المحرر موضوع: الجذور النهرينية لسلالم الموسيقى العالمية  (زيارة 1788 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل الأب نويل فرمان السناطي

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 169
    • مشاهدة الملف الشخصي
الجذور النهرينية لسلالم الموسيقى العالمية

مقابلة أجراها ا. نويل فرمان السناطي
مع الموسيقية السورية سلمى ن. قصاب حسن
كالكري/ كندا

كانت مفارقة متفردة؛ إذ حصلت في مناسبة عابرة وقلما تتكرر، وهي في توديع شخصية صديقة مشتركة؛ ومنذئذ صارت تعزف لقداديس دورية في رعيتي بكنيسة سانت فاميي -العائلة المقدسة- للكنديين الفرنسيين.   هكذا تعرّفت على سيدة، تبيّن مع التواصل، أنها بهذا العمق المعرفي التاريخي الموسيقى. وهكذا رأيت أن أجري معها هذه المقابلة، وفي النهاية أدرج بعض الروابط عن عدد من أعمالها: موسيقا وكلمات وتوزيع أغنية الحب المعتق عن دمشق عاصمة الثقافة العربية، تأليف وتلحين أغنية (أنت إنسان وأنا إنسان) بأداء مجموعة مكفوفين تأليف "حكايا الموسيقا " سلسلة تعليمة للأطفال، وغير ذلك، وقبل أن أتناول معها البحث الذي قدمته عن الأصول الموسيقية لبلاد ما بين النهرين، أبدأ بأن أطلب من الباحثة الموسيقية سلمى، أن تقدم نفسها:


سلمى: أنا من مواليد دمشق 1947. سافرت في بعثة إلى براغ (التشيك) لمتابعة دراسة الموسيقا والحصول على شهادة عُليا في العزف على البيانو وتدريسه. عملت منذ عام 1976 وحتى عام 2018 في تدريس عزف البيانو  في المعهد العالي للموسيقا بدمشق، وفي تقديم حفلات ومحاضرات في التذوق الموسيقي، وأسست أوركسترا موسيقا الحجرة وكورال مدرسة البشائر الوطنية. كما ألفت منهاجاً لتدريس الموسيقا وأغنيات ومسرحيات للأطفال واليافعين.  عام 1993 أسست مجلة الحياة الموسيقية التابعة لوزارة الثقافة وترأست تحريرها  لمدة ٩ سنوات .

في بحث سلمى قصاب حسن: السلّم الموسيقي السباعي الدياتوني
 من “إشارة” إلى “عجم” إلى “إيوني” إلى “ماجور”
[/b]

سؤال- ونستأنف بهذا السؤال، إليك أطال الرب في عمرك: ماذا كان الهدف من هذا البحث الموسيقي التاريخي المتفرد [السلّم الموسيقي‪ ‬السباعي الدياتوني من “إشارة” إلى “عجم” إلى “إيوني” إلى “ماجور”] ؟‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
جواب-
  أعتقد أنني من الموسيقيين القلائل في جيلي، ممن لا زالوا يمارسون العمل الموسيقي، وعاصروا في سبعينات القرن العشرين في منطقة شرقي المتوسط اكتشافاتٍ أثرية موسيقية هامة مضى أكثر من أربعين عاماً على توثيق نتائجها. ومع أنَّ إعلان هذه النتائج ترافق مع  فورة إعلامية من ندوات وتجارب غناء استمرت لعدة شهور لأنشودة ما أطلق عليه  "العبادة الأوغاريتية" لكني لم ألحظ فيما بعد انتشاراً  يليق بأهميتها خارج دور البحوث الأثرية وبعض دور البحوث الموسيقية. لذلك قمت بطرح نتائجها في هذا البحث  ليطّلع عليها الجيل الجديد من الموسيقيين ويتابعوا نشرها. وللمهتمين والمختصين فإن البحث كاملا موجود في رابط اللينك الاول المرفق.

من قيثارة (أور) مروراً بأوغاريت إلى عصرنا
وبحثي عملياً يعيد تسليط الإضاءة على نتائج دراسات قام بها مجموعة من علماء الآثار والتاريخ والموسيقا على مجموعة رُقم وآلات موسيقية يعود أقدمها الى (القرن 26 ق.م) عثر عليها في شرقي المتوسط، عرّفتنا هذه الدراسات على” أول سلّمٍ موسيقي  سباعي دياتوني .The First Hepthatonic Diatonic Music Scale مكتشف حتى اليوم، وعلى أول دراسة رياضية في تقسيم أبعاده، وأول آلة موسيقية تعزفه "الهارب - قيثارة Lyre – Kithara" ، وأول طريقة "تدوين Notation" موسيقي لأول “أنشودة عبادة ”مدونة في التاريخ ومرتكزة عليه.‬‬‬‬‬
هذه الدراسات تُثبت أسبقية السلّم السباعي الدياتوني المكتشف بشرقي المتوسط بأكثر من ألف عام على نظيره الفيثاغورثي اليوناني الذي يعتقد خطأً أنه أصل الموسيقا العالمية.كما تُحدد أنَّ  سلّمي “إشارة” و “ فيت”  السباعيين الدياتونيين المكتشفين بدوزانهما الطبيعيـن ـ وهما من ضمن مجموعة السلالم السبعة المكتشفة لكننا نركز عليهما بوصفهما أكثر استعمالاً اليوم في العالم-  يتطابقان مع “عجم” ‪و “‬ نهوند” السريانيين  ومع “إيوني ‪“ و‬ أيولي” اليونانيين، وأخيراً مع “ماجور” و “مينور” العالميين، واستُكمل تعديل دوزانهما في القرن الثامن عشر فأخذا اسمي الماجور والمينور المعدّلي‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

س - يلاحظ أن حضرتك تكتبين كلمة موسيقا بالآلف الممدودة بدلا من الألف المقصورة؟
ج – بناء على إرشادات وزيرة الثقافة السورية د. نجاح العطار حين تسلمتُ رئاسة تحرير مجلة الحياة الموسيقية، بأنه قد تم اعتمادها رسميا، بالألف الممدودة...

