المحرر موضوع: الصورة  (زيارة 520 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل كريم إينا

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1311
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
الصورة
« في: 22:52 17/05/2021 »
الصورة


كريم إينا


قصّة قصيرة


كلّ شيء كانَ ساكناً في مكانه، إلاّ الأشياء التي كانت تحرّكُ رغبتها للبحث والتقصّي عن الصورة السحرية بكلّ ثقة وإصرار، وعند الفشل في الوصول إليها يسكنك الإغتراب عنوةً، تغيبُ معالمك ويحجبُ أفقكَ، فتصبحُ مجرّد ظلّ مسجون في زنزانة هذا العالم الفسيح، دائماً كانَ عمّها يفاجئها بهداياهُ الجميلة فتخرجُ أمامهُ على مفارق الطرق حينَ تراه تتراكضُ للوصول إليه بسرعة وإنتشال لعبتها المفضّلة منهُ، وغالباً ما تمضي النهار كلّهُ محتضنة في مخيلتها تلك الصورة التي تتمنّى أن تجدها. ولكن ما كلّ ما يتمنّاهُ المرء يدركه..... إلخ. ظلّت زمناً تمارسُ لعبتها تلك بحميمية مفرطة، إلى أن نسيت نفسها، لم تعد تشعرُ بالشيء الذي إفتقدتهُ، وكلّ ما يهمّها ما تشعر به حينَ تتلمّس لعبها من عمّها أيوب. وحينَ حانَ الموعد قالَ:لها عمّها إذهبي يا بنيّتي إلى غرفة جدّتك وأجلبي لي ماسحة التنظيف كي أنظّف بها باحة البيت حيثُ كانت الماسحة موضوعة هناك،عندما ذهبت الطفلة إلى الغرفة ساد عليها الحزن فبدأ يسري في أعماقها صمتٌ رهيب، وهي تجلبُ الماسحة من غرفة جدّتها نظرت إلى الأعلى فشاهدت جدّتها تتحرّك وتحدّثها من داخل الصورة، أصابها الهلع فأصبحت في حكم الغياب المؤبّد.لم تملك في تلك اللحظة غير الدهشة والسكينة فوقفت عاجزةً عن الكلام أمام الصورة وهي تحدّثها قالت: جدّتها لها ماذا تفعلين هنا يا بنيتي؟. حينها ردّت عليها أريدُ أن أجلبُ الماسحة لعمّي أيوب كي ينظّف باحة البيت بها، وفي تلك اللحظة غابت الجدّة المتحرّكة وأصبحت صورتها الجامدة داخل الإطار كما هي. لم تملك الطفلة حينها سوى الدموع الغزيرة لما جرى لها من مخاض عسير، وحين تهافت عليها القدر، قالت: لعمّها خذ الماسحة وهي تبكي بحزن عميق.نظر إليها بتحنّن وقال: لها لماذا تبكين؟. ما القصّة؟، ومن بريق عينيها ورفّة جفنها بدأت تقصّ عليه الحادثة والمياه المالحة تتسرّبُ من تحتها حتى تكادُ لا تعرفُ صورة وجهها! ولهذا كانَ موقفها هوالأصعب، وحلمها يتلاشى نحو المغيب، بدأ عمّها يقهقهُ من حلمها الساخر ويقول: لها أنت تحلمين. ما هذا الهراء؟. لم يكن لديها الجواب لأيّ سؤال عنها أو عن جدّتها، مجرّد كانت تتخيّلها مرسومة داخل إطار الصورة. وكانت تشردُ في صور أخرى ما عدا صورة جدّتها التي يظلّ السؤال يتردّدُ في نفسها: هل ما فعلتهُ جدّتي حقيقة أم كذب؟.بدأ اللون الأبيض يمتدّ في عينيها على مساحات الجدران، وبلمح البصر عادَ كلّ شيء إلى الحياة. ربّما إخترقت بوابة التاريخ المغلقة بنظرتها وحزنها وهزيمتها، ذات يوم إستيقظ الحزن من سكونها الأبدي رغم تعثّر نافذتها المشرقة ووحشتها الصامتة، بدأت تغسلُ وجهها بدموعها، ولكنّها لم تفلح في جرّ تلك الأصوات خارج ذاكرتها.لأنّ ما رأتهُ هو خارج حدود لياقتها وكأنّها تذوّقت من سحر الإكتشاف لم يكن كافياً لإرواء نفسها العنيدة الظامئة. كانت الكلمات توسوسُ في ذاكرتها، تُصدرُ أصواتاً صاخبة، تارةً ترى جدّتها جالسة على التنّور وتارةً أخرى عندما تغفو توقظها جدّتها من نومها. إنّ وقع خطى جدّتها بأذنيها ما زالت تستقطبُ موجات الحياة، وتترك قدميها تتولّيان القيادة. بعد عشر سنوات من الحادثة خدعتها ذاكرتها وفقدت قدماها المصداقية، أطلّ الصباح فإستقبلتهُ بقبلة مشرقة، وقطرات الندى تتغلغلُ بينَ أفكارها المخملية، وتخرجُ من سجن ذاتها، الصورة كانت أولّ إمتحان لها يتكوّرُ في نفسها. شعرت بالإرتياح أو ربّما بالإنتماء إلى تلك الصورة التي إكتضّت الأحداث فيها كجزء هام وضروري تستطيع التمرّد وإعلان عصيانها على كوّة فراغها. ولكن تلك الفكرة باتت لتجاوز عالم الوحشة بينها وبين عالم جدّتها،راحت ترسمُ بريشة صوتها عوالم أو مجسّات ملموسة كلّما سمعت المزيد عن تلك الصورة فتزدادُ إشراقاً في ذاكرتها،الآن لم يعد ما يشعرها بالإرتباك الذي كان يعتريها حينَ تقفُ متأملة بتلك الصورة في غرفة جدّتها، ولفرط سعادتها راحت تسمعُ أصواتاً تلتصقُ في ذاكرتها وكأنّها ترى بتلك الإذن صورة جدّتها، من يفنّدُ تلك الصورة ويُحافظُ عليها من الغبار وضباب الأزمنة، أعتقدُ أنّها نموذج متفرّد في عالم الصور، لا يمكن أن يمرّ يوم دونَ أن تتشوّقُ فيه لرؤية صورة جدّتها، ولكنّها حافظت على ثباتها رغم ثنايا قلبها البائس، مدّت ذراعها إلى الصورة طالبة من جدّتها التحدّث معها ولكن ليسَ من مجيب، إنتظرت سنين طوال على هذه الحال وهي متسائلة ببراءة متى سيأتي النور كي أرى جدّتي؟. قاطعتها بفرح جدّتها وقالت:سأكونُ هناك ضيفة شرف كلّما ناديتني، ومن شدّة فرحها بنطق الصورة جلبت سلّماً وصعدت إليها وقبّلت جدّتها بحب فوق جبينها وهي تغالبُ في إنفعالها لتكون على إتّصال مباشر مع روح جدّتها التي ما زالت تؤكّدُ للجميع بأنّها مجرّد ضيفة شرف جامدة في إطار الصورة ذهبت من هذه الحياة وستأتي في يوم الآخرة لتلتقي بها ثانية.