بمناسبة تسلمها رئاسة الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان في إقليم "كوردستان" - العراق
------------------------------------------------------------------------------------
الدكتورة منى ياقو... نظرة مقارنة بين الجامعة والهيئة
===========================================
أبرم شبيرا
أستبشر الكثير من أبناء شعبنا بتسنم الأستاذة الدكتورة منى ياقو لمنصب رئيس الهيئة العامة المستقلة لحقوق الإنسان في إقليم "كردستان" (الهيئة) بعد أن صوت أكثرية أعضاء برلمان الإقليم لصالحها، فأنهالت على مواقع التواصل الإجتماعي العديد من هذه البشائر والتهاني بهذه المناسبة لما للدكتورة مكانة مرموقة على الساحة العلمية والثقافية خاصة في مجالي السياسة والقانون وتكريس الكثير من معارفها الأكاديمية ومواقفها الفكرية في البحث والتقصي في مسائل مهمة تخص شعبنا "الكلداني السرياني الآشوري". كنت أتمنى أن أشارك المهنئين للدكتورة لتوليها هذا المنصب الجديد، ولكن وجدت في تسنمها لهذا المنصب الوظيفي أمراً آخر لا يصب في خانة التهاني والتبريكات، لأن، بأعتقادنا أن موقع الدكتور منى الجديد لا يتماشى مع موقعها الأكاديمي المتكلل ببحوث ودراسات قيمة، سواء أتفقنا معها أم لم نتفق، ولا يتناسب مع قدرتها الأكاديمية في البحث والدراسة التي تنطلق من كونها من الكوادر التعليمية المعروفة في جامعة صلاح الدين في أربيل. أي بعبارة أخرى، أقول بأن رحابة الجامعة، كمنبر للبحث والدراسة والتعلم، كان يتيح لها أجواءاً مناسبة وزخماً قوياً للمزيد من العطاء في الفكر والبحث والكتابة، فكان من نتائجها العديد من البحوث والدراسات والكتب القيمة، ولعل كتابها الموسوعي المعنون "حقوق الأقليات القومية في القانون الدولي – دراسة سياسية قانونية" – 2009" - هو بالأصل رسالة دكتوراه - من أهمها عمقاً وسعة وتفصيلا في هذه المسألة، وهنا أجد فرصة أخرى لأعيد شكري وتقديري لإهدائها لي نسخة من هذا الكتاب القيم في عام 2009.
بعد كل هذا النشاط الأكاديمي المثمر الناجم من جراء كونها أستاذة جامعية نشطة ومكثرة في إنتاجها السياسي والقانوني، الآن أصبحت الدكتورة منى رئيساً للهيئة العامة المستقلة لحقوق الإنسان ومن المؤكد سيكون هذا التعيين مؤشراً يبعدها، قليلاً أو كثيراً، عن الجامعة وأجوائها العلمية والبحثية ولربما يؤثر على نشاطها العلمي، لا بل وقد يتقيد بالسياسات والأجراءات التي تتحكم في هذه الهيئة التي ترتبط بالبرلمان وبمنهجية النظام السياسي في الإقليم بشكل عام وبكل أحزابه السياسية، خاصة المهيمنة منها كالحزب الديموقراطي الكردستاني. هذا الأمر، أي علاقة الهيئة بالبرلمان وحكومة الإقليم يثير الكثير من الشكوك عن مصداقية أعمال الهيئة فيما يخص حقوق الإنسان. فالمادة (2) - أولاً، من قانون الهيئة العامة المستقلة لحقوق الإنسان في إقليم كوردستان - العراق رقم (4) لسنة 2010 تنص على "تؤسس هيئة بأسم (الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان في إقليم كوردستان -–العراق) بالشخصية المعنوية والإستقلال المالي والإداري، وتكون لها ميزانية خاصة ضمن الميزانية العامة للإقليم، وترتبط بالبرلمان". أما المادة (4) - ثانيا، فتنص على "يعين رئيس الهيئة بدرجة خاصة بناءاً على ترشيح من رئاسة البرلمان ورئاسة مجلس الوزراء ويصدر مرسوم إقليمي بالتعيين بعد مصادقة البرلمان على المرشح بأغلبية عدد الحاضرين وتكون رئاسته لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة". والأكثر من هذا، للبرلمان حق مراقبة ومتابعة أعمال الهيئة وفقاً لأحكام القانون ونظامه الداخلي (المادة 8 - أولاً) من قانون الهيئة. أما بخصوص حسابات الهيئة فإنها تخضع للتدقيق والرقابة من قبل ديوان الرقابة المالية في الإقليم (المادة 10) من قانون الهيئة.
