المحرر موضوع: حديث أشجان... علاقة خاصة جدا.. كتابة الدكتور عبد الرحمن المرسومي.  (زيارة 485 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل فهد عنتر الدوخي

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 750
  • الجنس: ذكر
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
( علاقة خاصة جدا ) :

في العام ٢٠٠٩ ، كنت قد تخرجت من دراسة الدكتوراه في الأمراض الجلدية،  واصبحت لدي عيادة خاصة اتواجد فيها عند المساء .دخلتْ العيادة سيدة تقوم بدفع أبنتها بعربة متحركة ، كانت الطفلة نحيفة وشديدة الصفرة ، تضع غطاء على رأسها ، ولاتتجاوز الثالثة عشرة من العمر . أدركت في الحال أني امام حالة إنسانية من نوع خاص جدا ، تحتاج لرباطة جأش وقوة يجب عليّ إظهارها أو التظاهر بها .
رحبت بهما ثم سألت السيدة : مامشكلة طفلتك ؟ لم تجيب عن السؤال كلاما ، لكنها قامت برفع الغطاء عن رأس الطفلة والتي شعرت بالخجل الشديد فراحت تُطأطأُ رأسها ناظرة إلى الأرض . ياالله!! إنها صلعاء بالكامل !! عرفت بشكل مباشر أنها بفعل أدوية السرطان ( Chemotherapy ) وهي تحدث لكل من يتناول هكذا أدوية ( Anagen Effluvium ) . رحت احاول مداعبة الطفلة ببعض الكلمات ، فسألتها عن هواياتها؟ فقالت : أنا أرسم بشكل جميل .
إبتسمت مشجعا إياها وقلت : هذا رائع يا عمو. 
قمت بوصف العلاج العلمي الواجب إعطاءه لهكذا حالة . بعد حوالي شهر دخلت عليّ الأم فرحة وهي تحمل لوحة فنية رائعة فقالت : هذه هدية أبنتي إليك وهو سعيدة وتسلم عليك فقد بدأ شعر رأسها بالإنبات قليلا . شكرتها وقمت بتثبيتها على جدار الغرفة .

بعد ستة أشهر ، زارتني السيدة مرة أخرى باكية فقالت : لقد أوصتني أبنتي أن أبلغك بأنها تحب أن تحتفظ بلوحتها على جدار عيادتك فلاترفعها أبدا،  وكانت هذه آخر ماأوصت به قبل موتها !! قالتها وهي تجهشُ بالبكاء . منذ ذلك التاريخ وأنا اتفقد تلك اللوحة كلما دخلت عيادتي . قبل مدة من الزمن ، دخل عليّ رجل لغرض الكشف والفحص ، أبصر اللوحة على الجدار فقال وقد بدت عليه علامات الأمتعاض: يادكتور : قم برفع تلك اللوحة من على الجدار فعيادة فيها رسم لاتدخلها الملائكة!!!
أجبته : إني والله لأرى الملائكة تحوم حول اللوحة تحرسها،  لكنها لاتعمى الأبصار وإنما تعمى القلوب التي في الصدور . إلى روح صاحبة اللوحة الجميلة أهدي هذه القصة القصيرة.........

حديث ( أشجان ) :

السلامُ عليكم ورحمةُ الله. السلامُ عليكم ورحمةُ الله. اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموتُ وأليك البعثُ والنشورُ. اللهم إني أسألُكَ خيرَ هذا اليومِ وما بعدَه، وأعوذُ بك من شرِ هذا اليومِ وما بعده.

قالت الزوجةُ : تقبّلَ اللهُ مني ومنكَ يازوجي العزيز. كم هو رائعٌ أن نُصليَ صلاةَ الفجرِ جماعةً.
قال الزوجُ : هذا صحيحٌ، ففيها راحةٌ نفسيةٌ لاتعدِلُها راحةٌ. أما إن كانت صلاةَ الفجرِ من يومِ الجمعةِ فإنها تعطينا شحنةً إيمانيةً عظيمة .
قالت : هل أُعِدُ لكَ وجبةَ الأفطار ؟ أم تريدُ العودةَ للنومِ فهو يومُ الجمعة .
قالَ : بل جهزي الأفطارَ لو سمحتي فقد نويتُ الذهابَ إلى بغداد.
قالت : شارعُ المتنبي مرةً أخرى.  لقد إشتقتَ لشارعِ المتنبي فأنتَ لم تزرهُ منذُ شهر. أعلمُ أنكَ تبحثُ عن كلِ ماهو جديدٌ في الأدب.
قالَ : هذا صحيحٌ. نوادرُ الكتبِ الأدبيةِ أجِدُها في يومِ الجمعةِ،  كما أن الأزدحاماتِ المروريةِ تكونُ قليلةً، فأصِلُ بغدادَ بساعةٍ ونصفِ الساعةِ إن سارت الأمورُ كما يجب.
تناولَ أفطارهُ، ودعَّ زوجتهُ وخرجَ بسيارتهِ قاصداً شارعَ المتنبي في بغداد.