س- هلا زوّدتـِنا ببعض الشروح عن ماهية السلم الموسيقي عموماً ثم بالتحديد السلم المكتشف الذي تتحدثين عنه، بما في ذلك أن تعرّفي مفردة الـ "الدياتوني" التي وردت في عنوان بحثك.
ج - هذا فعلاً ضروري وسأعطي تعاريف موجزة عما سبق وما سيلحق الحديث عنه من سلالم موسيقية:
- السلم الموسيقي هو الفَلَك الذي تدور فيه مجموعة من النغمات للمؤلف حرية ترتيبها لتصبح لحناً. يوجد عدة أنواع من السلالم الموسيقية الأهم منها، بعد السلم السباعي المُكتشف، هو “السلم الخماسي  Pentatonic, المؤلف من خمس نغمات فقط وما زال مستعملا إلى اليوم في الشرق الأقصى وبعض دول الخليج وافريقيا وموسيقا الجاز.
- ‪“‬السلّم السباعي Hepthatonic المؤلف من سبع نغمات أسماؤها العالمية اليوم هي دو، ري، مي، فا، صول، لا، سي، مع تكرار النغمة الأولى بالأخير.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
- ‪“‬السلّم السباعي الدياتوني ‪,‬ ‪Diatonic وهو السلم السباعي الذي تنقسم أبعاده أو المسافات بين نغماته السبعة إلى أبعاد كاملة وإلى أنصاف أبعاد فقط بدون أرباع أبعاد أو ما شابه. وسنتحدث لاحقاً عن الأبعاد الموسيقية.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
-  ‪“‬السلم الموسيقي السباعي الدياتوني المكتشف في منطقتنا هو سلم  ذو سبع نغمات تنقسم إلى خمس أبعاد كاملة + نصفي بعد.  يمكن بناء سلم جديد من أية نغمة من نغماته فنحصل على سبع سلالم مختلفة. والاختلاف بينها يكمن في  تغيير موقعي نصفي البعد. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
- “Mode مود” في حالة السلم السباعي الدياتوني المكتشف، يعني مجموعة من سبع نغمات لها تسلسل خاص في أبعادها وأنصاف أبعادها، يمكن تكراره انطلاقاً من أية نغمة. تتم أحياناً ترجمة كلمة Mode إلى مقام لكنها في هذا البحث ترد بأحرفنا: مود. فنقول: هذه المقطوعة مؤلفة من سلم سباعي دياتوني من مود (مقام) دو مثلاً.
- تمَّ في أوروبا خلال مئات السنين غربلة السلالم الموسيقية السباعية الدياتونية الواصلة إليها من شرقي المتوسط وعددها سبعة والاحتفاظ فقط باثنين منها وهما:
أولاً:  إشارة أو إيشابو وقد أخذ مع الأيام اسم  العجم السرياني والإيوني اليوناني والماجور (الكبير) العالمي ويمكن تكراره من كل العلامات الموسيقية. وتقسم أبعاده كالتالي:
- سلّم ‪“‬ الماجور ‪“‬Majeur‪,‬ Major بعد، بعد، نصف بعد، بعد، بعد، بعد نصف بعد. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ثانياً:   فيت وقد أخذ مع الأيام  اسم النهوند ثم الأيولي اليوناني والمينور (الصغير) العالمي ويمكن تكراره من كل العلامات الموسيقية. وتقسم أبعاده كالتالي:
-سلّم ‪“‬ المينور  ‪“‬Mineur‪,‬ Minor  بعد، نصف بعد، بعد، بعد،  نصف بعد، بعد ونصف بعد، نصف بعد.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
-سلم “النهوند” : من الضروري جداً ذكر أنه قد أخذ اسمه حتماً من مدينة نهوند؛ لأنه ربما كان الأكثر رواجاً فيها (وهذا يتطلب بحثاً خاصاً). لكن العالم فيتالي نجح بمطابقته مع  “فيت” المذكور بالرقيمات المكتشفة في شرقي المتوسط كما سنرى بعد قليل.
- السلم الإنهارموني Enharmonic هو السلم المبني على أبعاد كاملة وأنصاف أبعاد وما يسمى تسمية غير دقيقة أرباع أبعاد.
- ‪“‬السلّم الطبيعي "La gamme naturelle‪,‬ The natural scale" هو السلّم الذي تتوافق أبعاده بتناغم مع موجات الطبيعة حولنا لكن نِسَبها غير قابلة للقسمة على 2 بدون كسور مما يخلق فروقاً دقيقة الصغر تتوضح بالسمع بعد عدة طبقات صوتية.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
- ‪“‬السلّم المُعدّل  The tempered scale La gamme tempérée‪, ‬ “ هو السلم الذي اعتمد مبدأ تعويد الأذن على دوزان مشدود قليلاً ليتطابق في كل طبقاته الصوتية.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
القرار في السلم الموسيقي هو العلامة الأولى فيه وجوابها هو مكررها اي الثامنة. هذه المسافة الصوتية المؤلفة من ثمان علامات تدعى بالأوكتاف.

س- توضيح فعلاً ضروري. وبعودة إلى البحث، ترى ما هي المحاور الأساسية التي قسمت إليها البحث؟
ج-
لقد قسمت البحث إلى جزئين:
الجزء الأول هو توصيف منطقة الإكتشافات وطرح موجز دراسات العلماء للرُقُم والآلات الموسيقية المكتشفة ونتائجها.
والجزء الثاني هو موجز مسار السلّم السباعي الدياتوني من شرقي المتوسط وانتشاره في العالم.
‬‬‬‬‬‬تقع المنطقة التي اخترتُ لها اسم شرقي المتوسط على ملتقى القارات الثلاث من شرق البحر الأبيض المتوسط إلى إيران وتشمل سفوح جبال طوروس حتى الجزيرة العربية؛ مما جعلها ممراً للتجارة والاجتياح ومركزاً للاحتلال على مدى آلاف السنين. ولقد تزامنت في هذه المنطقة كما تتالت ثقافات وحضارات سكانها ومنها السومرية والأكدية والآشورية والبابلية والكلدانية والإيبلية والحثية والعبرية والحورية والفينيقية والأمورية والآرامية والسريانية والعربية والأزيدية والكردية والأرمنية والشركسية والتركمانية وغيرها. ولقد قُسّمت سياسياً على يد العثمانيين إلى ولايات، ثم قُسّمت على يد الفرنسيين والبريطانيين باتفاقية سايكس بيكو منذ عام 1920 (فقط) إلى سورية ولبنان وفلسطين والأردن والعراق.

