المحرر موضوع: قراءة في كتاب حضارة السمكة الحمراء بقلم عمانوئيل يونان الريكاني  (زيارة 562 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل عمانويل ريكاني

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 147
    • مشاهدة الملف الشخصي
       قراءة في كتاب حضارة السمكة الحمراء
                  عمانوئيل يونان الريكاني /سدني/العراق
في نيسان / إبريل 2019 صدر من منشورات غراسيه كتاب " حضارة السمكة الحمراء" ، 207 صفحة للأعلامي الفرنسي وعميد مدرسة الصحافة في كلية العلوم السياسية بباريس ، برونو باتينو . قام بترجمته وتقديمه الى العربية الكاتب وعالم النفس المعروف الدكتور مصطفى حجازي .
عنوان جميل يلفت النظر ويشد الأنتباه بالرغم من غموضه ، لكن ما أن تسقط عليه أشعة التصفح حتى يتبدد ضباب الإبهام والأرتباك وتنقشع غيوم الحيرة والغرابة وتنكشف روعته وعظمته . تكمن أهمية الكتاب في إنه يسلط الضوء على معضلة أجتماعية وأنسانية أفرزتها التكنولوجية الحديثة إن لم يتم حلها جذرياً تهدد مستقبل كل القاطنين على الكرة الأرضية . وتخاطب الأنسان المعاصر من كل الفئات وجميع الأعمار وخاصة الشباب منهم من ( كلاالجنسين ) بعد أن دق ناقوس خطر سيطرة وتحكم وأستحواذ العالم الرقمي وتقنيات التواصل الأجتماعي على عقولهم ومداركهم ، فهي مسألة نكون أو لا نكون ، أما الأدمان عليها وبالتالي تفريغ الكيان من العمق وتشييء الأنسان وتشويه أنسانيته ، أو التعامل معها بحكمة وفطنة وصواب ومن منطلق لا أفراط ولا تفريط.
هذا المشهد الحياتي هو الذي جعل الكاتب يشبه الجيل الحالي إلا ما ندر منه بالسمكة الحمراء في إناءها الزجاجي تكون عاجزة عن تركيز أنتباهها أكثر من 8 ثوانٍ  وبعدها تنتقل إلى شيء أخر ويبدء عالمها الذهني من الصفر من جديد . هكذا حال جيل الأنترنيت الذي لا يتعدى درجة أنتباهه 9 ثوانٍ
بفارق ثانية واحدة فقط عن السمكة الحمراء ، حتى يتشتت أنتباهه بين أشياء عديدة ومواضيع كثيرة دائراً في حلقة مفرغة من اللاتركيز ، الأمر الذي يصاب به بهشاشة نفسية وعقلية .
فأصبحت أذهاننا تدور حول ذاتها ، من التغريدات إلى فيديوهات اليوتيوب ، ومن رسائل السناب شات ( Snap) إلى الإيميلات ، ومن البث المباشر ( lives ) إلى المحفزات ( pushs) ، أو من التطبيقات إلى صفحات ملف الأخبار Newsfeeds ، وعلى غرار السمكة ، فأننا نظن أننا نكتشف عالماً جديداً في كل لحظة ، ولكن دون أن ننتبه إلى التكرار الجهنمي الذي تسجننا فيه واجهات المستخدم الرقمي الذي أوكلنا إليها موردنا الأكثر قيمة ، أي : وقتنا .
لا بل هناك بعض الأفراد وصل الهوس بهم أنهم يضحون بنومهم العميق وراحتهم وبالتالي صحتهم
خوفاً أن تفوتهم رسالة ما من هاتفهم المحمول ، ويطلق على أولئك الذين يعانون من الذعر بأزاء أبتعادهم حتى ولو لحظة عن هاتفهم المحمول تسمية نوموفوبيا Nomophobia ( خوف البقاء من دون محمول ) . بينما يدل تعبير Phnubbing على التعلق بالهاتف المحمول والتركيز عليه وتجاهل وحتى أزدراء كل الذين يشاركونه الجلسة أو السهرة من الزملاء أو الأصدقاء أو الأحباب أو أعضاء الأسرة بينما هم يخاطبونه.
ومن الهشاشات العقلية :فصام الشخصية: هؤلاء كالممثلين على المسرح ادوارهم غير شخصهم في الحقيقة ، وهم على الشبكات موسوعة  في العلم والأدب والشعر والفن التشكيلي والموسيقى لكن على ارض الواقع هم أرباب الجهل والتخلف ،وأمام هذه الهويات المتباينة والذوات المتعددة لا يعرفون موقعهم بالضبط وبالتالي تعصف بهم رياح الكآبة والهم والغم.
