المحرر موضوع: مهرجان بابل انتصار للثقافة العراقية سلوكيات الدكتاتورية الدخيلة لا تنسجمُ مع طبيعة شعب الرافدين  (زيارة 441 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل لويس إقليمس

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 424
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
مهرجان بابل انتصار للثقافة العراقية
سلوكيات الدكتاتورية الدخيلة لا تنسجمُ مع طبيعة شعب الرافدين
لويس إقليمس
بغداد، في 3 تشرين ثاني 2021
بين الفعل والقول مساحة قد تتسع أو تضيق كما بين الجِدّ واللعب. هناك مَن يرتضي لنفسه التلاعب بمشاعر الناس واللعب على أوتار هشة دينية أو طائفية أو مذهبية أو عشائرية لم تعد تُؤتي أُكلها بعد تصاعد الصحوة الوطنية والنظرة الإنسانية للحياة ومتطلباتها واتساع آفاق التحرّر من براثن فئات خائبة ومريضة من طبقة رجال السياسة والدين وأرباب الكتاتيب ومَن يواليها بفعل خسارة مكامن جبروتها وحواضن سطوتها في أوساط بسطاء القوم وفقراء اليوم ومَن لا حولَ لهم ولا قوّةَ. وما أكثرهم في زمننا، بعد محاولات حثيثة ومتواصلة من بعض هؤلاء بزيادة حشو عقول العامة واستخدام كل التوصيفات التحذيرية والتهديدية بالثبور والعقاب في الدنيا والآخرة وبحجة الخروج عن عرف اجتماعي هشّ متخلّف. فما حصل من جهاتٍ خائبة ومغرضة قبل أيامٍ من افتتاح مهرجان بابل الثقافي بنسخته الخامسة عشرة بعد انقطاعٍ لسنوات والاعتراض على فقراتٍ ترفيهية وغنائية، لا يمتُ لحضارة العراق وثقافة شعبه بأية صلة. فالعراقيون بطبعهم وطبيعتهم ونفسيتهم أصحابُ سمر ونكتة وضحك وترفيه وطرب. كما أن المناسبات لا تحلو ولا يكون لها طعمٌ ولا لذةٌ إلاّ بالطرب الجميل والصوت الرخيم والأنس البهيج النابع عن فنٍّ رفيع بل فنون تطبَّعَ عليها ذوقُ العراقيين ونكهتُهم المتميزة منذ القدم. 
والحق يُقال، فإنّ مثل هذه العراقيل والمحرّمات غير المبررة لم تعد تنفع مهما سعى وحاول بعضُ أصحاب هذه السلوكيات الهزيلة من كارهي الحرية وأدواتها الديمقراطية في التعبير عن الرأي وإبداء الإحساس والشعور بمساحة شخصية، فردية أو جماعية. "هذه حريتنا! نريد أن نغنّي ونبدع ونضحك ونتسلّى، ولا أحدَ يمنعنا!"، قالها أحد المشاركين في مهرجان بابل الحضارة، طالما لا يوجد ما يسيءُ إلى الذوق العام ويخدّشُ الحياء، إلاّ أللهمّ لدى فئة دخيلة وغريبة اقترنتْ "تابوهاتُها" وتحاريمُها بثقافة قيادة البلد الشرقي الذي فرضَ ومازالَ يفرضُ سطوتَه المذهبية ونظرتَهُ الاجتماعية ورؤيتَه السياسية وثقافتَه المتأسلمة المتخلفة على مجمل شرائح البلد والشارع والنظام في العراق بلا منازع. فهذه بمجملها إنما هي شكلٌ من أشكال الثقافة الدكتاتورية الدخيلة التي لا تنسجم مع طبيعة شعب الرافدين وحضارته وقدراته البشرية والمادية، ما جعل أصحابَ الأرض "إيرانيين" أكثر من شعب إيران نفسه، بل وعشاقًا لها ولقيادتها في فرض قوانين واستنباط ممارسات والإيغال في أدوات التخلّف من ملبسٍ ومنعٍ لمظاهر اللهو والراحة وأشكال الفنون إلا في حدودها الدنيا خوفًا من أدوات غريبة تسعى لعودة أدوات "الأمر بالمعروف"، وكأنّ باري البشر وخالق الأرض والسماء والعناصر ما هو إلاّ دكتاتورٌ مسخٌ يرفض على عباده أيَّ شكلٍ من أشكال الترويح عن النفس ولا يرضى بأدوات الإبداع التي تقبل اللهو المتزن غير الخادش والجدّ في التقديم والعرض وبما يسبغ على البشر راحة الفكر واستراحة العقل بحسب الظرف والحاجة.