وأنا ببساطة أترك للمؤرخين التحديد العلمي للتسمية لأن التسميات كثيرة وتتراوح بين الأساطير والحقائق التاريخية  مثل ما بين النهرين وسورية التاريخية والشرق القديم. هذا بالإضافة لما أطلقه الأوربيون من أسماء من منظور أوروبي: الشرق لأنه يقع إلى الشرق من أوروبا وهو ليفانت ‪“‬Levante‪”‬ أي مكان شروق الشمس على أوروبا وهو “الشرق الأدنى أو الأوسط ،Near or Middle East‪,‬ Proche ou Moyen Orient‪  ‬  لقربه منها. لكني أقترح أن يبقى في أذهاننا أن منطقة شرقي المتوسط  هي ذات نسيجٍ موسيقي شمل وما يزال كل هذه المنطقة منذ آلاف السنين لا يستطيع أي تقسيم سياسي عبر التاريخ تفكيك خيوطه.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

س- ترى ما هي التسمية التي أطلقها علماء الآثار واللغويات على هذه المنطقة؟
ج-
  في النصوص الأصلية للمقالات يسمّي العلماء نفس الرقيم باسم المنطقة أو باسم الحضارة المسيطرة عليها حينها أو باسم مكان اكتشاف الرقيم (مثلاً السلّم السومري أو ‪ البابلي‬أو الأكدي أو الآشوري) . نقلت هنا كل التسميات بأمانة. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

س- لننتقل  الآن لو سمحتِ إلى تصنيف وتوصيف أهم تلك المكتشفات.
ج-
ابتدأت الاكتشافات الأثرية في المنطقة مع بداية القرن 20 وأولها كان لمجموعة من رُقُم وقطع فخارية لم تُفهم حينها. ثم اكتشف العالم البريطاني ل. ووللي L. Woolley عام 1929 قيثارة أور التي تعود إلى (القرن 26 ق.م). ولقد باءت بالفشل كل المحاولات التي جرت على القيثارة لتخيّل الموسيقا المعزوفة عليها، ثم توضّحت بالتدريج ملامح الموسيقا التي كانت تُعزف عليها عند اكتشاف عدة رُقُم، الأساسية الكاملة منها هي:
الرقيم الأول وفيه أسماء أوتار القيثارة التسعة مرقّمة (2600 ق.م)
والثاني هو رقيم  جدول أناشيد آشورية مبوبة حسب مقاماتها(1500 ق.م).
والثالث عليه معلومات حول دوزان القيثارة (1800 ق.م).
والرابع هو بحث في حسابات رياضية لطبيعة سلّمٍ موسيقي وأبعاده (1500 ق.م).

س- وماذا كانت مفاجأة الاكتشاف؟
ج -
أجل فإن الخطوة الأخيرة التي فسَّرت كل ما سبق فأعاد جميع العلماء النظر في دراساتهم وانتهوا تماماً من توثيقها في الثمانينات من القرن العشرين كانت عبر اكتشاف :
 الرقيم الخامس أوغاريت: أول أنشودة عبادة، مبني على السلم المكتشف وبأول تدوين موسيقي في العالم مكتشف حتى اليوم، ويعود إلى (1400 ق.م).

س- ماذا كان رأي العلماء في هذا الاكتشاف الباهر؟
ج -
  لقد  قرأت مقالات عديدة عن الاكتشافات، من دون ذكر نتائجها لكن الأهم هو ما كتبه العلماء الذين ساهموا فعلياً فيها من علماء في الآثار واللغات والفيزياء والموسيقا. ومن أهم ما قرأت الملخّص الشامل بالإنكليزية لكل مراحل الدراسات التي قام بها كل العلماء المشاركين، كتبته العالمة البلجيكية مارسيل دوشيسن  Marcelle Duchesne ؛ وهي مختصة بعلوم الموسيقا وبعلم آثار منطقة ما بين النهرين في كتابها "تدوين موسيقي حوري من أوغاريت،  الجزء الثاني: اكتشاف موسيقا ما بين النهرين" 1984.

س- أبرز الآراء، وجدتها إذن لدى البلجيكية دوشيسن، ماذا تعرضين عنها؟
ج -
  تذكر دوشيسن أنها قرأت الدراسة التي كتبتها العالمة آ. كيلمير A. Kilmer  عام 1960 على  رقيم  حسابات في الرياضيات لطبيعة سلّمٍ موسيقي وأبعاده، لفتت فيها كليمير أنظار العلماء إلى هذا الرقيم الذي اكتشف في نيبور وبقي ٧٥ عاماً بدون دراسة؛ فتابعت دوشيسن دراسته فلم يتطابق معها مع السلم الخماسي أو "الإنهارموني" بل تطابق فقط مع الدياتوني. دراسات العلماء بالتزامن وبالتوالي حدَّدت مكان نصفي البعد فيه ونجحت في مطابقة هذا السلم المكتشف مع أبعاد سلّم ماجور .

