حوار مع عبد الحسين شعبان
حوار مع عبد الحسين شعبان؛ إعادة قراءة فكرية للربيع العربي بعد عشر سنوات على اندلاعه
إدارة الحوار: حازم نهارفي بداية الجلسة الحوارية، رحّب الدكتور حازم نهار بالدكتور عبد الحسين شعبان، وعرّف به، وألقى الضوء على مسيرته الحافلة بالعطاء، وذكر عددًا من إنجازاته الثمينة في مجالات عديدة ومتنوعة، الفكرية والسياسية والحقوقية والمدنية:
عبد الحسين شعبان
شكرًا دكتور حازم على هذه المقدمة التي أستحقها ولا أستحقها، والتي جاءت على جوانب مهمة من تجربتي الفكرية والثقافية، وأودّ أن أقول إننا إذ نتحدث عن تجاربنا أحيانًا، نتوقف قليلًا عند بعض جوانب النقد، والنقد الذاتي أيضًا على هذا الصعيد، ومن هذا المنطلق سأتناول موضوع الربيع العربي، في قراءة جديدة للمستجدات والمتغيرات التي رافقت تجربة الربيع العربي بعد عشر سنوات، وهي تأملات فكرية كنت قد قلت بعضها في السابق، وأعيد تأكيد هذا البعض مجدّدًا، كما أنني أتوقف عند بعض جوانب النظر والإعادة والتصحيح والتغيير في اتجاه قراءة جديدة تنطلق من أحوال الحاضر بعد مرور عشر سنوات.
دعني أقول لك دكتور حازم، وللذين يحضرون معنا هذه الجلسة التأملية الفكرية الحوارية، إنني يمكن أن أقارب المسألة من أربع أو خمس زوايا.
لو قاربنا هذه المسألة من زاوية المؤرخ، فيمكن الحديث بربط هذه الحادثة إلى جانب تلك، وهذا الموقف إلى جانب ذاك، لاستخلاص بعض الاستنتاجات المتعلقة بالربيع العربي، ولكن التاريخ كما تعلمنا من شيخنا الكبير هيغل، مراوغ وماكر، وخادع أحيانًا، فليس كل ما يكتب وكل ما يقال يمكن أن يوصل إلى النتائج المرجوة، لكننا إذا أردنا أن نتناول المسألة من الزاوية الإعلامية، أي أن نؤرخ للحظة بحسب ألبير كامو، فاللحظة لا تعكس حقيقة ما جرى، وما يجري، وحقيقة الرؤية المستقبلية لعملية التغيير والإنجاز المنشودة.
أما إذا أردنا أن نتناول البحث من زاوية السوسيولوجيا، وفقًا لابن خلدون، أو أوغست كونت، أو ماكس فيبر، أو علي الوردي، أو غيرهم، فإن السوسيولوجي لا يتنبأ بالأحداث، وإنما يحلل ما هو قائم بعد مرور مدة زمنية معينة ليتوصل إلى قراءة استنتاجية للمستقبل.
ربما يمكن التوقف عند الرؤية الحقوقية لموضوع التغيير، والحراك الشعبي، أو الانتفاضة، أو الثورة، فمن زاوية الحقوقيين، يمكن رؤية ما له علاقة بشرعية نظام الحكم أو عدم شرعيته، ومن زاوية المشروعية أو عدم المشروعية. فعندما أقول من زاوية الشرعية، فأنا أقصد قضيتين مركزيتين أساسيتين: الأولى هي رضى الناس، إذ لا شرعية حقيقية من دون رضى الناس، أما الشرعية الثانية فهي ما يمكن أن يُقدَّم من منجز حقيقي على صعيد الواقع العملي، وهذا يتعلق بشرعية أي نظام، وأي سلطة، وأي حركة، وأي تيار فكري أو سياسي، أما المشروعية فلها علاقة بحكم القانون، ومدى الاقتراب أو الابتعاد من حكم القانون. أحيانًا تسير الشرعية بعيدًا قليلًا عن المشروعية، فإذا اتحدت الشرعية مع المشروعية سنتوصل إلى استنتاجات مهمة جدًا: رضى الناس من جهة، والمُنجَز، وحكم القانون، وهذا ما تطمح إليه حركات التغيير التي كانت شعاراتها شعارات مبسطة لكنها في عميقة جدًا، شعارات تتحدث عن الحرية، عن المساواة، عن العدالة، وهذه لعمري قضايا محورية طرحتها حركة النهضة الأولى، أو حركة الإصلاح الأولى، في القرن التاسع عشر، وهي لا تزال قائمة إلى الآن.
سؤالان مركزيان يرتبطان ببعضهما بعضًا، ولا يمكن فصلهما: سؤال الحرية، وسؤال التنمية، والتنمية تتضمن مواطنة سليمة، والتي تقوم بدورها على أربعة أركان أساسية، فهي تقوم على الحرية، وتقوم على العدالة، وتقوم على المساواة، وتقوم على الشراكة والمشاركة، والتنمية تختلف عن النمو الاقتصادي، حيث يمكن لبلد معين أن ينمو اقتصاديًا، وقد حصل أن بلداننا حققت نموًا اقتصاديًا في العديد من المجالات، خصوصًا العراق، سورية، مصر، الجزائر، واليمن، لكنها لم تستطع أن تحقق التنمية المنشودة، بمعناها الحديث، أي التنمية الشاملة، بمعناها السياسي، والاقتصادي، والثقافي، والقانوني، وإصلاح الفكر الديني، أو المجال الديني، ومن ثمّ إصلاح الخطاب الديني، وإصلاح منظومة التعليم والتربية، فضلًا عن منظومة الإعلام، ومنظومة المجتمع المدني، ومنظومة القضاء، وكل ما يتعلق بعملية التغيير، وهذا ما حصل أيضًا في البلاد الاشتراكية السابقة، التي حققت نموًا اقتصاديًا، لكنها لم تتمكن من تحقيق تنمية شاملة ذات أبعاد إنسانية، وهو ما تطلق عليه أدبيات الأمم المتحدة تسمية “التنمية المستدامة”، بما يعني فتح خيارات جديدة للناس، وفتح هذه الخيارات تتوقف عليه عملية التقدم الاجتماعي والاقتصادي في جميع الميادين التي جرى الحديث عنها.