كان لايزالُ داخِلَ مدينتهِ، حينما بدأت شمسُ الصيفِ بالشروقِ، رأى أمرأةً ترتدي عباءةً سوداءَ، وتُمسِكُ بطفلةٍ لاتتجاوزُ العشرَ سنينَ، تضعُ قبعةً فوقَ رأسِها ، يبدو أنهما بأنتظارِ سياراتِ الأجرةِ لِتُقِلُهما إلى بغدادَ فإنها تقفُ عندَ هذا المكان. السياراتُ شحيحةٌ في يومِ الجمعة . لما أصبحَ على بعدِ أمتارٍ قليلةٍ منهما أحسّ برغبةٍ ملحةٍ للوقوفِ، فوقفَ . نادى السيدةَ قائلاً : هل تريدانِ الذهابَ إلى بغدادَ فأقِلُكما معي ؟
قالت السيدةُ : كم الأجرةُ ؟
قالَ : مجاناً ، فأنا لستُ بسائقِ إجرةٍ.
قالت : شكراً لكَ.  أشارت إلى إبنتِها لتجلُسَ عندَ المقعدِ الأمامي قربَ الرجلِ، بينما جلست هي عندَ المقعدِ الخلفي. إنطلقوا ، ومرت دقائقُ معدوداتٌ وهم صامتونَ جميعاً، ثم أخذَ الرجلُ يَستَرقُ النظرَ نحوَ الطفلةِ فلاحظَ أن ذراعَها الأيسرَ القريبةَ منهُ كثيرةُ النُدَبِ والأزرقاقِ، مع وجودِ كانيولا لزرقِ الأبرِ زرقاءَ اللون.قالَ مع نفسهِ : إن وجهَها شديدُ الأصفرارِ !! ربما تعاني من فقرِ الدم .
كسرَ حاجِزَ الصمتِ فسألها : ماأسمكِ ياصغيرتي ؟
حركت شِفاهَها المبيّضةِ ببطىءٍ، وقالت بصوتٍ متعبٍ : أشجان
قال : أنتِ ذاهبةٌ إلى الطبيبِ . أليس كذلك ياأشجانُ ؟ لكنهُ يومُ الجمعةِ ياحلوتي والأطباءُ لايتواجدونَ في يومِ الجمعة!!
قالت : نحنُ ذاهبتانِ الى مستشفى الأورامِ الخبيثةِ لأخذِ جرعةِ الكيمياوي، وهي جرعةٌ في كلِ أسبوعينِ، ولكثرةِ الأطفالِ هناكَ جعلوا موعدي يومَ الجمعة.
ذُهِلَ الرجلُ لسماعِ كلامِها، وبدأت يداهُ ترتعشانِ فوقَ  مقودِ السيارة.حاولَ التظاهرَ بالقوةِ والصلابةِ والتماسكِ فقالَ لها : كم هي جميلةٌ هذه القبعةُ فوقَ رأسُكِ ياحبيبتي .
قالت : شعري أجملُ من قبعتي بكثيرٍ، لكنهُ سقطَ جميعَه بفعلِ أدويةِ السرطان. إبتسمت إبتسامةً خفيفةً وقالت : أخبرتني أمي أن اللهَ سيُعطيني شعراً حريرياً في الجنة. لابأسَ فأمي لاتكذُب.
سكتت قليلاً ثم قالت : هل تعلمُ ياعّمُ إني ومنذُ أن تركتُ المدرسةَ بفعلِ مرضي هذا أحفظُ القرآنَ بمساعدةِ أمي ؟ لقد حَفِظتُ البقرةَ وآلَ عمران .
قال : يالكِ من فتاةٍ مباركةٍ وجميلةٍ. ولكن ماأكثرُ آيةٍ تُحبينَ قرأتها في الصلاة ؟
قالت : ربنا ولاتُحَملِنا مالاطاقةَ لنا به.  قال : ولِمَ هذهِ الآيةُ دونَ غيرِها ؟ قالت : أنا أسألُ ولاأعترضُ لِمَ هذا العذاب ؟ إنهم يقومون بوخزي كثيراً ليجدوا لي وريداً لتثبيتِ الكانيولا، والحُقَنُ تٌسببُ ليَ غثياناً وتقيئاً شديدينِ ، كما أن عظامي تُؤلِمُني كثيراً !!
أخذَ نفساً عميقاً ثم قالَ : إنّ اللهَ تعالى يريدُ لكِ مراتِبَ عُليا في الجنةِ، ولذا يُعطيكِ هذا الشعورَ بالالمِ فلا نعترضُ نحنُ البشرُ أن اللهَ خَصَكِ بجنةٍ خيرٌ من جنتِنا ، فمعَ كُلِ شعورٍ بالالمِ هناكَ إرتقاءٌ لدرجةٍ أعلى في الجنةِ وبذلك تتحققُ العدالةَ الألهية. سكتَ لبرهةٍ ثم قال : هل تعلمينَ يا حبيبتي أن اللهَ سيسمحُ لكِ ان تنادي على أُمُكِ وأبيكِ لِيَلتَحِقوا بكِ في الجنة. نعم فأنتِ ستكونينَ في الجنةِ قبلهم وأنتٍ شفيعٌ لهم هناك.
قالت : لكني لاأريدُ مناداةَ أبي في الجنةِ !! فهو يُؤثِرُ النومَ على أن يأتيَ معي، وكلما أيقَضَتهُ أمي قال : إذهبي أنتِ معها ، أنا نعسانٌ !! إنّ الأطفالَ يأتونَ محمولينَ على أكتافِ آبائِهم، أما أنا فقد أرهقتُ كتفَ أمي .
قالَ وقد إغرورقت عيناهُ : لأبأسَ ياحلوتي ، ستكونينَ على كَتِفي اليوم. سأذهبُ معكِ ، ونأخذُ جُرعةَ الحُقَنِ ونعودُ بسيارتي الى البيت .
قالت : إذن أنتَ أحقُ بها من أبي. سأنادي عليكَ في الجنة . ولكن ماأسمُكَ ياعمُ كي أُنادي عليك ؟
قال : إسمي عاشقُ أشجان .