س- وماذا عن آراء الباحثين الآخرين؟
ج -
بعدئذ شهد عام 1968 الاضافة الأكثر أهمية على معرفتنا عن النظرية الموسيقية البابلية وهي دراسة قام بها العالم غورني بمشاركة عالِم الموسيقا وولستان Wulstan على رقيم الحسابات الرياضية ورقيم  دوزان القيثارة واسمها "غيش زامي Giš Z.Á.MI" وهي قيثارة الإلهة "إنانا Enana" ( ولقد اتفق الجميع على تسميتها "الهارب - قيثارة Lyre – Kithara”). ولقد كتبَ كلٌ من العالمين بحثاً عن نتائجهما ومما جاء فيهما:
•   الأسماء السبعة في الرقيمين هي أسماء سبعة سلالم دياتونية مختلفة.
•   طريقة الانتقال من سلم إلى آخر تكون بتغيير ارتفاع الوتر التاسع.
•   أسلوب كتابة الرقيم يشير إلى أن هذا النص مكتوب من (1800 عام ق.م).
عرف البابليون – بحسب دوشيسن- منذ هذا الوقت المُبكّر، سبعة سلالم سباعية وكل سلّم منها مؤلف من خمسة أبعاد كاملة + نصفي بُعد.
كما استطاعوا تشكيل " Mode”  أي تسلسل مُحدّد للنغمات بوصفها أساساً في اللحن. وبالتالي فإنَّ “تغيير المود” كان يتم عبر تغيير موقع نصفي البُعد في الأوكتاف.
وتتابع دوشيسن: وبالنتيجة فإنَّ العلاقة بين العلامات الأساسية تتغير تبعاً للمود المختار. ولقد كان في بابل كما عند اليونان سبعة سلالم ممكن إنطلاقاً من كل سلم فيها تشكيل  سبعة “مودات”. على أن السلّمين المهمين في بحثي هما: الإيوني وهو دو ماجور والأيولي وهو لا مينور.
عام 1970، بعد اطّلاع عالم الآشوريات الألماني ه. م. كومل  H.M. Kümmel على كل ما سبق وخاصة الرقيم  الذي يتناول دوزان القيثارة الذي ينقلنا من سلم إلى آخر، كتب "إنَّ هذه الطريقة التي كانت معروفة من أيّام كتابة الرقيم الموجود في متحف برلين تشير إلى قواعد للدوزان هي:
* أنَّ الدوزان كان يتم عبر رباعية هابطة وخماسية صاعدة.
* أنَّ "الهيبتاكورد Heptachord" هو حد فاصل لا يمكن تجاوزه في عملية التبديل. وبالتالي فإنَّ التبديل يُقطع في الوتر الرابع (وتر الإله إيا) ويفتح المجال لتتالي رباعيتين هابطتيين.
أنَّ الدوزان يبدأ دائماً من مجموعة أوتار يحمل المود اسمها، وصفتها الغالبة هي وجود نصف بُعد بين أعلى علامتين موسيقيتين.
* أنَّ الدوزان ينتهي عند التريتون "الثلاصوت Tritone"، وفي حال التغيير إلى سلّم آخر ينحرف التريتون كي يصل إلى "التوافق Consonance".
أنَّ هذا الوصف الشامل لعملية الدوزان هو المعروف بالتاريخ  تحت اسم "دوزان فيثاغورث" (495- 570) Pythagoras.
* هناك نتيجة هامة نستخلصها من تعريف ما يسمى دوزان فيثاغورث هي أنَّ الأوكتاف، على عكس الشائع، غير مذكور في عملية التبديل لكنه مذكور فقط في مرحلة تغيير ارتفاع العلامة الأولى إلى الثامنة أو الثانية إلى التاسعة.
* أنَّ سلماً واحداٌ فقط هو المسيطر تماماً في عملية تبديل الدوزان وهو سلّم (دو) [أي دو ماجور] .

س- وهل وافق جميع العلماء على هذا؟
ج-
نعم،  ثم في عام 1973 وبناءً على نتائج الرُقُم السابقة استطاع العلماء قراءة رقيم أوغاريت… وهنا يأتي دور راوول فيتالي.

س- ممكن تحدّثينا بشيء عن راوول فيتالي؟
ج-
هو عالم فيزياء سوري. وهو أحد علماء الفيزياء الذين حللوا رقيم أوغاريت، لكنه لم يشارك في دراسات الرُقُم السابقة ونتائجها لأنَّه لم يسمع بالموضوع إلا حين صدرت نتائج دراسات الرقيم الخامس الخاص بأوغاريت في نهاية السبعينات؛ فكتب دراسة  في الرُقُم السابقة نشرت في عدة مجلات ودوريات10‪)‬). وفي مقالته بمجلة الحياة الموسيقية العدد 2 3‪)‬)يشرح بعض التعاريف العلمية عن الأبعاد الصوتية وأنواعها في دراسة أكوستيكية - فيزياء الصوت- توضيحية. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

س- هذه ربما مناسبة جيدة لتوضيح معنى البعد ونصف البعد اللذين وردا في سياق حديثك.
ج-
  أجل يذكر فيتالي : البعد في الموسيقا هو الفرق بين نغمتين. وهو علمياً نسبة التواتر بين النغمتين. فإذا كان القرار 200 اهتزازة بالثانية يكون الجواب 400 اهتزازة. نسمّي المسافة بين القرار والجواب (بعد بالكُل)، وأوضح بالقول:
* البُعد بالكٌل يساوي 2 في جميع الحالات. وهذه النسبة تفرضها الطبيعة. وقد اعتمد الفيزيائيون العدد (301) كوحدة قياسية أساسية للأبعاد الموسيقية وسموها “سافار”. أي أن البعد بالكل يساوي (301) سافار.
يُقسم البعد بالكل إلى 53 بعداً جزئياً منها 41 بعداً يساوي كل واحد منها كوما تماماً (والكوما هي وحدة قياسية تقريبية للأبعاد ومستعملة كثيراً عندنا)؛ بينما يساوي كل من الاثني عشر بعداً الباقية كوما ناقص شيسما (والشيسما هي بعد صغير جداً ممكن تجاوزه).
* البعد بالكل يساوي (6) أصوات معدّلة أو يساوي (5) أصوات طنينية (طبيعية) زائد بقيتين. وبما أن “البقية” أصغر من نصف الصوت المعدّل، والطنيني أكبر من الصوت المعدّل؛ فالفرق بين الطنيني والبقية أكبر من نصف الصوت المعدّل، وهو ما نسميه “المجنب الصغير” وقيمته (114) سينت. و”المجنب الكبير” نسميه “بُعد البقيّتين” ويساوي (180) سينت.  ثم يتابع بعدها فيتالي:
* وبناءً على دراسات العلماء بتنا نعرف منذ السبعينات أنَّ السلّم السباعي الدياتوني كان معروفاً في بلادنا منذ 1200 عام على الأقل قبل فيثاغورث، وأنَّنا إذا رتبنا النغمات السبع الأولى تصاعديّاً نحصل على المتتالية المألوفة: (دو، ري، مي، فا، صول، لا، سي) التي كانت قد حُدِّدت في بلادنا في 1800 ق.م.
* وفي دراستي الأكوستيكية قمتُ بتحديدٍ مفصّلٍ لجميع نغمات السلّم البابلي وهو ما لم يقم به أحدٌ قبلي : المقام إشارة، إيشاتو ومعناه "الأساسي" يتطابق ومقام العجم أي الماجور/ سلم فيت مع سلم نهوند / مقام نيد قبلي يتطابق مع سلم مقام كرد/ مقام نيش جبارة يتشابه مع سلم مقام كردين/ سلم أمبوب قريب من فرحفزا.."