بهذا المعنى دعني أقول لك، إن عملية التغيير، والثورة، هي عملية مركبة، وعملية متداخلة، عميقة، فالثورة مثل الحب، لا يمكن أن يأتي مرةً واحدة، إنه يأتي تدريجًا، ويأتي بالتراكم، ويأتي بالممارسة، ولهذا يبقى الحب عصيًا على الفهم، تمامًا مثل الثورة؛ هي لا تأتي دفعةً واحدة، ولا تأتي مجهزةً أو كاملة أو نهائية، هي عملية تراكمية، وهي “بروسيس” طويل الأمد، وهي على حدّ تعبير المفكر السوري ياسين الحافظ: الثورة ليست نقرًا في السطح، وإنما حفرٌ في العمق، والحفر في العمق يختلف عن النقر في السطح. نطلق هذا التعبير الأخير على عملية تغيير جزئية، أو على انقلاب، أو على تحول ليس تحولًا جذريًا عميقًا بعيد المدى يترك تأثيرًا، أما الحفر في العمق فهو يحتاج إلى زمن، ويحتاج إلى وقت، ويحتاج إلى تراكم، ولهذا واجهت حركة التغيير طائفة من المنعرجات والمنحدرات والعقبات والعوائق، وتعرضت خلال مسيرتها إلى انكسارات، ولم تستطع ككل ثورة السير بصورة مستقيمة، وإنما كانت هناك دروب وعرة، ومفاجآت عديدة، ولا سيّما عندما دخل العنف والسلاح إليها، وأحيانًا بالضد من إرادتها، فأُجبِرَت عليها، أو اضطرت إليها، أو تناغم بعض أفرادها مع هذا التوجه، الذي لم يكن من كينونتها الأولى.
هنا علينا أن نفكر بالدرس التاريخي، والدرس التاريخي يتطلب التوقف عند ما حصل، أين نجحنا؟ وأين أخفقنا؟ وما أسباب الإخفاق؟ وما أسباب الفشل؟ ومن ثم ما السبيل لإنجاز عملية التغيير من دون الخسارات التي حصلت طوال هذه السنوات العشر؟ أكانت في البلدان التي حصل فيها التغيير، أو تلك التي أُنجِزَت فيها المرحلة الأولى من عملية التغيير، بانتهاء الأنظمة واستبدالها بأنظمة جديدة، أو في البلدان التي لم تنجح فيها عملية التغيير، بل سارت في دروب إلى درجة التيه أحيانًا، وفي طريق استخدام العنف والسلاح، والاحترابات الداخلية، والتدخلات الخارجية، والاستثمارات الأجنبية السلبية، التي آذت شعوب هذه البلدان، وأقصد بالتحديد، سورية، وليبيا، واليمن، وغيرها.
هنا أيضًا، لا بدّ من التوقف عند موضوع “بنية النظام العربية”، ولا سيّما الصراعات الداخلية التي عاشها ويعيشها النظام العربي الرسمي من جهة، وانعكاساته المجتمعية، ففي الغالب تأتي المُعارَضات على قدر ما تسمح به الأنظمة، وبهذا المعنى تكون أحيانًا صور بعض المعارضات وجهًا آخر لبعض الأنظمة، ولا سيّما تلك التي تراهن على اعتبارات أخرى غير الهوية الوطنية الجامعة التي لا بدّ من التمسك بها، لأنها تمثل وتجسد رؤية وطنية حقيقية لعملية التغيير، وهذه لعمري مسألة مهمة.
عندما يتّحد العامل الذاتي مع العامل الموضوعي، أي عندما تتوافر الحاضنة الاجتماعية الذاتية، وتلتقي مع الظرف الموضوعي، داخليًا وخارجيًا، ويحصل التراكم، ربما تحصل عملية التغيير بسلاسة أكبر في معظم الأحيان.
بماذا اختلفت حركة التغيير في مجتمعاتنا عن مجتمعات أوروبا الشرقية، أي البلدان الاشتراكية السابقة، وحتى عن بعض دول أميركا اللاتينية؟ في الحقيقة، تلاقت في تلك المجتمعات الحاضنة الاجتماعية للتغيير، الفئات التقدمية، مع الكنيسة، التي لعبت دورًا تحريريًا، سمي لاهوت التحرير، من أجل إنجاز عملية التغيير، والتخلص من أنظمة، والإتيان بأنظمة، أكثر انفتاحًا، بدساتير حديثة، أوصلت هذه البلاد إلى إجراء انتخابات حرة ونزيهة، وقطعت الطريق إلى حدود معينة على العامل الخارجي، الذي عاث في بلداننا فسادًا لا حدود له.