 صوتُ الحرية


هنا نقول، إنه بعودة موسم مهرجان بابل الدولي بكلّ فقراته ومنها الغنائية مثار الجدل، وكما كان مخطَّطًا له من الجهة المنظمة، قد انتصرت إرادة الفن وعلا صوتُ الحرية وصدحت الحناجر انتصارًا للعراق وأهله الطيبين وتاريخه العريق. فالعراق كما أعرب الكثيرون ليس بقندهار طالبان، ولا ذليلاً تابعًا للوليّ الفقيه، بل كان ومازال وسيبقى بلد الحضارة والأنس والفن والضحك واللعب والإبداع، بلد السياب والجواهري والبياتي كما هو بلد المسرح والطرب والغناء وموطن أبي نؤاس وشهرزاد وشهريار بعد زوال غمّة الهموم والترّهات الطافية فوق سطوحه بفعل تكالب الطامعين واجتماع الأعداء على خيراته ومقدّراته والعبث بأدواته البشرية بكلّ أشكالِ إبداعاتها وقاماتها وطموحاتها. كما أنه البلد الذي من حضارته صُنعت الحياة في دهاليز الزمن الماضي. وهذا قابلِ العودة والتجدّد بإرادة شعبه بعد إزاحة المعوقات والعراقيل والتابوهات عنه.
صحيحٌ أن شعب العراق يتقبل كلّ المتغيرات ويتلون بحسب الوضع والمقام، إلاّ أنه يتميّزُ بأصالته وحبه للحياة والترف والترويح عن النفس متى جاءته الصحوة، شأنُه في ذلك شأن ايٍّ من شعوب الأرض التي لها تاريخ وحضارةٌ وقدراتٌ بشرية ومادية وإبداعية. فكم بالأحرى ما يتميّز به العراق عن غيره من شعوب المنطقة والعالم. فهو سيّد الكتابة وباني الحضارة ومعلّمُ البشرية في أولى خطواتها العلمية والقانونية. وهذا ما يتيح له التربعَ على عرش التحضّر والتمدّن في كشف القدرات وبيان الطاقات بكلّ اشكالها وتفاصيلها، ومنها مهرجانات الفنون والموسيقى والمسرح والغناء والطرب في إشارة إلى ضرورة عودته إلى الحالة الطبيعية لمكانته المطلوبة بين شعوب وأمم الأرض وعدم حصره في بوتقة التديّن المصطنع ومظاهره الخادعة بأية حجةٍ أو مبرّرٍ أو داعٍ لا مبرَّرَ له أصلاً. فهو بلد الإيمان والمرح على السواء، ولا داعي للمتاجرة بهذه الأدوات الرخيصة. فلو كان أسلوب استمالة مشاعر البسطاء وعامة الشعب بشيءٍ ممَا يدّعي هؤلاء الأدعياء بتخديش الحياء وخرق أخلاقيات المجتمع، فقد بات هذا اسلوبًا غير ذي جدوى، بل قاصرًا ولا يمتُّ للواقع الشعبي المطلوب والرائج بصلة لكونه يعكس رؤية سلبية للمشهد الثقافي والإنساني والوطني، في محاولة للصق تهمة التخلّف بشعب النهرين الخالدين وتطلعات أبنائه وحاجتهم للمرح والرفاهة والترويح والضحك.