س- لكن أين دراسة رقيم التدوين الموسيقي؟
ج-
لقد صادف أنني كنت رئيسة التحرير التي طلبت من العالم راوول فيتالي نشر دراسته عن الموضوع في عددين من مجلة الحياة الموسيقية. واليوم، وبعد قراءة النقاشات الدائرة حول ترجمة رقيم أوغاريت حيث تم عزف المقطوعة الموسيقية بأربعة طرق مختلفة ،اطّلعت عليها في كتاب دوشيسن سالف الذكر، فوجدت أن القراءة والترجمة الموسيقية الأدق له هي قراءة فيتالي لأنه ابن المنطقة ووريث لغوي وموسيقي فيها. ومما قاله فيتالي:  رفضتُ نظرية دوشيسن بأن السلم في رقيم أوغاريت هو سلّم صاعد ورفضت فكرة تعدُّد الأصوات التي سارت عليها كل الترجمات السابقة بسبب ما يسمى (الثلاصوت/ تريتون) الفيثاغوري خفي التنافر.كما لاحظتُ أن ما يكتب خلف الرقيم هو عبارة عن مقاطع مكررة حتى لا يضطر العازف إلى القيام بقلب وجه الرقيم. كما حددت أن مقام نيد قبلي في رقيم أوغاريت - الذي أثبت العلماء أنه مقام الأنشودة ـ يقابل مقام الكرد عندنا، عندما نعتمد السلم النازل من محط (مي) لتفادي الدييز والبيمول فاستقامت فوراً كل المقطوعة الموسيقية بصوتٍ أحادي.  وبالنسبة للإيقاع الذي شكّل في قراءات العلماء الآخرين صعوبة في الأداء؛ اعتمدتُ بالتشاور مع الموسيقي السوري الأستاذ محمود عجّان على إيقاع البروفيسور تيل Professor Thiele بالدراسة العروضية للنص. ‬‬‬‬‬
ولقد افترضا أنَّ البعد (إشارة) يساوي (10) وأن الكلمتين غير المفهومتين في النص تخُصّا الإيقاع: (لا تُسمع: معناها لا كلام مقدارها 5) ‪.‬ كذلك لاحظتُ أنَّ عدد المقاطع في السطر يساوي في أغلب الأحيان ثلاثة أضعاف مجموع الأعداد في السطر المقابل. فإذا قبلنا بتفسير ترجمة البروفيسور تيل بالدراسة العروضية للنص وضممنا النصف الثاني أي خمس وحدات من إشارة (10) إلى السطر (6) الذي يليه يصبح أيضاً مجموع مقاطع السطر (1) على مجموع أعداد السطر (6) (+ خمس وحدات): 42 / (9+5) = 3/1  وهكذا.. ومن المستحيل أن تكون النسبة (3) الثابتة مجرد صدفة.. وبهذا استقام الإيقاع…)).‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

 س- ست سلمى، الجزء الثاني من بحثك المستفيض هو  مسار السلم السباعي الدياتوني حتى وصوله للعالمية. هل من خارطة توصيفية لهذا المسار؟
ج-
طبعاً، لكن قبل البدء برسمها لا بد من ذكر السبب الهام خلفها. فالموسيقا لا غنى عنها إذ تمدّ الإنسان مثل غيرها من الفنون وربما أكثر بشحنات إيجابية، كما تساعده على تفريغ شحناته السلبية. لا يوجد شعب بلا موسيقا، ولا توجد موسيقا بلا سلم موسيقي. وكل الشعوب التي انتقل إليها السلم المكتشف كان لديها موسيقاها وسلالمها الموسيقية الخماسية. لكن السلم السباعي بدوزانه الطبيعي نجح بالسيادة على الموسيقا العالمية لأنه في رأيي يحتوي أكثر من باقي السلالم على ذبذبات وموجات صوتية طبيعية رخيمة ومتناغمة مع الطبيعة كما سبق وشرحنا.
ولقد تم انتقال السلم السباعي الدياتوني بدوزانه الطبيعي عن طريق الحروب والتجارة؛ فانتشر أولاً عبر حضارات وثقافات شرقي المتوسط لمدة تزيد على الألف عام فأخذ فيها السلّمان موضوع بحثنا  "إشارة" اسم "عجم" ، و"فيت" اسم “نهوند”. ثم حين احتل الإغريق المنطقة في (الألف الأخيرة ق.م) تأثّروا وأثرّوا بموسيقا المنطقة، وتبنّاه الإغريق بتفرّعاته السبعة ومقاماته فاختلط بموسيقاهم ووصل معهم ومع أسراهم ومع التجار الفينيقيين ومع فيثاغورث الذي عاش في مصر وشرقي المتوسط (30 عاماً) إلى ما يدعى اليوم باليونان ؛ فأخذت هذه السلالم السباعية أسماء يونانية وبالتالي أخذ السلّمان موضوع بحثنا  "إشارة عجم" اسم “إيوني” و”فيت نهوند"  اسم  "أيولي" .‬‬‬‬‬
 
