المحرر موضوع: العظماءُ لا يموتون وإن رحلوا (في ذكرى أربعينية المعلّم الكبير العلامة والمفكر والكاتب الأب ألبير أبونا )  (زيارة 599 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل لويس إقليمس

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 425
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
العظماءُ لا يموتون وإن رحلوا
(في ذكرى أربعينية المعلّم الكبير العلامة والمفكر والكاتب الأب ألبير أبونا )
لويس إقليمس
بغداد، في 10 كانون أول 2021
العظماء لا يموتون وإن أسكتهم الموت الزؤام، والعلماء لا يغيبون وإن فارقوا الحياة الفانية، وأصحاب الفكر تبقى أعمالُهم وكتاباتهم ومساهماتُهم علامة بارزة يسطرها التاريخ حتى بعد موتهم. هكذا العلاّمة والمفكر والكاتب معلّمنا الكبير الأب ألبير أبونا. كان كبيرًا في سموّ روحه وحصافة خلقه، جليلاً في مهماته الكنسية والتعليمية والكتابية، متواضعًا في سلوك حياته اليومية غير عابئٍ بارتقاء درجات كهنوتية عليا كان أهلاً لها، لكنه رفضها لكونها خارج إطار منهجه ورؤيته وطموحه. عرفناهُ أنيس المعشر، منفتحَ الذهن، ثاقب البصيرة، جزيلًا بعطائه وإنسانيته، ثريًا بمؤلفاته وتراجمه، رصينًا هادئًا ثابتًا في عزيمته، ملتزمًا صارمًا أحيانًا في حكمه على ما حوله ومنفتحًا صاحبَ نكتة وبديهة في أحيانٍ غيرها، عميقَ الرؤية في نقده واقع حال كنيسته وما يجري في بلاده من تشويه وفسادٍ وتدمير. تقبل كلَّ هذه الترّهات والسفاهات والانحدارات الوطنية والكنسية معًا، بحسرة الراعي الصالح على رعيته التي شاهدها بأمّ عينه تتفتّت ولم يعد منها ما يعين على توحيدها وتجميعها وإعادة تشكيلها وعودتها لعظمتها وسكتها الحضارية. فالدجاجة، الوطن الأمّ، التي كانت لديها القدرة على ضمّ فراخها تحت جناحيها، قد انكسرت إرادتُها بفعل شلّ جناحيها وفقدانها دفّة التوجيه وقدرة الإرادة وعزم الإدارة معًا. إنها قدرة القويّ على الضعيف والحاكم الظالم على بسطاء القوم أحباب الله والإنسانية.
 نعم، نردّدها جميعًا "كلُّ نفسٍ ذائقةٌ الموت"! فالموت حقٌ على عباد الله أجمعين ولا رادَّ لقضاء السماء، وما مراحل حياتنا على الأرض سوى مراحل من الغربة في وطنٍ فانٍ. كما أنّ الموتَ هو النهاية الحقيقية للغربة وهو البداية الحقيقية للعودة إلى أرض الوطن الأبدية. وهو سنّةٌ بشرية ولازمة متلازمة، لا يفرّق بين غني وفقير، عالمٍ أو جاهلَ، جميل المنظر وحسن الوجه أو قبيح الشكل ومشوَّه الصورة، متعلّم أو أمّي، مؤمنٍ أو ملحدٍ أو لا أدريّ... لكن الحسرات تشتدّ وتتفاقم والرهبة تكبر وتعظمُ عندما يُخطف الأعزاء والأحبة، ويُغيَّبُ العلماء والأخيار ممّن تركوا اثرًا لخير البشرية بصالح الأعمال وممّن ساهموا في صناعة العلم والأدب وحسن الأخلاق والمعشر وسائر الفنون، أو حققوا نجاحاتٍ أعلتْ من شأن الأمم والشعوب والدول وسعوا لتنميتها وتقدمها وتطورها وتغييرها نحو الأفضل وليس الانغماس في التراجع والتخلّف عبر ترّهات مظهرية وقشور بلا جدوى. ولعلّ الأب ألبير أبونا الذي غادرنا إلى الأخدار السماوية يوم 4 من كانون أول 2021، يمكن عدُّه من ضمن هذه الفئة ممّن تركوا بصمات واضحة ساهمت في رفد البشرية بأثرٍ منتج وعملٍ فعّال لخدمة الإنسانية والتعريف بإرثها من منطلق نقل الحقيقة التاريخية والواقعية كما هي من دون التباس أو مجاملة أو محاباة. فكانَ لها وفيها من العظماء الذين سيسجلُهم التاريخ.
هكذا كان المعلّم والأديب والكاتب والمفكر والمؤرخ والكاهن والراهب ألبير أبونا المولود في قرية فيشخابور التابعة لمنطقة زاخو في عام 1928. هيأتُه وطلّتُه الجسدية طيلة فترات حياته وعمله منذ نشأته ونموه في الحكمة والقامة بتربيته الأسرية الطيبة، كانتا علامة بارزة على قدراته الكبيرة وإبداعاته الكثيرة ومواهبه المتنوعة بغرفه العميق منذ شبابه من طيات وبطون الكتب ومن أمهات النتاجات الفكرية والعلمية والأدبية والتاريخية. فكان لا يترك شاردة أو واردة يراها مفيدة إلاّ نقلها عبر مؤلفاته بعد تفحّصها وتدقيق أصلها وفصلها لتخرج عبر مؤلفاته الثرية ناضجة كعناقيد العنب الطازجة لتٌطفيء غليلَ الباحث عن مفردات غائرة وغائبة في عمق التاريخ اللغز أحيانًا.
