الحوار والراي الحر > المنبر الحر

مرقيون

(1/1)

يوسف شيخالي:
مرقيون
شملت الخلافات المسيحية في القرن الأول الشريعة اليهودية وعلاقتها بالمسيحية، وإلوهية المسيح وإنسانيته. وبدأت هذه الخلافات في حدود منتصف القرن الثاني تتميز كعقائد لاهوتية مختلفة، تختلف وتخالف وتعادي إحداها الأخرى، بسبب الجدل حول إلوهية المسيح وإنسانتيه، وحول الشريعة اليهودية وعلاقتها بالمسيحية وأمور أخرى.

الخلافات الأولى للمسيحية ظهرت مباشرة بعد صعود المسيح إلى السماء، بين الرسول بولس وباقي الرسل. وأخذت الخلافات اللاهوتية في القرن الثاني منحاً جديداً، فقد عارض مرقيون بشدة فكرة التوراة، بأن الإله «يَوَ أو يهوه» هو الإله الحق الوحيد، واعتبر إله الإنجيل «إيل» هو الإله الحق، وإله الخير. وأن إله التوراة هو إله عنيف وإله حروب.

لم يُعْتَبَر مرقيون فيلسوفاً وإنما مصلحاً دينياً.(1) وتأتي أهميته بأنه كان أول الإصلاحيين في الكنيسة، وكان إبن عائلة متيسرة وهو إبن أسقف مدينة سينوپي في (تركيا الحالية).(2) جاء إلى روما في نهاية عهد الإمبراطور هديريان (117-138♰) وانظم إلى جماعة المسيحيين هناك، وتبرع لهم بمبلغ كبير، ومن ذلك نستنتج بأن مجيء مرقيون إلى روما كان في النصف الأول من سنة (138♰).

الشهيد يسطينوس يقول عن مرقيون أنه كان من سكان پنطس، ومعاصراً أيامه (150♰). وكان يُعَلّم بوجود إله أعظم من الذي خلق السماء والأرض، ومسيح هو غير الذي جاء ذكره في الأنبياء. وهذا التعليم كان منتشراً في كل بقعة أرض وضمن كل المجموعات البشرية.(3)

وفي ختام القرن الثاني، يقول إريانوس عن مرقيون أنه خلف سردو(4) وقد جاء إلى روما خلال فترة أسقفية هيجينيوس (139-143♰). ومن تعاليم سردو الغنوصية: أن إله الشريعة والأنبياء هو ليس أبو المسيح، لأن إله الشريعة معروف وأفصح عن نفسه، لكن أبو المسيح غير معروف ولم يفصح عن نفسه إلا في أقوال المسيح. إله الشريعة عادل، ولكن أبو المسيح غفور ورحيم. وعقيدة سردو هذه وسعها مرقيون، وبدأ تعليمه: بأن «يَوَ أو يهوه» إله الشريعة والأنبياء «يعمل الشر، متلهف للحروب، غريب الأطوار ومتناقض»، ولكن المسيح جاء من أب «إيل» أعلى وأعظم من إله اليهود.(5)

عقيدة مرقيون بالإضافة إلى مجموعة الرسائل التي أطلق عليها الرسائل الرسولية «The Apostolicon»، كانت تحوي أيضاً «الإنجيل».(6)

كان مرقيون من رجال الدين المتشددين، حيث أزال كل ما يتعلق بالزيادات التهويدية التي تم دسها من قبل كتبة منحازين لليهودية إلى إنجيل لوقا، الذي وصفه بـ (Evangelicon). وإلتزم بحذف كل شيء من الإنجيل يكرر أو يضم نصوص تتعلق بالتوراة اليهودية. فالإنجيل بنظره لم يكن تفسير عن كيفية نشوء البشرية، وإنما معنى خلاص البشرية. وأعلن دائماً بأن عمله ليس إبتكار فكر جديد وإنما إحياء فكر الإنجيل.(7)

الرسول پولس حرر المسيحية التي كانت مقيدة بالشريعة اليهودية وهذا ما كان مرقيون يطمح بالعمل لتحقيقه.(8) لأن المسيحية السائدة آنذاك كانت تبدو مكملة للتعاليم والشرائع اليهودية. وفي نظر مرقيون أن الرسول پولس هو الوحيد بين الرسل الذي أدرك معاني الإنجيل، أما الرسل الآخرين جميعهم وقعوا تحت تأثير التوراة اليهودية.

قَبِلَ مرقيون برسائل پولس الإنجيلية العشرة التالية: غلاطية، كورنتوس الأولى، كورنتوس الثانية، الرومان، تسالونيكي الأولى، تسالونيكي الثانية، أفسُس (التي عرفها مرقيون بإسم «Laodiceans»)، كولوسي، فيليمون، فيليبي. ولم يعترف بالرسائل تيموثاوس الأولى والثانية، وتيطس، ولا برسالته إلى العبرانيين.(9)