س- كيف تصف الموسيقية سلمى قصاب حسن ، علاقة التأثير والتأثر لموسيقا منطقة الشرق الاوسط مع اليونان؟
ج-
سؤال وجيه: هذه العلاقة هي مفصل جذري في البحث. فبالإضافة لما سبق وأثبته علماء الآثار والموسيقا عن أسبقية السلم السباعي الدياتوني لمنطقة شرقي المتوسط على ما دعي بسلّم فيثاغورث اليوناني وبقي إثباتهم حبيس دور البحوث؛  توسعت في دراستي وطرحت مجموعة من المقولات والمراجع لمؤرّخين من أمثال جبران الأسعد، سليم الحلو، تينوس أسعد صوما، فارمر، لايختنتريت، بريفوست وغيرهم مع ملاحظة أنّ معظمها يشير إلى أسبقيته على سلّم فيثاغورث لكن دون ذكر مرجعية الإثبات العلمي الذي أقدمه هنا.‬‬‬‬‬
بقي أن نذكر أن الرومان احتلوا منطقة شرقي المتوسط فنشأ مزيج حضاري سوري روماني اسمه الحضارة البيزنطية.  وفي بداية العهد المسيحي حافظ عليه المسيحيون الأوائل من سريان وكلدان وأنطاكيين وبيزنطيين وغيرهم عبر الكنيسة التي اعتمدت بشكلٍ أساسي على أسفار التوراة ومزامير داود باللغة الآرامية، وعلى تصنيف السريان للألحان الثمانية.

س- لو تتكرمين  بعرض موجز للمراحل التاريخية التي وردت في بحثك لتوثيق الموسيقا الاوربية وتعديل السلم السباعي الدياتوني الطبيعي.
ج-
لقد تناولت أولاً القرون من منتصف الرابع حتى منتصف الخامس عشر تقريباً ككتلة واحدة مشيرةً إلى حفاظ المسيحيين الأوائل على السلالم السبعة المكتشفة، ثم إلى انتقال هذه السلالم السبعة إلى كنائس روما  عبر التراتيل وإلى قبول الإكليروس بها مع التدخل بكل تفاصيلها فأجاز  مثلاً “الهلّليلويا" التي انتقلت إليهم حتى بلفظها الآرامي/ العبري هللوا لله.؛ كما أجاز البابا داماسوس "الزخرفة" وربما يعني بها ابراز مهارة المؤدين بالعرض الصوتي في الغناء والتقاسيم في العزف. ‬‬‬‬‬

س- فلنتابع المسار، لو سمحت، عن السلالم السبعة التي وصلت إلى المسيحيين الأوائل، ماذا كان دورهم ودور الاكليروس تحديدا؟
ج-
شكرا ! وافق الإكليروس على أسلوب تفريدة المؤدي (كما في الموّال) حيث يرتّل الكاهن اللحن فيجاوبه المصلّون أو يرافقونه بنغمة موسيقية طويلة أطلقوا عليها اسم "الباص المستمر Basso Continuo" الذي تطور مع الزمن وأخذ أسماء أخرى. كما استطاب الإكليروس فكرة الصوتين (أي اللحن مع الباص المستمر) فأضاف على مدى قرون صوتاً ثانياً وثالثاً ورابعاً، وفي هذا بذرة أحد أنواع تعدد الأصوات وهو البوليفونية.

س- كمتخصصة في الموسيقا، كيف تعرّفين تعدد الأصوات ومدى تبريرها؟
ج-
الموسيقا أحادية الصوت تدعى “مونودي” أي حتى ولو كان عدد المؤدين كبيراً إلا أنهم يغنون جميعاً لحناً واحداً. أما تعدد الأصوات فهو نوعان: أولاً “هارموني” أي لحن أساسي ترافقه بضعة علامات تؤدّى في آنٍ واحد وتُدعى كوردات أو تؤدّى على التتالي وتدعى أربيجات. وثانياً ”بوليفوني” أي عدة ألحان متآلفة تؤدّى معاً. وربما كان سبب اختراع البوليفونية في الترتيل الجماعي بالكنائس نابع من الحاجة لضبط مشكلة اختلاف الطبقات الصوتية لمجموعة المرتلين مختلفي الأجناس والأعمار من ذكور وإناث وأطفال.
ولقد بدأت برأيي الموسيقا الأوروبية  مع “البوليفونية" تفرّدها وكذلك مشاكلها مع السلّم الطبيعي. فلقد اصطدم الإكليروس في العصور الوسطى بوجود ظاهرتي "التآلف والتنافر Consonance & Dissonance" بين نغمات هذا السلّم بسبب دوزانه الطبيعي؛ لهذا بدأت محاولات التركيز على اختيار بعض السلالم فقط. وصيغ في الغناء “النشيد الجريجوري Gregorian Chant" أُحاديّ الصوت  تؤدّيه مجموعة من الذكور وافق عليه البابا جريجور في (القرن 6م).‬‬‬‬‬

س- وكيف كانت تدوّن الموسيقا منذ تدوين أوغاريت عام ١٤٠٠ ق.م؟
ج-
الانجاز  الأكبر في مجال علوم الموسيقا كان في تطوير تدوين أوغاريت الذي يعتمد على سطر وهمي فوق وأسفل سطر النص، وضعت عليه رموز تدل على مدى الصعود أو الهبوط باللحن أو التغيير في الإيقاع. وخلال ٢٨٠٠ عام من تدوين أوغاريت تمت كتابة الموسيقا بالاستعانة بعدة سطور تم اختصارها إلى خمسة وسميت بالمدرج الموسيقي وأخذت العلامات شكلها الحالي.
وعلى هامش هذا أنوّه أنه قد جرت محاولات في منطقتنا لتدوين التقسيم الشرقي أهمها اختراع شمس الدين الصيداوي الدمشقي في القرن الخامس عشر لمُدّرجٍ موسيقي يحتوي على ثمانية أسطر (وفي بعضها تسعة) وهذه المدوّنات من موجودات المكتبة الوطنية بباريس.