ثلاثة وتسعون عامًا، هي سنواتُ عمر الفقيد الكبير، عاشها بدءً من بيت أهله وأسرته البسيطة في قرية فيشخابور على حدود المثلث العراقي- التركي – السوري. ألحقته أسرتُه بالدراسة الابتدائية فيها، ليبلغ به المطاف تلميذًا في معهد مار يوحنا الحبيب للسنة الدراسية 1941-1942 وليتخرج منه كاهنًا بعد عشر سنوات من المواظبة والالتزام والنهل من العلوم الدينية الفلسفية واللاهوتية واللغات التي كانت تشكل مناهج متميزة فيه دون غيره.
بعد التخرّج كاهنًا في 17 من حزيران عام 1951، أمضى الراحل الكبير بداية مشواره في خدمة أبناء إبرشيته في زاخو، ومتنقلًا أحيانًا بين القرى المجاورة متفقدًا أحوالهم ومُديمًا حاجاتهم الروحية والمادية معًا. بعدها انتُدبَ للعمل سنة 1955 في معهد مار يوحنا الحبيب الإكليريكي بإدارة الآباء الدومنيكان بالموصل في منطقة الساعة، حيث أمضى فيه سنوات طويلة في التعليم والإرشاد عبر تلقينه تلامذته مادةَ اللغة الآرامية وآدابَها والتي كان لي الشرف أن أكون واحدًا من تلامذته، بل من المتقدمين فيها على دفعتي طيلة سبع سنواتٍ أمضيتُها في كنف هذه المؤسسة الكنسية. وطالما افتخرتُ وسأظلُّ أفتخر بالحنين لذكرى تلك السنين الجميلة التي أحفظ جانبًا كبيرًا من تفاصيلها وقد بقيت راسخة في ذهني وسلوكي وثقافتي كعلامة بارزة عندي كما هي كذلك لدى زملاء وأصدقاء كثيرين، منهم مَن ارتقى درجات كهنوتية عليا ومنهم من ترك الدراسة والمسيرة الكهنوتية، وبعضهم رحلوا عن دار الفناء وآخرون ما تزال ذكريات ذلك الزمن الجميل عالقة في ضمائرهم وأفئدتهم والحسرة تعصرهم بسبب ما آلت إليه الأحداث بعد غلق أبواب هذا المعهد في عام 1973 وتفرُّق تلامذته بغير إرادتهم. بعدها تنقل معلمُنا الكبير الأب أبونا بين خورنات عديدة في الكنيسة الكلدانية في بغداد من دون أن يفقد شعلة التأليف والبحث والكتابة والمتابعة والخدمة من دون مقابل. كما جرّبَ لفترات قصيرة، شيئًا من الحياة الرهبانية في أديرة الرهبنة الهرمزدية والكرمليين، لكنه غادرهما لعدم ملاءمتهما لأفكاره ورؤاه وطموحاته الإصلاحية. فأصحاب الطموح كالمتمرّدين على الواقع المرّ غير مرغوبٍ بهم في بلدانهم ومدنهم وبين أهلهم وناسهم. هكذا هي دروس الحياة!
مسيرة طويلة حافلة بالهمة والنشاط والبحث العلمي الدائم والراسخ عن حقيقة الكنائس الشرقية وألغازها ودهاليزها وأوصافها وشخوصها ودياراتها عبر التاريخ الزاخر المليء بالأسرار والفجوات والدسائس والصعوبات والمناكفات التقليدية. هكذا نقرأُها سيرتُه الذاتية بعد رحيله وانطفاء شمعته الجسدية وصمته في قبره الهادئ. لكنّ بصماته الشخصية في نقل حقيقة التاريخ ستبقى الرمز الأكبر بعد موته مرتقية رفوف المكتبات العالمية والمحلية التي تزدان مؤلفاتُه وتراجمُه بها بفضل قدراته الكبيرة واسلوبه السلس في رسم الحرف سريانيًا وعربيًا وفرنسيًا وفي نقل الحقيقة الصادقة بعد الإيغال في التمحيص والفحص والتحليل.  إنها بحق مسيرة علمية ومهنية منتجة تحققت وحققت مؤلفات وتراجم وتحقيقات لمؤلفات غيره، يصعب عدّها والتعريف بها. ولعلّ أشهرها وأهمّها وأكثرها قربًا لدى القارئ والمتتبع والباحث النهم، تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية بأجزائه وأدب اللغة الآرامية وديارات العراق وشهداء المشرق والآراميو ن في التاريخ وعشرات المؤلفات في السير الذاتية والأحداث الدينية والروحية والمدنية. فهو لم يدّخر وسعًا بكشف الحقائق التاريخية كما رآها وتصوّرها وحلّلها ونقلها بصبرٍ وعناية ورويّة. تمامًا، كما لم يُخفي تحسّرهُ وحزنَه إلى ما آلت إليه أحوال الكنيسة الشرقية، والكنيسة الكلدانية بخاصة في سنواتها العجاف الأخيرة. فقالها بحسرة ما بعدها حسرة عبر مؤلّفه: "كنيستي إلى اين؟". وقد أهداني شخصيًا في إحدى زياراتي له في بغداد نسخة منه. كما حظيتُ ببعض مؤلفاته ومنها أحد أجزاء تاريخ الكنيسة الشرقية ونسخة من ترجمة كتاب الرؤساء حيث اعتادَ المرحوم أن يخصّص شيئًا من مؤلفاته لتقديمها كهدايا للتلاميذ الأوائل على دفعاتهم في مادته "الآرامية" في احتفالٍ يُقام نهاية السنة الدراسية في معهد مار يوحنا الحبيب المذكور.