إعتبر مرقيون غلاطية أهم رسائل الرسول پولس. وأوضح على أساسها فساد الإنجيل الحقيقي، الذي قال فيها پولس ان إخوة كذبة يحاولون تحويل المؤمنين عن الانجيل: «إِنِّي أَتَعَجَّبُ أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هكَذَا سَرِيعًا عَنِ الَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ الْمَسِيحِ إِلَى إِنْجِيل آخَرَ! لَيْسَ هُوَ آخَرَ، غَيْرَ أَنَّهُ يُوجَدُ قَوْمٌ يُزْعِجُونَكُمْ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُحَوِّلُوا إِنْجِيلَ الْمَسِيحِ.»(غل 1: 6-7) وكشف مرقيون في الإصحاح الثاني من غلاطية، بأن الرسول پولس فصل نفسه مجبراً بصورة كاملة عن التلاميذ، لأنهم كانوا متشبثين بالتعاليم اليهودية.(10) وكان مرقيون مقتنعاً بأن الرسول پولس هو الوحيد بين الرسل الآخرين، فهم أهمية يسوع المسيح. لذلك فإن مرقيون أزال كل الزيادات المقحمة في نصوص الرسائل الإنجيلية للرسول پولس، وأي شيء لا يتفق مع عقيدته. فعلى سبيل المثال: حذفت من غلاطية بعض النصوص بسبب الإشارة إلى إبراهيم وكل ما يتعلق به وبنسله.

في أيام مرقيون كان السؤال المثير هو العلاقة بين اليهودية والمسيحية. وكان مرقيون هو أول من وضع سؤال المسيحية على المحك «ما هو الشيء الجديد الذي جلبه لنا المسيح بمجئه».(11) ففي رأي مرقيون أن الكتابات الأولى للمسيحية فيها الكثير من زيف التعاليم اليهودية. لأن المسيحية من وجهة نظر هؤلاء الكتاب لم تكن ألا قانون جديد في الشريعة اليهودية.(12) والأكثرية من كُتّاب المسيحية في القرن الثاني لم يكن لديهم إلماماً واسعاً بالأناجيل.

إتُّهِم مرقيون بالكثير من الإفتراضات الخاطئة. فكتب عنه ترتليان: بأنه إعتقد أن المسيح لم يتخذ جسم بشري وإنما كان له مظهر بشري، مما أمكنه الصعود الى السماء.(13) وزعم أن إنجيل مرقيون جاء فيه، أن الله نزل في كفر ناحوم. ولكن الحقيقة هي غير مزاعم ترتيليان، لأن ما جاء في إنجيله: «(هو نزل)» وليس الله، وكلمة (هو) تشير إلى يسوع الإنسان، وليس الله.(14) وإتهام ترتيليان له جاء من المعلومات المستقاة من الشهيد يسطينيوس وإريانوس.

لم تسلم أعمال مرقيون. وفي غياب أعماله كاملة لا نستطيع الحكم فيما إذا كانت عقيدة مرقيون تميّز بين إله اليهود والأنبياء، وبين إله المسيحيين أبو المسيح، على إنهم إلهين مختلفين. أو أنه، أي مرقيون مجرد لم يقبل كيف صوّر اليهود الله. لأن الصورة المعيبة وغير الدقيقة التي قدمها اليهود لا تنطبق على الله [إيل] الذي آمن به المسيحيون.(15)

الكنيسة التي أسسها مرقيون كانت تنمو بصورة مضطردة. وفي ذلك يقول إپيفانوس من القرن الرابع: بأن أتباع مرقيون في أيامه كانوا منتشرين في روما، إيطاليا، مصر، فلسطين، الجزيرة العربية، سوريا، قبرص، وتيبيت، وحتى بلاد فارس.(16)
ولكن في كل الأحوال فالكنيسة [المسيحية التهويدية] رفضت عقيدة مرقيون، لأنه لم يستطع أن يجعل الشريعة والإنجيل يعيشون في سلام.(17)

ولكن عقيدة مرقيون عجلت عملية الإصلاح في عقيدة الكنيسة، التي كانت قد بدأت بالفعل في النصف الأول من القرن الثاني. وبسبب معارضة وإنتقادات مرقيون وعت الكنيسة لأول مرة على إرثها من الكتابات الرسولية. ووفقاً لآراء كرانت: «مرقيون أجبر المسيحيين الأرثوذكس لدراسة الإفتراضات الخاصة بهم، وبشكل أكثر وضوحاً بما يؤمنون به بالفعل».(18)


 
(1) Ferris, George Hooper. The Formation of the New Testament, Philadelphia: Griffith & Rowland, 1907. P. 128
(2) Ibid. P. 127
(3) Sense, P. C. A Critical and Historical Enquiry into the origin of the third Gospel. London: Williams & Norgate, 1901. P. 43
 (4) سردو: كان أحد الغنوصيين الآشوريين، بدأ كأحد تلاميذ شمعون (الساحر)، وكان معاصراً لفالنتينوس، وأسقف روما هايجينوس.
(5) Sense, A Critical and Historical Enquiry…, 1901. P. 43
(6) Ferris. The Formation of the New Testament, 1907. P. 136
(7) Ibid. P. 127
(8) Ibid. P. 137
(9) Ibid. P. 135
(10) Ibid. P. 130
(11) Ibid. P. 129
(12) Ibid. P. 130
(13)  Evans, Ernest. Tertullian Adversus Marcionem, ii. Oxford. 1972. PP. 643
(14) Sense, A Critical and Historical Enquiry…, 1901. P. 56
(15) Ibid. P. 43
(16) Ferris. The Formation of the New Testament, 1907. P. 141
(17) Ibid. P. 132
(18) Ibid. P. 126

تصفح

[0] فهرس الرسائل

الذهاب الى النسخة الكاملة