س-إذا كان السلم السباعي المكتشف”دياتونياً” أي يحتوي على أبعاد كاملة وأنصاف أبعاد فقط، كما تفضـّلتِ، فمن أين جاء ربع الصوت أو ما تسمينه بالتقسيم الشرقي لموسيقا المنطقة؟
ج-
سؤال مهم جداً . لنعد أولاً إلى طروحات المؤرخين:
يذكر سليم الحلو مثلاً  أنَّ الآلات الموسيقية عند الآشوريين تدل على تقسيم السلَّم إلى أجزاء صغيرة هي أرباع وأنصاف أرباع.
كذلك يذكر عالم الموسيقا الألماني لايخترتيت أن الموسيقا اليونانية كانت تحتوي على جزئيات أصغر من نصف البعد، وأنه قد عُثر في فيينا (عام 1892) على مخطوط يوناني قديم تستحيل كتابته بأسلوب تدوين اليوم بسبب كثرة أرباع الصوت فيه.
كذلك ظهر حسب كتب وأبحاث ومؤتمرات الموسيقا السريانية للآباء والبحّاثة السريان في ستة ألحان من أصل ثمانية من الألحان السريانية المُعتمدة على السلّم السباعي “حزم أو مجموعات” تحوي كما ذكر لنا فيتالي كومات يختلف عددها من منطقة إلى أخرى.  تُدعى هذه الحزمة بالتقسيم الشرقي أو المجنب الصغير والكبير أو ربع البُعد أو ربع الصوت أو اللّوينة الصوتية وغيرها (ونعتمد في بحثنا تسمية التقسيم الشرقي) وتُعطي طابعاً صوتياً خاصاً يميزها بين المناطق.
الفكرة الأساسية تكمن في عدم تساوي نصفي البعد بفارق كوما: أي أن الدو دييز لا تتطابق (طبيعياً) مع الري بيمول بفارق كوما في السلم الطبيعي وتمت مطابقتهما (صناعياً أو إلزامياً) كما سنرى فيما بعد بالسلّم المعدّل. أما متى أخذت هذه الفروقات شكل أبعاد ثابتة في سلّم موسيقي معيّن فهذا يتطلب بحثاً منفرداً.

س- من السلالم، ننتقل، السيدة سلمى، إلى العلامات. كيف يا ترى جاءت أسماء العلامات؟ وهل كان للاكليروس دورهم فيها؟
ج-
لقد بقيت أسماء العلامات الموسيقية مأخوذة من الأحرف الأبجدية الأوغاريتية - وهي أول أبجدية مخترعة في العالم  وتشكل أساس "الألفباء Alphabetta" العالمية- حتى القرن الحادي عشر حيث أعطاها الراهب الإيطالي جيدو داريتزو Guido d’Arezzo  أسماء: دو، ري، مي، فا، صول الخ. وبهذا  اعتُمدت التسمية الجديدة "الصولفائية ،The Solmization, La Solmisation" في البلاد الناطقة باللغات اللاتينية أما باقي العالم الغربي فما زال يعتمد الألفباء. 

س- تحدّثت عن منجزات الاكليروس في الموسيقا. ترى كيف كانت الموسيقا خارج الكنيسة؟
ج-
انتشر الموّال في الغناء، والتقاسيم في العزف على آلة "العود Lute" (وهي آلة وترية بدون دساتين تستطيع عزف التقسيم الشرقي) ومشتقاتها في الموسيقا الشعبية . وربما كانت الكادينزا ـ أي المقطع الذي ترتجله الآلة في منتصف المقطوعة ـ وليدة من فكرة التقاسيم التى نعزفها في كل العالم ولا نعرف أصلها.
الذي أود قوله أنه بالإضافة إلى الاثباتات العلمية التي لا تقبل الجدل مثل اكتشاف رقيم أو وثائق تشير إلى تطور الكتابة الموسيقية؛ فنحن في الواقع نستقرىء مسار الموسيقا   . أما بدءاً من عصر النهضة الأوروبية من منتصف القرن الخامس عشر حتى منتصف السابع عشر تقريباً حينما تم اختراع الطباعة فالمعلومات كلها موثّقة ومنتشرة. لكن اختراع الطباعة جلب معه مشاكل التدوين الموسيقي التي اعترضت طريق طباعة المدوّنات الموسيقية مما دفع باتجاه  الخطوة الكبرى  للموسيقا عبر خروجها من تحت سلطة الكنيسة وانقسامها إلى:
أولاً : أكاديمية تدّرس في المعاهد والأكاديميات وتمّ تأليف وطباعة الكثير من الكتب التي تتناول النظريات الموسيقية وخاصةً في علم  الجمال الموسيقي وفي علاج مشاكل الدوزان والتدوين ، كما تمَّ اختراع أو تطوير آلات مثل الفلوت والكمان والتشيلو.

ثانياً: شعبية استمرت على ما يبدو بغناء السلالم ذات التقسيم الشرقي في أبعادها في المناسبات الاجتماعية وما زالت موجودة إلى اليوم خاصةً في السويد وإيطاليا وأيرلندا والبلاد التي كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية‪.‬ كما أننا لن نستغرب حفاظ الموسيقا الشعبية الأوربية إلى اليوم على التقسيم الشرقي: فلقد  ذكر لي الموسيقي المصري عبد الرحمن الخطيب في مقابلة أجريتها معه، نشرتها في كلمة العدد في مجلة الحياة الموسيقية أنه فوجىء في الثمانينيات من القرن الماضي وفي جبال السويد بغناء مقام السيكاه.‬‬‬‬‬.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