وصلا الى المستشفى، حملَ أشجان على كتفهِ كما وعدها. إنتظروا لساعتينِ حتى جاءَ دورُها فالمستشفى مكتظةٌ بالأطفالِ المرضى ، أعطَوها حُقنةَ الدواءِ، وجلسوا ساعةً للراحةِ فالحقنةُ تُسببُ الغثيانَ والقيءَ الشديد. نظرت أشجانُ إلى الرجلِ وقالت : ما الساعةُ الآن ؟ قال : الواحدةَ ظهراً ياملاكي .
قالت : رٌبّما كانَ لديكَ عملٌ تُنجِزُهُ في بغدادَ فألهيتُكَ أنا !!
قال : قد أنجزتُهُ ياأشجان !!
قالت : أشعرُ بجوعٍ شديد
قال : سنذهبُ الى مطعمٍ فاخرٍ ونأكلُ
قالت : أريدُ أن آكل رزاً باللحمِ
قال : هذا سهلٌ للغايةِ. ولكن لإسألَ الطبيبَ إن كان يسمحُ لنا بالمغادرة. قامَ الطبيبُ بفحصِها فسمحَ لهم بمغادرةِ المستشفى.

حملَ أشجانَ وقال : هيا إلى المطعم.  أرادت أمُّ أشجانِ أن تُثنيهُ عن قرارِ الذهابِ إلى المطعمِ حرجاً وحياءً منها، لكنّهُ أصرّ على ذلك.جلسوا في المطعمِ وراحت أشجانُ تأكلُ بسعادةٍ وفرح. قالت أمُّ أشجان : إنها لم تأكل كما أكلت اليومَ مُنذُ أن أصيبت بالمرض !! كما أنها لاتطلبُ الطعامَ بعد الحُقّنِ في العادة!!
بعدَ أن أكملوا تناولَ الطعامِ ، قالَ الرجلُ : الآن سنعودُ الى البيتِ ياأشجان .
قالت : حسناً
ركبوا السيارةَ ، قامَ بأرتداءِ  نظارتَهُ الشمسيةِ، وأنطلقوا عائدينَ إلى ديارِهِم. بعدَ دقائقَ قليلةٍ  قالت أشجانُ : لِمَ تضعُ نظارةً شمسية ؟
قال : ربما رأيتُ الحياةَ أجمل!!
قالت : هل تسمحُ لي بأرتدائِها ؟ أريدُ أن أرى حياةً أجمل .
قال : حسناً . أعطاها نظارتهُ فقامت بوضعِها فوقَ عينيها، إبتسمت حتى بانت أسنانُها وقالت : إني أرى حياةً أجملَ تلوحُ في الأفق !! سكتت قليلاً ثم قالت: ياعاشقَ أشجان : أشعرُ بالنعاسِ، لكنَّ عظامي تؤلٍمُني هل لكَ ان تُغني لي أغنيةً علني أنام ؟
قالَ : حسناً . راحَ يُغني ويقولُ : (هيلا يارمانه. الحلوه زعلانه. أشجان زعلانه. أنا أُراضيها .صائغ  تراجيها.هيلا يارمانه).بدأت تُنشدُ معهُ وتقول : (هيلا يارمانه. أشجان تعبانه. للجنه عطشانه. هيلا يارمانه ) . ظلت تُنشدُ حتى خفتَ صوتُها  ثُمّ تلاشى ، سقطت نظارتُها في حجرِها، وتوقفت عن الحركة.أخذَ الرجلُ النظارةَ ، وضعها فوقَ عينيهِ وهوَ يقولُ : بالنظارةِ تبدو الحياةُ أجملَ .

شكرا لكم