بابل تغني من جديد رغم المعترضين

"ألعراق بلد الكرم والأمان والطيبة"، قالته الفنانة الكويتية "شمس" وهي تتجول في شوارع بغداد على راحتها مستبعدة أية مظاهر للحماية. فهي آمنة ومطمئنة على حياتها في بلدها، في بغداد عاصمة الرشيد والمنصور، مدينة الكنائس والمآذن والجوامع وبين محبيها من أصحاب الذوق الرفيع من مجمل الفنون التي أبدعت فيها مدارس ومراكز حيوية وأجاد فيها مطربون وشعراء وعشاق الموسيقى والفن حبًا بالحياة. فيما أضفت مشاركة العديد من الفنانين العراقيين والعرب المعروفين الذين لهم جمهورُهم، لمساتٍ مبهجة على فعاليات المهرجان بتفاعلهم مع الجمهور وتجاوزهم حدود الإبداع المحلّي ليرتقوا إلى مصافي الفن العربي والعالمي في أوسع صوره وأدواته، شكلاً وصورةً وطاقةً. وهذه رسالة اطمئنان للعالم ببدايات طيبة لعودة البلاد إلى دورة الحياة تدريجيًا بالرغم من كلّ المعوّقات والعراقيل والمطبّات التي تضعها جهاتٌ متنفذة أو قريبة من السلطة، دينية كانت أم مدنية مهزوزة بتبريرات عديدة، ومنها جهاتٌ مرتبطة وموالية لدولة الجوار الشرقية التي لا تستأنس ولا ترضى بهذه العودة الطبيعية. فلو كان الهدف من هذه العراقيل بوجه تقديم فقرات غنائية وترفيهية حقًا بقصد تأجيج الأوضاع وخلط الأوراق لمنع عودة العراق إلى حظيرة الدول المتمدنة بعد تراجعه في كلّ شيء غبّةَ غزوه وتسليمه للجارة الشرقية، فهذا شأنٌ خطيرٌ لا بدّ من تفحّصه والتمعن به بعناية حفاظًا على هيبة البلاد ورغبة شرائح كبيرة منفتحة على العالم من شعب العراق الجريح حتى في نزهته وراحته ورفاهته. فقد أثبتت الوقائع أنّ الجارة الشرقية وأدواتُها في العراق لا تريد له خيرًا بل تسعى لإبقائِه متخلفًا خانعًا ذليلاً تابعًا لها خارج معايير الأسرة الدولية في نمط حياة ابنائه وفي واقع عيشهم بعيدًا عن أية مقاييس تضمن لهم الحرية والاستقلالية في العيش والتمتع بالهيبة والسيادة وتقرير المصير بعيدًا عن أية إملاءات وفي استغلال القدرات المادية والبشرية باتجاه التقدم والنموّ والتطور نحو الأفضل.
نقول، حسنًا فعلَ رئيس الوزراء الكاظمي بحسم الجدل حول هذا الموضوع والمضيّ في تقديم كل الفقرات ومنها الغنائية من دون تحفظات متعهدًا بضمان الحماية والأمن كما ينبغي. وبالرغم من ورود بعض ملاحظات سلبية رافقت فقرات العرض من حيث التقديم والديكور والتنظيم كما اعتدنا دائمًا، إلاّ أنّ التهافت اللافت والمشاركة الجماهيرية التي امتلأت بها مدرجات المسرح البابلي الثري طيلة أيام المهرجان، هي من الدلائل على نجاح فعالياته ومساهمتها في إرضاء الجمهور المتعطش لعودة الحياة العراقية إلى طبيعتها وإمتاعه لأيام جميلات. وهذه إشارةٌ إيجابية أيضًا، لحبّ العراقيين للحياة ودعمهم الصادق لأشكال الثقافة والفنون والطرب ورفض أية عناصر ظلامية أو رموزٍ أو أدوات سلبية تريد إيقاف عجلة الحياة وحرية المجتمع بأدوات دخيلة. فالدولة تحتاج رجال "إرادة" كي تثبت القدرة الصحيحة على "الإدارة" الجيدة واضحة المعالم في التعامل مع أشكال هذه العراقيل والأساليب غير المقبولة والتي لم تعدْ تتجانس وتتوافق مع بلوغ الفكر والعقل مراحل متقدمة في إطار عالم الرقمنة والتكنلوجيا المتقدمة التي تجاوزت مثل هذه الترّهات والأفكار المتخلفة التي تريد العودة بالبشرية إلى عصور الظلامية والتخلف. فهذا جزءٌ من حرية الفرد ومن أبسط حقوقه، لاسيّما إذا كانت الدولة بإداراتها وإرادتها هي الكفيلة بضمان سير مثل هذه الفعاليات التي تُعدّ من مفاتيح الترفيه للشعب ومن الدلائل على سعة الفكر والرؤية والمدارك في بناء الدولة والإنسان معًا. ومَن يرفض أشكال هذه الأنشطة الفنية فهذه حريتُه، وحريتُه موضعَ احترام. فهو ليس مكرَهًا بالمشاركة فيها أو التفاعل معها أو متابعة فقراتها التي قد لا تسرُّه. ولا بدّ للحياة أن تتواصل في جميع أوجهها الإيجابية التي تبعث النشاط والحيوية والتجدّد والإبداع في الفكر والرأي والرؤية، كما في تقدّم البلاد ورقيّها إلى مصاف الدول المتقدمة والمنفتحة على العالم المتجدّد كلّ يومٍ وكلّ ساعة وكلّ دقيقة.
من الأعماق نهنّئُ إدارة المهرجان باختتامه بنجاح منقطع النظير، ونشدُّ على ايدي المشاركين من الفنانين العراقيين والعرب وكافة الفرق الفنية، ونسبغ الشكر للجمهور الواسع الذي تفاعل وانسجمَ مع فعاليات المهرجان وفقراته، ولاسيّما الغنائية والمسرحية والراقصة وعروض الأزياء منها على وجه الخصوص. وسنظلُ ننشدُ للعراق ونعمل على تقدمه واستعادة دوره الطبيعي بالتربع على عروش الفن والإبداع والعلم. كما نتمنى له عودة سريعة وآمنة إلى حضنه العربي والدولي بعيدًا عن الدخلاء والأعداء التقليديين وذيولهم وأتباعهم من واضعي العراقيل أمام تطوره. فمَن يدعو وينشدُ لبقائه ذليلاً خانعًا ضعيفًا بلا سيادة ولا هيبة ولا تقرير مصير، ليس من العراق بشيءٍ ولا من أهله الطيبين ولا يؤمنُ بتاريخه الحضاري، ومنها بقايا جنائنه المعلقة التي حيّرت العالم وما تزالُ أسرارُها صعبة الاكتشاف بعد مرور أكثر من أربعة آلاف سنة، إلى جانب شواخص مهمة كثيرة مثل مسلّة حمورابي وأسد بابل والثور المجنّح والملوية والعاشق وأور وغيرها، من دون أن ننسى دياراته وكنائسه ومآذنه ومعابده على مرّ السنين والقرون والأجيال التي تحكي قصصًا رائعة في تجانس الاختلاف والتعايش البشري على مرّ التاريخ. ومَن يسعى لغير هذا، سيكون مصيرُه حتمًا في هامش التاريخ المنسي. فالانتصار أولاً وآخرًا، إنما سيكون للشعب!!!