س-  وهكذا نصل إلى القرن الثامن عشر وعصر الباروك؟
‪ج‬-
تماماً كما نصل إلى الحدث المفصلي الثاني في بحثنا الذي جرى في عصر الباروك . فبالإضافة إلى سير التطور الطبيعي للأشكال  والآلات والنظريات الموسيقية  تمّ تثبيت الاسمين الجديدين للسلّمين الأكثر شعبية (إشارة/ عجم/ إيوني صار "الماجور" أي الكبير  بسبب ثلاثيته الأولى الكبيرة، وفيت/ نهوند/ أيولي صار "المينور" أي الصغير بسبب ثلاثيته الأولى الصغيرة).‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وبحسب وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي والبحوث الفرنسية/ سلسلة تقنيات الموسيقا والرقص/ وثائق مرافقة للبرنامج/ وثائق عمل18‪)‬) فلقد  طلب المؤلف الألماني يوهان سيباستيان باخ Johan Sebastian Bach (1685 – 1750) وشاركه بهذا الطلب  المؤلف الفرنسي ج. ف. رامو J.Ph. Rameau (1683-1764)-  من عازف الأورغ الألماني ويركمايستير  Werckmeister (1645 – 1706) حلّ مشكلة الدوزان الطبيعي للآلات ؛ فقام  ويركمايستير باختراع طريقة دوزان جديدة مختلفة عن محاولاتٍ سابقة مثل زارلينو  Zarlino أو محاولة تلميذ باخ كيرنبيرغير Kirnberger وغيرهما من أجل الانتقال من السلّم الطبيعي إلى سلّمٍ “مُعدّل” يتساوى  فيه نصفا البعد صناعياً (إلزامياً) عبر تعديل دوزان الأوتار مفترضاً أن الأذن ستعتاد عليه مع الأيام وهذا ما حصل. وحسب المرجع نفسه أن هذه الطريقة في الدوزان أعجبت باخ فأيّدها ودعم هذا الاختراع بأن ألّف تطبيقاً له "24 بريلود وفوغ" في كتاب لآلة الكيبورد (واليوم تعزف على البيانو) من جزئين أسماهما "لوحة المفاتيح المعدّلة Well Tempered Keyboard / Le Clavier Bien Tempéré".
ولقد طال الدوزان المُعدّل الآلات الوترية ذات الدساتين مثل الجيتار والماندولين، وأوصل إلى اختراع آلة البيانو وأدّى بالتالي إلى الوثبة الأوروبية السريعة في مجال تعدد الأصوات والتدوين الموسيقي وفي مجال مؤلفات البيانو.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

اختتم هذه المقابلة إذ أشكر السيدة سلمى نجاة قصاب حسن، الباحثة الموسيقية والعازفة والمؤلفة. شكرا لجهودك المتميزة والدؤوب في  البحث والاستقصاء وصولاً الى ما تمخضت عنه من استكشافات غير مسبوقة. فلقد حصل، كما فهمنا منك الاستاذة سلمى، ما يشبه التعتيم على سلسلة من المعلومات المهمة فلم تصبح معرفة عامّة؛ إذ تمَّ في كل مراكز البحوث التي لها علاقة بالاكتشافات الأثرية بمنطقة شرقي المتوسط منذ أربعين عاماً توثيق نتائج دراسات الرُقُم الموسيقية المكتشفة التي تثبت أنَّ حضارات هذه المنطقة أبدعت سلّمي الماجور والمينور الطبيعيين. لكن لم يتم على حدِّ علمنا نشر هذه النتائج وتداولها أو نشر إسقاطاتها على تاريخ الموسيقا العالمية عموماً بما فيها تصحيح معلومة تاريخية، يوجد إشكالية في تسميتها وهي نسب أصل أول سلم سباعي دياتوني في العالم إلى اليونان وفيثاغورث. أما كيفية تحقيق نشر وتصحيح هذه المعلومات، فنتطلع إلى أن تقدمي بحثا خاصا عن هذا الموضوع، ليشكل إضافة نوعية على هذه المقابلة.

روابط تابعة للمقابلة

الرابط 1: بحث سلمى قصاب حسن: السلّم الموسيقي السباعي الدياتوني

https://drive.google.com/file/d/17gzufbT512v2A8DGEqHL1iXA7qRZxIWI/view

الرابط 2: أغنية " الحب المُعتّق" قدمت بافتتاح دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008
https://drive.google.com/file/d/17agsaWNYsWgpwpoID1aZTNLNuebm5F_6/view?usp=drivesdk

الرابط 3: متتالية أغنيات سورية، الإخراج والتوزيع الموسيقي سلمى قصاب حسن. قدمت بمدرسة البشائر بقيادة عاصم سكر ومشاركته بالغناء بحفل دعي اليه من كان ما زال حياً من رجال الثورة السورية الكبرى على الفرنسيين.

https://youtu.be/uU5B_MCVz9E
الرابط 4:
 أغنية “أنا إنسان وأنت إنسان” تم تقديمها أثناء زيارة أطفال مكفوفين لمدرسة البشائر  وكان قد تمّ تأليفها وتلحينها لهم واستمتعوا جداً بتسجيلها بأصواتهم ورافقهم بالغناء والعناية بهم مجموعة من طلاب الثانوي بالمدرسة

https://drive.google.com/file/d/14PROS7WH56yhfCKUVT6bdmNfZ6TNU0pN/view?usp=drivesdk

كتاب حكايا الموسيقا: الجزء الأول PDF فقط

https://drive.google.com/file/d/14bdasF9nGu8ulAlO6P4NnpPhtqVVU0Sk/view?usp=drivesdk







غير متصل مغترب انا 2

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 108
  • منتديات عنكاوا
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
الأب الفاضل نويل المحترم
تحية محبة مسيحية
مقابلتك جميلة جداً وفيها معلومات قيمة تدل عل سعة علمك لكن فيها خطأن:

الأول: مصطلح بين النهرين (ميسوبوتاميا)
لا يعني العراق بل المثلث المحصور بين الخابور والفرات في الشمال الغربي للعراق الحالي، أي ما يُسمَّى الان الجزيرة السورية) (وراجع طه باقر، من تراثنا اللغوي القديم، ص192 -196. ومقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ج1، ص7-12. وانظر الدكتور فيليب حتي، تاريخ سورية ولبنان وفلسطين، ص176 وغيرها من المصادر

الثاني قولك: في بداية العهد المسيحي حافظ عليه المسيحيون الأوائل من سريان وكلدان وأنطاكيين وبيزنطيين وغيرهم عبر الكنيسة التي اعتمدت بشكلٍ أساسي على أسفار التوراة ومزامير داود باللغة الآرامية، وعلى تصنيف السريان للألحان الثمانية.
فلا يوجد بداية المسيحية قوم باسم كلدان والجميع سريان أنطاكيون فقط واسم الكلدان هو نتيجة كلمة أطلقها البابا اوجين الرابع في 7 أيلول 1445م على السريان النساطرة المتكثلكين في قبرص لكن الاسم مات حينها ثم بدأ يتردد مرة أخرى بعد القرن السادس عشر على الذين تكثلكوا من اتباع يوحنا سولاقا وثبت رسميا واستقر بوضوح في 5 تموز 1830م


مع تقديرنا العالي لجنابك الكريم