من كل ما تقدم يمكن التأكيد بأن الهيئة ليست مستقلة رغم تسميتها بـ "المستقلة"، بل هي تابعة ومن جميع النواحي سواء من حيث التعيين أو المراقبة لبرلمان الإقليم والحكومة وتمويلها يأتي من الميزانية العامة للإقليم، كما يمكن القول بأن الدكتورة منى لم تحصل على منصبها من خلال الإنتخابات، بمفهومها الصحيح القائم على التنافس بين مرشحين أثنين أو أكثر، بل حصلت عليه من خلال ترشيحها وتعيينها حسب الإجراءات المذكورة في المادة الرابعة أعلاه. فكل هذا لا يعني إلا القول بأن الهيئة هي قسم من أقسام البرلمان أو الحكومة أو النظام السياسي في الإقليم وأن الدكتورة موظفة فيه. فمن المعروف عالمياً بأن معظم، لا بل، جميع المنظمات والمؤسسات والهيئات المعنية بحقوق الإنسان خاصة في الدول المتحضرة والديموقراطية، هي جزء مهم ومكون أساسي من منظمات المجتمع المدني فلا ترتبط بأي مفصل من مفاصل الحكومة أو البرلمان وأن معظم العاملين فيها هم من المتوطعين ويعملون بدون مقابل، إلا فيما ندر لبعض الوظائف الخدمية، وأهم صفة من صفاتها هي تمويلها ذاتي من خلال التبرعات غير الحكومية ومن نشاطات مختلفة مرتبطة بمسائل متعلقة بحقوق الإنسان ومن موارد بيع المطبوعات وغيرها من وسائل التواصل الإجتماعي. حقاً صدق لينين عندما قال قبل أكثر من قرن من الزمن "قل لي من يمولك سأقول من أنت". فمن هذا المنطلق يتأكد بأن الهيئة تابعة للبرلمان أو لحكومة الإقليم، ليس تمويلياً فحسب بل قانونياً وإدارياً حسب ماهو واضح في قانون تأسيس الهيئة وبالتالي فالهيئة ليست مستقلة إلا في إسمها.
قبل بضعة سنوات، عندما كان الأستاذ ضياء بطرس رئيسا للمجلس القومي الكلداني ثم أختياره رئيساً للهيئة، قمنًا أنا وبمعية البرفسورة الدكتورة كبريلا يونان (ألمانية الجنسية) الأستاذة في التاريخ الاشوري المعاصر بزيارة الأستاذ ضياء في مقر المجلس القومي الكلداني في عنكاوه (في تلك لم يكن مقر مخصص للهيئة). فأثناء اللقاء وفي أول أمره سألت البروفيسورة الأستاذ ضياء بطرس عن مصدر تمويل الهيئة لكي تعرف طبيعة الهيئة ومدى إستقلاليتها، فذكر الأستاذ ضياء بأن تمويل الهيئة مخصص من الميزانية العامة لحكومة الإقليم وأعتقد ذكر في حينه 6 ملايين دينار (عذرا لست متأكد من الرقم). فما كان من البرفسورة إلا أن تدير وجهها نحوي وعلى ملامحها بوادر من الاستغراب عن جواب الإستاذ ضياء، فقالت "نحن نعرف بأن جميع منظمات حقوق الإنسان ترفض إستلام أي مبلغ من الحكومات وذلك للحفاظ على إستقلاليتها". وبعد المغادرة قالت لي: هل يجوز هذا؟ فقلت نعم لأن الهيئة ليست مستقلة بل تابعة لحكومة الإقليم وبالتالي لا يمكن أعتبارها من منظمات المجتمع المدني. ومن المعروف عالمياً بأن إنتهاك حقوق الإنسان يكون في الغالب من قبل حكومات الدول وفي بعض الأحيان من قبل الاحزاب المسيطرة، فمثل هذا الإنتهاك هو الأمر الذي يعني منظمات حقوق الإنسان وتقوم بمهمة حماية هذه الحقوق والدفاع عنها. نعم هناك أيضا إنتهاك، ربما إنتهاك صارخ لحقوق الإنسان من قبل الجماعات الإرهابية وهنا تتدخل الحكومات لمحاربتها ليس لغرض الدفاع عن حقوق الإنسان بل حفاظا على أستقرارها وأمنها وديمومتها.