في أوروبا، يمكنني القول إنه يوجد أربع أو خمس مسائل أساسية امتازت بها علينا: المسألة الأولى، لا توجد أمية في أوروبا الشرقية، فكل أوروبا الشرقية كانت قد قضت على الأمية منذ حين، بسبب النظام الاجتماعي والسياسي السابق، وهذه مسألة تُسجل لمصلحة عملية التغيير، في حين أن الأمية ما تزال ضاربة الأطناب في مجتمعاتنا، بل إنها ازدادت في السنوات الأخيرة، ويكفي أن أقول إن أكثر من 70 مليون أمي يعيشون بين ظهرانينا في العالم العربي، أي إنهم يساوون أكثر من 20 في المئة تقريبًا من مجتمعاتنا العربية، هذا ما يتعلق بالأمية الأبجدية، أما الأمية التكنولوجية، فحدث دون حرج.
أما المسألة الثانية، فهي أن دور الدين كان ضعيفًا في أوروبا الشرقية، فيما لا يزال دور الدين في مجتمعاتنا قويًا، بل إنه انقسامي في الكثير من الأحيان، بسبب الصراعات الطائفية، والمذهبية، المتخلفة. وكانت المسألة الثالثة أن للمرأة حقوقًا في أوروبا الشرقية ليست متوافرة في بلداننا، لا على الصعيد القانوني، ولا على الصعيد الاجتماعي، ولا على صعيد العمل، والمساواة في الأجور، والرواتب، وغير ذلك من القضايا.
أما المسألة الرابعة فهي أن التقدم الاجتماعي، بغض النظر عن طبيعة الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية، كان قياسًا ببلداننا متقدمًا إلى حدود كبيرة، بل إن هنالك استعدادًا لقبول الجديد، ولقبول عملية التغيير مجتمعيًا، ولذلك كانت الهبة شاسعة، واسعة، عميقة، في تلك البلدان.
أضيف إلى ذلك المسألة الخامسة التي تتمثل بأن دول الجوار الأوروبي كانت تمتاز ببنية ديمقراطية قابلة لعملية التغيير، في حين أن البنية التي تعيشها مجتمعاتنا ودول الجوار التي حولنا ليست مهيئة لقبول عملية التغيير، لأنها هي أيضًا تحتاج إلى عملية إعادة نظر، وتغيير، وعملية مراجعة نقدية جادة.
لهذه الأسباب أقول إن التغيير كان هناك سلسًا، وكان سلميًا، وكان بعيدًا عن عوامل التعصب والتطرف التي شهدناها بعد مدة قصيرة من عملية التغيير التي شهدتها مجتمعاتنا، خصوصًا مع صعود التيار الديني الطائفي الذي تربع على سدة الحكم في بعض البلدان، وشكل كابحًا كبيرًا لعملية التغيير.
لكن، على الرغم مما حصل، فإن الانتفاضات حتى لو تلكأت، أو تعثرت، أو تراجعت، أو ارتكست، أو نكصت، هي مثل الريح الخفيفة التي تسبق المطر، وهي ريح منعشة، ستأتي أكلها آجلًا أم عاجلًا، والأمر يحتاج إلى زمن، وإلى تراكم، وإلى قراءة جديدة، وإلى نقد جديد، فلم تمر الثورة الفرنسية بطريقة سلسة، فقد قُتل، خلال السنوات السبع الأولى، أكثر من أربعة ملايين إنسان، لكن النتائج جاءت بعد مئة عام، أو أكثر من مئة عام، خصوصًا في ما يتعلق بهيكلية الأنظمة باتجاه الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وتلك هي قيم إنسانية ما زال العالم يتحدث عنها إلى يومنا هذا.
لقد عانت مجتمعاتنا العربية، وعانى فكرنا العربي، من الركود، والاتكالية، والتعويلية؛ إذ كانت مجتمعاتنا غير منتجة فكريًا، وفقدت الكثير من عناصر الحيوية، وأدت، أو قادت، إلى نكوص في الإبداع والابتكار، بل إننا عشنا في الماضي، محاولين اجترار الماضي بكل تقليدية، واستكانة. الأمر يحتاج إلى قراءة جديدة، بعقل منفتح، ومرونة حركية ضرورية، خصوصًا بالتوقف عند موضوع العنف الذي صاحب بعض الحركات، باعتباره مستلزمًا من مستلزمات التغيير، وماذا لو لجأت القوى الحاكمة إليه، فما السبيل لتلافي الانخراط فيه؟
أكتفي بهذا القدر، وأترك للدكتور حازم الحديث، وللأخوة الذين يحضرون معنا في هذه المنصة، وشكرًا.
حازم نهار
شكرًا دكتور عبد الحسين على هذا العرض، وفي الحقيقة إن ما تفضلت به يحرض على النقاش على المستوى الفكري في نقاط عديدة جدًا.
فمثلًا فكرة أن الثورة هي حفر في العمق، وهي كذلك فعلًا، فكل الثورات التي حصلت على امتداد المنطقة العربية، أعتقد أنها حفرت في العمق، لكن نتائج الحفر في العمق، أنتجت إلى السطح مسألتين مهمتين، أعتقد أنهما كانتا حاسمتين في مسار الربيع العربي: هذا الحفر في العمق أظهر لنا الدولة العميقة في كل بلد عربي، وعندما ظهرت الدولة العميقة إلى السطح، التي من الممكن أن تكون أحيانًا العسكر، وأحيانًا أخرى منظمات ومؤسسات بيروقراطية، ومدنية، وإلى غير ذلك، أعتقد أنها استدعت وأظهرت إلى جانبها المجتمع العميق، ما يعني أننا ظهرنا خلال السنوات العشر الماضية وكأننا لا نعرف بلداننا ولا نعرف شعوبنا. ظهرت كل العيوب العميقة ضمن المجتمع.