أمّا كلمة الحقّ، فلا بدّ أن تُقال. ففي ظل مشواره الشخصيّ مثير الجدل أحيانًا، والذي لم يخلو من سنوات شابها بعض التخبط في مسيرته الكهنوتية، فقد بانت على بعض توجهاته شيءٌ من علامات الاستفهام والحيرة مشوبة بالشكوك أحيانًا. وعلى ما يبدو، فقد تعثرت أحلامُه في فترة خدمته في معهد مار يوحنا الحبيب الدومنيكي بالموصل بالذهاب بين تأييد مرجعيته الكنسية المتمثلة بالبطريركية الكلدانية التي لم يطب لها حينها مدى التقدّم والشهرة والعناية التي أحاطت بالمعهد المذكور، وبين الالتحاق بمعهد شمعون الصفا الذي كانت تديره البطريركية الكلدانية ويفتقر إلى أركان التدريس والعلمية والتنشئة العالية. فقد شعر في فترة ما بأيادي خفية تسعى لمحاربة المعهد الأول الذي كان يحظى برعاية وعناية وشهرة كبيرة على صعيد كنيسة العراق والمنطقة. وهنا، ليس لي شأنٌ أن ألجَ إلى دهاليز تلك الحقبة التي أودت بمستقبل الرهبنة الدومنيكية في البلاد وإغلاق المعهد المذكور للأعذار الواهية التي خبرناها حينها. لكنّ المؤكّد في تلك الأحداث، تأرجح موقف الأب أبونا وعدم استقراره في قرارة نفسه، ما حمله للتنقل بين مؤسسات رهبانية وكنسية، كما أسلفنا بسبب ضبابية الرؤية وفقدان بوصلة الاستقرار لديه حول ما كان يدور في خواطره وطموحاته التي لم يشأ التعبير عنها إلاّ في مناسبات قليلة واحتفظ بالباقي منها لنفسه. وحتى في المناسبة التي فتحتها له البطريركية الكلدانية للتعبير عن طموحاته عندما توشح بالثوب الرهباني الهرمزدي لفترة قصيرة، لم يتأقلم مع القديم فيها، فغادرها غير متحسرٍ ورافضًا خيار الصدام الفكري العلني بين القديم والحديث الذي ارتآهُ في نقده لحال واقع كنيسته الكلدانية.
للفقيد الكبير الرحمة الواسعة، ولكنيسته ورئاستها وسائر أصدقائه ومحبيه وذويه كل العزاء. ولنا نحن تلامذتُه ومعارفُه وأصدقاؤُه ومريدوهُ كلُّ الفخر بطيب ذكراه وبما نهلنا منه أيام الدراسة على يديه سواءً في معهد مار يوحنا الحبيب الدومنيكي بالموصل، أو في مشواره القصير في معهد شمعون الصفا، أو في الكليات والمواقع الأخرى التي أمضى فيها فتراتٍ في التدريس وإلقاء المحاضرات. فقد حقّ له أن يُسجّل في خانة العظماء والعلماء والمؤرخين والمفكرين والكتاب البارزين والماهرين المهنيين الملتزمين.


 



غير متصل Odisho Youkhanna

  • عضو مميز متقدم
  • *******
  • مشاركة: 20789
  • الجنس: ذكر
  • God have mercy on me a sinner
    • رقم ICQ - 8864213
    • MSN مسنجر - 0diamanwel@gmail.com
    • AOL مسنجر - 8864213
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • فلادليفيا
    • البريد الالكتروني
المحترم الاستاد لويس
تحية ومحبة
فعلاً صدق من قال " أن العظماء لا يموتون بل يخلدهم التاريخ بأحرف من نور" هكذا هم العظماء حضورهم فاعل ومؤثر ، وفقدهم موجع ومؤلم و لئيم  حتّى لو كان حقّاً أو قدراً، يخطف منّا أعزّاء وأحبّاء وهاماتٍ وقامات، وأيقونات الله يرحمك ابونا البير خسرنك ولكن هذه هي ارادة الله
تقبل احترامي
may l never boast except in the cross of our Lord Jesus Christ