متلازمة القلق : أكثر شيوعاً من الهشاشات العقلية وهي أستعراض لحظات الوجود مهما كانت تافهة على مدى الشاشات والخوف الدائم والقلق من أنها لا تنال رضى الأخرين ولا تثير ردود فعل كافية مما يجعل المستخدم يغامر بلقطات تلفت النظر من اجل مزيد من اللايكات وكثيرين دفعوا حياتهم ثمن تهورهم أما سقطوا من بنايات عالية أو جبال شاهقة أو أي حادث أخر .
إن تركيز هذا الجيل على الحياة الرقمية لا الواقعية وعلى العالم الأفتراضي لا الحقيقي أصاب لغة الحوار والنقاش والتواصل بين أعضاء الأسرة الواحدة بالجفاف والقطيعة أحياناً  مما سبب تضخم الشعور بالوحدة والعزلة والأنغلاق على الأنا وأضطراب الأندماج الأجتماعي .
الرابح الأكبر والمستفاد الأعظم من هذا المشهد العالمي هم أغنياء وادي السيليكون Silicon Valley ( منطقة في الجزء الجنوبي من خليج " سان فرانسيسكو" شمال كاليفورنيا الأمريكية ) . وهو مسقط رأس عمالقة التكنولوجيا العالمية غوغل، آبل، فيسبوك، أمازون، مايكروسوفت Gamfa وغيرها من الشركات. فخيوط اللعبة بأيديهم يعيدون تشكيل البشرية كما يشاؤون وعلى هواهم . وبما يخدم مصالحهم ويدر عليهم بأرباح خيالية . فكل واحد منهم يملك عشرات المليارات من الدولارات. لقد خلقت الأمبراطوريات الأقتصادية عبودية من نوع جديد ، بأصرار لا يلين ، ويكمن في قلب هذه المنظومة الرقمية ، وفي قلب حياتنا اليومية ، مشروع خفي : إنه أقتصاد الأنتباه المرتكز على زيادة إنتاجية وقت المشاهدة بغية أستخراج المزيد من القيمة الربحية.
من نافل القول إن كل أختراع بشري هو سلاح ذو حدين فيه الإيجابي والسلبي محاسن ومساوئ مزايا وعيوب هذا يتوقف على الأنسان نفسه لأنه في حالة أسيء استعماله لأغراض أنانية نفعية يمكن ان يتحول إلى صندوق باندورا ( يتضمن كل شرور البشرية / أسطورة أغريقية)، يكون هو أول ضحاياه.
إن التكنولوجيا الحديثة شئنا أم أبينا هي جزء من حياتنا وهويتنا ولغتنا ووسائل الأتصال. وقدمت فوائد كثيرة وخدمات جمة للبشرية جمعاء في كل المجالات العملية والعلمية ، في الأتصالات والنقل والتعليم والتصنيع والتجارة، عادت بالنفع للفرد والمجتمع. وقامت أيضاً بتسهيل عملية التواصل والتخاطب والتجمع الأنساني . وقدمت التقنية في عالم الترفيه والأعلام والأنترنيت وأجهزة التلفاز وألعاب الفيديو وأجهزة الراديو والستالايت. وقدمت ايضاً الكتب الألكترونية مجاناً من اجل نشر العلم والمعرفة. أي بأختصار إن الفضاء السيبراني cyberspace قلب حياتنا رأساً على عقب وأعاد تشكيل خارطتنا الفكرية والجغرافية والأجتماعية والحضارية.
الحل الأمثل ليس في الهروب الى الماضي ولا بالبكاء على أطلال الأمس هذه أساليب سلبية لا تجدي نفعاً فنحن ( اولاد النهاردة) ويجب عيش اللحظة بكل تاريخيتها وأجتماعيتها. ولا ان نعتبر هذا الواقع قدر محتوم لا حول لنا ولا قوة بتغييره .بل نحن نملك زمام أمورنا وللخروج من عنق الزجاجة يتم من خلال السيطرة على حياتنا وعلى وقتنا وعلى حريتنا، يتعين علينا من الآن فصاعداً الهروب من المثيرات الالكترونية بغية أستعادة ذواتنا بكل بساطة ، بمعنى أن ننقطع عن الشبكات ، كي نتمكن أخيراً من الوجود في العالم من جديد . ولكن الرهان لا يتمثل في الأختفاء ، أو في رفض أمكانات المجتمع الرقمي الخارقة للعادة . إذ يتعين علينا ببساطة ، ان نفهم ان الحرية تمارس من خلال السيطرة على الذات. إن هذه السيطرة لا تتطلب فرط التقشف ، إنما بكل بساطة الأعتدال.
في ظل هذه الأزمة التي تهدد كياننا الأنساني ، ما أحوجنا إلى بروميثيوس جديد يسترد وقتنا الثمين التي سرقته الألهة الجديدة ، كي يتم فلترة حياتنا النفسية والعقلية والأجتماعية والروحية من شوائب التشتيت والتبديد والتناثر. كما كان بروميثيوس سابقاً من اجل حبه للبشر وعطفه عليهم سرق لهم نار  رغماً عن ألهة الأوليمب.