هذه الثورات التي حفرت في العمق، وأظهرت إلى السطح، الدولة العميقة، والمجتمع العميق، كيف يمكن لها، مقارنةً بأوروبا الشرقية، أن تنتج دولًا طبيعية وشعوبًا طبيعية؟
عبد الحسين شعبان
شكرًا جزيلًا، أعتقد أن هذا جوهر الفكرة الرئيسة التي وددت التوقف عندها في هذه المراجعة، خصوصًا ما أنتجه حركات التغيير، أو الانتفاضات، من قضايا جوهرية، تحتاج إلى إعادة نظر، في الكثير من الأحيان، حول بعض المسلَّمات.
إلى وقت قريب، كنا نقول، ونردِّد، بتنغيم أحيانًا، أن لا حركة ثورية بلا نظرية ثورية، ولا نظرية ثورية من دون طليعة ثورية. لاحظ أن حركة التغيير تجاوزت مثل هذا المفهوم الكلاسيكي الذي تحدث به لينين قبل نحو ثمانين أو تسعين أو مئة عام. لقد ضمر دور الدعاة الحزبيين الأيديولوجيين العقائديين في حركة التغيير الأخيرة، ولم يعد أحد ينتظر أن يستلم التعليمات من الوكر الحزبي، أو من مقر هذا الحزب أو ذاك، أو حتى من صاحب هذه العمامة أو تلك، وإنما كانت حركة الشارع حركة عميقة في اتجاه التغيير، وهي نقيض للدولة العميقة، ونقيض للمجتمع العميق، الذي ظهرت عيوبه لاحقًا.
أي ثورة في الكون، وكل الثورات في العالم، أخرجت أنبل ما في الإنسان من كينونة، وأظهرتها إلى السطح، التضحية، التفاني، الشجاعة، البسالة، نكران الذات، الاستشهاد…إلخ. وأظهرت كذلك أحقر ما في البشر، من وسائل، ومن خسة ودناءة.
كل الثورات في العالم هكذا، لذلك حدث نوع من الاستقطاب والاصطفاف، وهذا الاصطفاف دفع بالثوريين الحقيقيين، وبدعاة التغيير الحقيقيين، أحيانًا، إلى الخلف، وتصدر المتطرفون الصراع، فأصبح صراعًا بين دولة عميقة، مع جزء من المجتمع العميق، في نقض الدولة العميقة، وكأن هذا العمق انقسم إلى قسمين، واحترب فيما بينه، وبقي الذين يريدون التغيير الحقيقي، والذي يسعون سلميًا إلى تطوير المجتمع، وإلى إيصاله إلى جادة الصواب، وإلى منصة التغيير الحقيقية، خارج الملعب، لا يريد أحد أن يلعب معهم، بسبب اعتدالهم، وبسبب رغبتهم الحقيقية في التغيير، وهذه مسألة يجب التوقف عندها.
لم تعد الرومانسية القديمة كافية لأن تدفع الناس للمشاركة، إنما بشعارات بسيطة، عبر الانترنت، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، كان الناس يجتمعون في المحتشدات، وكأن الأمر يذكرنا بعصر ماركس، وعصر المداخن حيث هبت جماهير العمال والناس مجتمعين لتحطيم الآلة التي سحبت منهم أعمالهم، والتي أدت إلى دفعهم إلى جادة البطالة.
لم يكن هناك قائد ملهم في كل الثورات، ولم يكن هناك زعيم لا يصله النقد، لا من قريب ولا من بعيد، وإنما كان هناك نوع من التشاركية، ونمط جديد من الممارسة الاجتماعية، بالشعارات المبسطة، خصوصًا أن الثورة، لم تتخذ بعدًا تآمريًا كما تجري عادةً الانقلابات العسكرية، والأعمال العصبوية، التي تقوم بها حركات، في جنح الظلام. بل كانت حركة احتجاج، علنية، سلمية، واضحة، محددة، في التوقيت، وفي المكان، وفي الزمان، وهذا لعمري أمر جديد نحن في حاجة إلى التوقف عنده.
لم تكن الثورة ذكورية، فقد ساهمت المرأة بصورة كبيرة جدًا في موضوع التغيير، استنادًا إلى مبادئ المواطنة، والمواطنة طُرِحَت هنا بصورتها المبسطة، بعيدًا عن “الصفصفات”، وبعيدًا عن التعويذات، التي سمعناها على مدى عقود من الزمان، والتي تعارضت فيها الوطنية مع التغيير الاجتماعي أحيانًا، ما أنتج أنظمة استبداد شمولية. تعارض التغيير الاجتماعي مع الوطنية ماذا سينتج أيضًا؟ سينتج تعويلية على الآخر، وهذا أمر تخطته هذه الحركة.
تطرح هذه الحركة أيضًا إشكالية قديمة في الفكر اليساري الكوني، ففي العام 1905 دار حديث، بل تبادل نقد، بين بليخانوف ولينين، فقال بليخانوف، وهو أبو الماركسية والمنظر الأكبر فيها، للينين إن استخدام العنف كان مثل لعب الأطفال، مستنكرًا ذلك، فأجابه لينين، العقل الثوري الداعي إلى التغيير العنفي، إن استخدام العنف لم يكن بما فيه الكفاية، بمعنى أنه كان علينا أن نستخدم العنف على نحو أشد وأعمق وأكثر. هذا الأمر لا يزال يناقش لدينا أيضًا، هل نستطيع أن ننجز عملية التغيير سلميًا؟ خصوصًا في ظل اختلال توازن القوى. وماذا لو تمسكنا بعملية التغيير السلمي إلى النهاية؟ هل سنصل إلى ما وصلنا إليه؟ أم ثمة تغييرات وضغوط ربما ستحصل؟ لا أتحدث أنا من جانب التفاؤل المفرط، ولا أريد أن أناقش المسألة من جانب التشاؤم المحبط، وإنما أقول إن اللحظة الثورية تنبغي قراءتها على نحو دقيق، وإلا يمكن أن تؤدي إلى إجهاض مشروع التغيير، ومن ثمّ تعطيل عملية الثورة، وربما وضع عقبات جديدة أمامها لعقد أو عقدين أو حتى ثلاثة عقود من الزمان.