كان لحكومة إقليم "كردستان" وزارة بأسم وزارة حقوق الإنسان ويظهر بأن المعنيين بالأمر أدركوا بأنه أمر شاذ وجود وزارة حكومية لحقوق الإنسان تابع للحكومة وجزء منها، فأدركت هذا التناقض فقامت بتشريع قانون لتأسيس الهيئة ونعتها بالمستقلة كغطاء لتبعيتها لحكومة الإقليم. فمثل هذه الهيئة وبتبعيتها لا يمكن أن تقوم بواجبها بأكمل وجه في حماية حقوق الإنسان طالما تدور في فلك السياسات العامة للنظام السياسي ككل، السياسات التي تكون مصدراً لإنتهاك حقوق الإنسان، وما التجاوزات على أراضي شعبنا "الكلداني السرياني الآشوري" والإستلاء عليها وحرمانه من الشراكة الفعلية في العملية السياسية وسرقة "الكوتا" المخصصة له كلها نماذج صارخة في أنتهاك حقوق الإنسان، لا بل هي في تصاعد مستمر منذ تأسيس الهيئة ومن دون أن تتحرك الهيئة للتصدي لها أو محاولة مواجهتها للتخفيف منها أو معالجتها. وقد تكون الهيئة قد قامت في فترات معينة بطرح هذه الحالة على طاولة التساؤلات ولكن كما يقال الأعمال بنتائجها، فلم تستطيع الهيئة أن تحقق أي نتيجة في هذا السياق، بل على العكس فالطين زاد بلة والتجاوزات على الأراضي وحرمان شعبنا من المشاركة الفعلية في العملية السياسية كلها في تصاعد مستمر ومن دون أي حماية أو نتيجة تذكر. فالهيئة في سياق هذه التجاوزات ما هي إلا ضحك على الذقون وذًر الرماد في العيون لإكساء هذه التجاوزات والأنتهاكات لحقوق الإنسان. وحتى تعيين شخص من أبناء شعبنا في هذه الوزارة أو تلك المحافظة فهي تأتي أيضا في سياق إكساء إنتهاكات حقوق شبعبنا في أرض أبائه وأجداده، أو هي ليس أكثر من "شعرة من جلد الخنزير" كما يقول المثل.
على العموم، كل ما نرغب القول فيه هو التأكيد بأننا نكن للأستاذ الدكتورة منى ياقو إحتراماً كبيرا ليس لشخصيتها النبيلة والودودة فحسب، بل لنشاطها المثمر وبحوثها العلمية والأكاديمية التي أهلتها لأن تكون فعلاً من أكبر نشطاء الأكاديمين المكرسين معارفهم لخدمة هذه الأمة التي هي بأمس الحاجة لأمثالها لتنير بالعلم والمعرفة طريقنا ونبصر الصالح العام لشعبنا في الوطن. فخشيتي ليست إلا إنتقال الدكتورة من هذه الأجواء العلمية والنشاطات المثمرة إلى أجواء تسودها اساليب بيروقراطية محكومة بالسياسات الخاصة للنظام السياسي في الإقليم، وهنا أرى بأن التوفيق بين تلك الأجواء العلمية والأساليب البيروقراطية أمر صعب جداً، لأن البحث العلمي الرصين يستوجبه مساحة معقولة من الحرية في الفكر، ولا يسعنا هنا إلا القول بأن يكون الله في عون الدكتورة منى ياقو ونتمنى لها كل التوفيق.