثَّله علي بن ابي طالب . ولا تجتمع هذه الرؤى الثلاث بمحض الصدفة طبعاً ، ولا يمكن القول ان المسلمين قد عثروا على الألواح السومرية قبل كريمر ، او انّ العلم الحديث أخذ عنهم جميعا ، بل من الواضح انّ السومريين والمسلمين اخذوا عن جهة عالمة ، فيما أخذ العلم الحديث بالأسباب الطبيعية للمعرفة ، فكانت المحصلة انّ نظرية السومريين حول نشأة الكون أسمى مما يعرفه مترجم حضارتهم العلّامة كريمر .
بقي انّ الماء هو الأصل الذي انبثقت عنه معالم الكون في عقيدة السومريين والمسلمين ( وروح الله يرفّ على وجه المياه ) ، لكنّ وجوده وماهيته وكيفية كونه أصلاً لم تثبت الى الان من جهة العلم الحديث ، وهو امر ليس بالمشكل كثيراً ، فالعلم الحديث لم يكن يعرف وجوداً لنظرية الانفجار العظيم ذاتها قبل عام ١٩٢٧ حين قدّم الكاهن الكاثوليكي البلجيكي ( جورج لومتر ) فرضيته الى المحافل العلمية ، لتعزز لاحقاً باكتشافات العالم ( إدوين هابل ) ، وبالتالي قد نجد العلم مستقبلاً موافقاً للسومريين والمسلمين في نظرية ( الأصل المائي ) .