ربما ماوتسي تونغ يجيب عن هذه المسألة من زاويته العنفية أيضًا، إذ يقول إن الثورة ليست مأدبة، أو كتابة مقالات، أو رسم صورة، أو تطريز ثوب، بل هي عمل عنيف تلجأ إليه الطبقات.
لو أخذنا هذا الكلام على محمل الجد، وأبعدنا العنف، لأن المرحلة اختلفت، يمكن أن نصل إلى ما قال به ماوتسي تونغ؛ إنه ما إن تنضج الظروف الموضوعية متّحدة مع الظروف الذاتية، فإنه في لحظة التلاقي هذه ستكون الشرارة قد امتدت لتحرق السهل كله، أي إنها ستصل إلى النهاية.
بالسلاح، في تقديري، ستكون الدولة العميقة أقوى، وبالعنف، ستكون الدولة العميقة أجدر، وبالتبرير ستكون الدولة العميقة أقدر. والدولة العميقة لا يهمها حين يتم استخدام وسائل تتذرع بها، أو تتعكز عليها، لتبرير غاياتها، بزعم أن هذه الحركة مرتبطة بالخارج، وأنها ممولة أجنبيًا، وأن التدخل الخارجي يريد تهديد وحدة البلاد، وسيادتها، ويريد الانتقاص من الهوية، بتدمير الهوية، وتقزيم سياسة هذه الدولة، وبالتالي جعلها عرضةً للتفتت، وعرضةً للتقسيم، والتشطير، خصوصًا باستخدام وسائل غير قليلة.
حازم نهار
في الحقيقة، ما تفضلت به، هو ما حصل خلال المرحلة الماضية في سورية، أي صعدت الدولة العميقة، وصعد المجتمع العميق، وخرج المجتمع المدني، والمجتمع السياسي، خارج المعادلة السياسية في سورية.
في سياق إعادة قراءة تجربة السنوات العشر الماضية، على الرغم من أنه لم يمض بعد وقت طويل، كي نقدم قراءات، أو سرديات، أقرب إلى الموضوعية، هناك مشكلة نعانيها دائمًا في قراءة التاريخ، وأعتقد أن المستبدين يعرفونها، ويستندون إليها.
فمثلًا، يُعدّ بسمارك، بالنسبة إلى الألمان، وفي سياق التاريخ الألماني، الشخص الذي وحّد ألمانيا، وهو الذي بناها، لكنه في زمنه لم يترك وسيلة من وسائل الشر إلا واستخدمها. ما أريد الإشارة إليه هنا هو اختلاف النظرة إلى بسمارك في زمنه عن النظرة إليه في سياق التاريخ الألماني.
والسؤال هنا، إذا أردنا أن نعيد قراءة تاريخ الربيع العربي خلال السنوات العشر الماضية من منظور رؤية إلياس مرقص إلى مفهوم الثورة، عندما ربط بين الثورة والتقدم، بمعنى أن أي ثورة إذا لم تنتج التقدم لا يبقى اسمها ثورة، فهل يمكن استخدام هذا الميزان في إعادة قراءة التاريخ، تاريخ الثورات، من جانبنا نحن الذين ما زلنا ممتلئين عقلًا وقلبًا ووجدانًا بالربيع العربي؟
عبد الحسين شعبان
أشكرك جدًا على هذه الإشارة، خصوصًا أنها ذكرتنا بالصديق إلياس مرقص، وأحيي أيضًا مؤسسة ميسلون على استحضارها في ملف خاص، في العدد الأول من مجلتها (رواق ميسلون)، الصديق إلياس مرقص بعد ثلاثين عام على وفاته، وأقول دائمًا إن أعمال إلياس مرقص في حاجة إلى إعادة طباعة، وتنقيح، وإعادة قراءة، وحبذا لو عُقدت حولها أكثر من ندوة، في جوانبها الفلسفية، أو الفكرية، أو الثقافية، فضلًا عن رؤيتها الاستراتيجية، فقد كان إلياس مرقص رؤيويًا، وكان نصف عقله ربما يعيش في المستقبل، وقلت، وأقول مرة أخرى، إنه سبقنا بأكثر من عقدين من السنوات، في استنتاجاته، وفي تحليلاته، وفي رؤيته، وفي نقده. ومن هذه الزاوية يمكن أيضًا أن ننقد المعارضة، خصوصًا أن بعض أطرافها انجرت إلى العنف، أو وافقت عليه، أو عدَّته من مسؤولية الطرف الآخر، سواءً في اليمن، أو ليبيا، أو سورية، أو غيرها.
بقدر ما تكون عملية التغيير معقدة ومركبة، ويكون لها خصوم أشداء وأقوياء، فعليها أن تربط دائمًا الوسيلة بالغاية، فلا غاية شريفة وعادلة من دون وسائل شريفة وعادلة، أي لا يمكن أن توصلك وسيلة خسيسة وإجرامية إلى هدف سامٍ ونبيل. يقول المهاتما غاندي، إن الغاية إلى الوسيلة هي مثل البذرة إلى الشجرة، لأنهما مترابطتان، البذرة والشجرة، فالبذرة من الشجرة، والشجرة من البذرة، وهكذا فهما متلاحمتان، لا يمكن فصلهما، كما الوسيلة والغاية.
لاحظ أن المهاتما غاندي كان قائدًا للمقاومة المدنية السلمية، ومثَّل رمزية كبيرة بتبنيه قضية اللاعنف، واستطاع أن ينتصر باللاعنف على أكبر إمبراطورية في العالم آنذاك، المملكة المتحدة (بريطانيا)، وحصل على الاستقلال في عام 1947، عبر نضال مرير، وجَسور، وشجاع، بلا حدود، واستطاع أن يحرِّض ملايين البشر ليقفوا معه في قضية اللاعنف، وقد حاولت بريطانيا أن تجره إلى العنف في أكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبة، لكنها فشلت فشلًا ذريعًا في ذلك، وهو الأمر الذي حرض حتى الرأي العام البريطاني، والعالمي، لتحقيق النصر في مواجهة الآلة الحربية البريطانية.
ليس هذا فحسب، بل دعني أستذكر معك أيضًا شخصية ريادية، في قضية اللاعنف أيضًا، وهو من الهند الكبرى، اسمه عبد الغفار خان، وعبد الغفار خان هو غاندي المسلم، أسَّس جيشًا لاعنفيًا قوامه مئة ألف، وكان أنصاره يتسابقون ليقدموا صدورهم للرشاشات البريطانية التي كانت تحصد منهم بالعشرات، في مقاومتهم السلمية اللاعنفية، وقد دفع ثلث عمره الذي قارب التسعين عامًا، في السجون، سواءً السجون البريطانية قبل الاستقلال، أو السجون الباكستانية لاحقًا، بعد انفصال الهند عن الباكستان، لكن شعبه وهو من قبيلة (البيشتونغ) استقبله استقبال الأبطال في باكستان، ومنحته الهند جائزة الدولة، أول مرة تُمنح لشخص غير هندي، فهو باكستاني الأصل بحسب الجنسية، ومن أصول أفغانية، وسارت مسيرة كبرى، لدفنه في أفغانستان بعد وفاته في عام 1988.
هذه التجربة، في تقديري، تجربة مهمة، وتجربة نقدية أيضًا للمسار، إذ لا يجوز أن نعلق كل شيء على الآخر، بل يجب أيضًا أن نبحث عن نواقصنا، وعن ثغراتنا، وعن مثالبنا، وعن عيوبنا، وعن استسهال علاقتنا مع الدول الأجنبية، وعن ضعف الوطنية أحيانًا، وبهذا المعنى نحن نحتاج أيضًا إلى ترميم الخطاب الفكري والثقافي لحركة التغيير، لأنه خطاب لم يعد يصلح في ظل الاصطفافات والاستقطابات الجديدة، وأدى، على أقل تقدير، إلى استمرار الصراع لسنوات غير قليلة، الأمر الذي أنجب فوضى، وأنجب انهيارًا في المنظومة السياسية الإنسانية والأخلاقية، ومزق النسيج الاجتماعي، وظهرت النعرات العصبية، الطائفية، والمذهبية، والإثنية، والهويات الفرعية التي يفترض أن تحترم وتقدر في إطار الهوية الجامعة، المانعة، باحترام حقوقها السياسية، والإدارية، والثقافية، كجزء من المكون الاجتماعي في العديد من بلدان المنطقة.
في تقديري، إن الاشتغال على الإنسان يحتاج إلى وقت، ولذلك ربما ستتأخر عملية التغيير التي كنا نحسبها قاب قوسين أو أدنى، لعقد آخر، وربما لعقدين من الزمن، وعلينا أن نتوقف خلال هذه المدة لنحدِّد ماذا نريد، وكيف يمكن أن يستمر (بروسيس) التغيير من دون توقف، لكن بوسائل وأساليب جديدة.
وفي رأيي، لا بدّ من إعادة السؤال مجدّدًا: قبول التنوع، والتعددية، في هذا المجتمع، بمعنى حرية الاختيار، وتوسيع خيارات الناس، هذا سؤال مهم وهو سؤال القرن التاسع عشر أيضًا، سؤال محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، والطنطاوي، والكواكبي، وخير الدين التونسي، وغيرهم، الذين دعوا إلى دولة مقيدة بدستور، فيها قانون، وفيها نظام. بعد قرن ونصف من الزمان، لا بدّ من توسيع عملية التغيير، وهذا يصب في عملية التنمية، وهذا هو التغيير الناعم طويل الأمد؛ إذا لم نكن نحن، جيلنا، أو حتى الجيل الذي يلينا، قادرًا على إنجاز عملية التغيير، فعلى أقل تقدير ينبغي لنا أن نرسم خطًا طويلًا للتغيير الذي يمكن أن ينجز بعد عقد أو عقدين من الزمان.
لا بدّ من توفير بعض المستلزمات، أولها التعليم، فلا بدّ من القضاء على الأمية، والقضاء على الأمية هو المسمار الأول في يافوخ التخلف، في العالم العربي، وتغيير التعليم يحتاج إلى إعادة النظر في المناهج الدراسية، وإعادة النظر في أنظمة التعليم، وفي طرائق التدريس، وفي علاقة الطالب بالأستاذ، وفي حرية التعبير، هذا كله جزء من إنجاز عملية تغيير التعليم، وهذا كله يحتاج إلى عملية تغيير طويل المدى، بطيئة ربما، لكنها بالتراكم ستؤدي إلى تغيرات نوعية أكيدة، ولا سيّما إذا ارتبط هذا بتوفير أوضاع صحية أقرب إلى عملية التقدم، أي توفير مستلزمات الصحة للناس، والحفاظ على صحة الناس.
لا ينبغي العمل فحسب على الشعارات الكبرى، فنحن نبدأ من إسقاط النظام أحيانًا، وننسى عملية تبليط شارع، أو بناء مستوصف، أو تحسين بناية مدرسة، وتوفير الخدمات البلدية، والخدمات البيئية، وتحسين أنظمة الإدارة، أو غير ذلك من المسائل المطلبية التي لو راكمتها مدة زمنية طويلة، ربما ستعيد لعملية التغيير قدرتها وفاعليتها، ، وهذه المسائل قد يصطف معك فيها جزء من أجهزة الدولة فيما تذهب إليه، ويخفف من المركزية والصرامة الشديدة، وأحيانًا تستطيع أن تفكِّك ما تريد، لكن خلال مدة زمنية طويلة، ولا سيّما إذا ارتبط الأمر بحكم القانون، وبإصلاح منظومة القضاء، وبتحسين نظام المعلوماتية، واقتصاد المعرفة، وهذا كله قد يحتاج إلى أوضاع طبيعية، لا إلى أوضاع استثنائية، أو أوضاع حرب أهلية، أو غير ذلك.
في خلاصة الأمر أقول، تبقى التنمية، والاشتغال على الإنسان، مسألة ضرورية، قد لا يكون الحسم متوافرًا، وقد يكون الحسم أحيانًا خطرًا، ولا سيّما أنه قد يؤدي إلى الانشطارات، وإلى الافتراقات، وإلى التمزقات، وإلى تحطيم الوحدة الوطنية، وتمزيق النسيج الوطني، ولذلك لا بدّ لكل حريص في السلطة والمعارضة، من التفكير في البدائل السياسية الممكنة، التي يمكن التوقف عندها.
ربما يكون خطابًا من هذا النوع خطابًا عموميًا وغير شعبوي. نعم إنه خطاب نابذ للعنف، ونابذ للطائفية، والتعصب الإثني، وهو خطاب يأخذ في الحسبان جميع الحقوق، خصوصًا في بلدان متعددة القوميات، ومتعددة الثقافات، إذ لا بدّ من الانتباه إليها في رؤية مستقبلية دستورية قانونية تؤسِّس لدولة يطلق عليها البعض دولة مدنية، ويمكن أن يسميها البعض الآخر دولة قانونية أو دولة حديثة عصرية، يمكن أن تنتج شيئًا جديدًا، مختلفًا عما هو قائم.
حازم نهار
شكرًا دكتور، في الحقيقة كنت أريد أن أنتقل إلى أسئلة الحضور، لكن في سياق حديثك، أغراني سؤال عن مسألة الخطاب الثقافي، فأنا أرى مثلًا أنه في ظل الهزائم والانكسارات، هناك دور مهم، وأساسي، ومركزي، للمثقفين، وهناك أهمية كبيرة لإطلاق ثورة ثقافية. أذكر مثلًا أن محمد حسنين هيكل تحدث عن الوضع في مصر بعد هزيمة الـ 67، إذ أشار إلى أن صحيفة الأهرام تحولت إلى منتدى ثقافي، وإلى جبهة ثقافية، يشارك فيها المثقفون المصريون والعرب من كل التيارات، وكانت الأسئلة والجدالات بينهم تدور دائمًا حول الهزيمة، كيف حصلت، ولماذا حصلت، وكيف يمكن تجاوزها، وما أدوار الفئات الاجتماعية المختلفة، وما أدوار المثقفين، والسياسيين، وغير ذلك.
اليوم، ما زال مسار الربيع العربي قائمًا، لكن بعد مرور عشر سنوات على انطلاقه، أنا أشعر أنه لا توجد، على المستوى الثقافي في كل بلد عربي، وعلى المستوى العربي بشكل عام، إعادة قراءة ثقافية، ولا توجد جبهة ثقافية، البعض يسميها الحصن الأخير، وأنا في رأيي هي الحصن الأول والأخير. أنا أتحدث عن الثقافة، والجبهة الثقافية، وأعتقد، كما يقول ياسين الحافظ، لا خوف على مجتمع توافر على إنتلجنتسيا واعية ومنظمة.
أصبحنا نحسد هزيمة الـ 67 بسبب ما أنتجته من مثقفين كثيرين أعادوا قراءة التاريخ والثقافة والخطاب بصورة نقدية، مثل صادق جلال العظم، وسعد الله ونوس، وياسين الحافظ، وغيرهم، ما أدى إلى حدوث تطورات فكرية هائلة ردًا على الهزيمة، فهل يمكن اليوم القيام بإعادة بناء الحقل الثقافي، أو الفضاء الثقافي؟
عبد الحسين شعبان
أعتقد أن القضية الأولى في هذا الشأن، أنه لا بدّ من فتح حوار، الحوار ضروري جدًا، حوار بلا شروط، حوار مفتوح، بلا تخوين، بلا اتهامات، حوار أساسه ولحمته الأساسية هو سؤال ما العمل، وكيف يمكن إنجاز عملية تغيير، بأقل قدر ممكن من الخسائر، وأعتقد أن هنالك صراعًا داخل النخب نفسها، أي أن النخب الثقافية والفكرية منقسمة: قسم منها كان يخشى من انحلال الدولة، ومن الفوضى، ومن انكشاف مدى علاقتها واستفادتها من الأوضاع القائمة، وقسم آخر لم يكن يعنيه شيء، وكان يريد إنجاز التغيير بأي ثمن. لا هذا ولا ذاك أظنه يمثل جوهر المثقف الحقيقي بالمفهوم الغرامشي، المثقف العضوي؛ فالمثقف العضوي وفقًا لغرامشي هو الذي ينطلق من تشاؤم الواقع وتفاؤل الإرادة، وبهذا المعنى كان يمكن للنخب أن تتبنى موضوع الحوار، خصوصًا أن بعضها، كما قلت، كان قد وقف في البدايات خارج دائرة الانحياز لرأي الناس، ولِما يطالب به الناس، بزعم إما أنه غير سياسي، أو خارج دائرة السياسي، أو أنه تكنوقراط، أو ربما خشيةً على الوطن من الانحلال والتمزق، لكن بعضهم الآخر غالى أيضًا في توجهاته ولم يكن يهمه أي شيء، واندفع أحيانًا للتعاون مع جهات أضرّت بعملية التغيير، وهذا الأمر في حاجة إلى إعادة نقاش، وإلى إعادة رؤية.
عانى المثقف، تاريخيًا، من أربع سلطات أساسية كابحة، دُجِّن المثقف، واضطر بعضهم إلى إحراق البخور للسلطان، مثلما اندفع بعضهم الآخر للتعاون مع الخارج من دون ضوابط ومعايير. عانى المثقف من سلطات استبداد طويلة الأمد أحيانًا، وعانى من سلطة الدين، من السلطة الثيوقراطية الدينية الكابحة، وعانى من سلطة المجتمع في الكثير من الأحيان، تحت عناوين العشائرية والقبلية والمناطقية وغير ذلك، وعانى أيضًا مما سمي بسلطة التقاليد، وهذه التقاليد ثقيلة في كثيرٍ من الأحيان، لذلك فإن إعادة النظر في الخطاب الثقافي ضرورة، وكل إعادة نظر في الخطاب الثقافي لا بدّ أن ترتكز على إعادة نظر في الخطاب الديني، ولا يمكن إعادة النظر في الخطاب الديني أو الخطاب الثقافي إلا بإعادة النظر في الفكر الثقافي، وفي الفكر الديني، وإعادة النظر في الثقافة السياسية، وفي السياسة الثقافية. هناك تلازم بين المسائل؛ لا بدّ الآن من معرفة كل قضية كيف تؤثر على المثقف. أنا مثلًا رسام، كيف أثرت حركة التغيير فيّ؟ أين اللوحة؟ أين المسرحية؟ أين الفيلم السينمائي؟ أين الموسيقى؟ أين الكتاب النقدي؟ أين البحث الاجتماعي السوسيولوجي؟ أين المجتمع المدني أيضًا؟ هناك حالة من النكوص، والنكوص تعمّق مع العنف، فما أن اندلع العنف، حتى ارتكست وسائل التغيير السلمية لمصلحة قضية العنف، والعنف دفع بحركة المجتمع المدني، وبقوى التغيير الحقيقية إلى الخلف، خصوصًا تراجع الحواضن الاجتماعية لعملية التغيير، لذلك فوجئنا وأنت أشرت بذكاء كامل إلى أنه ليس المطلوب الحديث عن الدولة العميقة فحسب، بل الحديث أيضًا عن المجتمع العميق، فهل هذا المجتمع هو فعلًا الذي عشناه ونعرفه ونزعم أننا كنا نناضل من أجل تغييره؟ أم أنه مجتمع آخر؟ ظهرت المظاهر الأنانية، والسرقات، والاستحواذ على المال الخاص والعام، والتدمير، وعدم الشعور بالمسؤولية، والنعرات الطائفية والمذهبية، والنعرات الدينية العنصرية. لقد حدث نوع من الخلط، والاشتباك المجتمعي، الذي يحتاج إلى فرز، وإلى عملية بناء، قد تستغرق عقودًا من الزمان.
وأنا لاحظت وألاحظ ما حصل للمجتمع العراقي بسبب الحروب التي عاشها، حيث عاش المجتمع العراقي ثماني سنوات من الحرب العراقية الإيرانية، ثم كانت عملية احتلال الكويت، المغامرة اللامسؤولة، والتي لم يكن لها أي مبرر، والتي أعقبتها حرب قوات التحالف ضد العراق عام 1991، ثم عاش الشعب العراقي حصارًا دوليًا جائرًا مدة 12 عامًا، ومنذ عام 2003 إلى الآن عاش احتلالًا مزدوجًا ومركبًا، وبتدخلات خارجية عميقة، من جهة قوات الاحتلال الأميركية والبريطانية وقوات التحالف الدولي، ومن جهة وجود إيراني وذراع إيراني مؤثر في العراق بحيث أصبحت الدولة العراقية والحكومة العراقية والمؤسسات العراقية منشطرة بين هذين الاتجاهين، وضاعت الهوية الوطنية العراقية، وضاعت الوحدة الوطنية العراقية، في ظل هذه التجاذبات الخارجية الخطرة، إلى درجة أن عملية التنمية ظلت معطلة طوال هذه السنوات. العراق وصل عام 1978 إلى أن يفاخر بأنه وضع حدًا للأمية، وكاد يقضي عليها وفقًا لليونسكو، وتقدم في ميدان التعليم، وفي ميدان الصناعة والزراعة والبعثات وغير ذلك، لكن الانحدار بدأ منذ الحرب العراقية الإيرانية، وإلى اليوم نحن لم نخرج من هذه الدوامة.
يمكن بناء سورية غدًا، وبناء اليمن، وبناء ليبيا، ولكن كيف يمكن بناء الإنسان؟ بناء الإنسان هو الأساس، ولا يمكن أن يحدث أي تحول من دون الإنسان، لذلك أقول مرةً أخرى، إن الأمر يحتاج إلى تراكم، ربما طويل، وبنفس طويل، وبرؤية بعيدة المدى، وبالتراكم يمكن أن يُعاد بناء الإنسان، وأن تعاد التنمية المستدامة.