الأخ نزار ملاخا المحترم
تحية طيبة
شكرا لمروك الثاني الذي فيه تثير نقاط عديدة. لضيق الوقت لن أعرج على كلها بل أنتقي منها ما أراه في صلب الموضوع.
في البداية، لا أعلم كيف توصلت الى أنني أطعن بالهوية الكلدانية" او أحاول "تجريد الكلدان من هويتهم". أنا قلت ليس هناك ثوابت تجمع الكلدان حول هويتهم، أي لا نمتلك تعريفا نتفق عليه حول ماهية "الهوية الكلدانية".
نأخذ مثالا بسيطا: اسأل تقريبا أي كردي او عربي او انجليزي او غيره عن كبار شعرائه وأدبائه وأعلامه لسرد لك العديد منهم وقرأ لك أبياتا او قصائد بلغته. كم كلداني اليوم في إمكانه إيراد اسم شاعر كلداني واحد او قراءة بيت من الشعر بلغته؟ ليس لأننا لا نملك، بل لأننا فقط نتكلم ولا نفعل أي شيء.
أنظر "التأوين" الذي هو أخطر حركة يواجهها الكلدان في العصر الحديث لأن نتائجها كارثية، أي ستلغي ما بقي من لغتهم وتراثهم وطقوسهم، بمعنى أخر ستغسل وتلغي كل ما يعد من ثوابت الهوية الكلدانية. حتى في ردك الأول والثاني، وحضرتك ناشط قومي بارز في الساحة الكلدانية، لم تتطرق إليه، بل ذهبت الى أمور، في رأي المتواضع، هي ثانوية لا علاقة لها بالهوية التي هي في خطر شديد بسبب التأوين.
وأستشف من تعقيبك – هذه قراءتي الشخصية – أن البطريرك ساكو لو قال إن اللغة هي "كلدانية" وهذه هي التسمية الصحيحة والتسميات الأخرى خاطئة وعلينا تثبيت أن اللغة هي "كلدانية" لصار نبراسا وشعلة للنشاط والعمل القومي الكلداني حتى وإن كان عرابا للتأوين، والذي ما هو إلا تعريب وتغريب وتشويه وتزوير للغة والتراث والطقوس أي طمس الهوية برمتها.
من هنا "التسمية" ليست ذات أهمية بل الممارسة. وكل اسم ليس مهما بقدر أعمال المسمى. إطلاق الاسم او ما نسمي به الأشياء أمر يقبل التغيير ولكن حتى إن غيرناه فإن ما يشير الى الاسم من ممارسة وما يحمله من رمزية وثقافة وعلم ومعرفة وتراث وفنون وشعر وآداب هي المعيار.
"الكلدانية" ممارسة وثوابت أي هوية. ما هي هذه الثوابت؟ هل هي "الف لام كاف لام نون ياء" أم أنها عمل ونشاط ونضال من أجل ثوابت وفي مقدمتها تأتي اللغة والتراث والطقوس والفنون والشعر والأدب والنثر. اليوم كل هذه الثوابت في خطر، وهي في طريقها الى الزوال، والتأوين خير شاهد. ماذا سيبقى من الاسم لو زالت الثوابت؟
خذ الموارنة. الموارنة سريان، ولكنهم مهما قالوا إنهم سريان او حتى موارنة هذا لن ينقص حبة خردل من عروبتهم، لأن ثوابتهم هي اللغة العربية والثقافة العربية والشعر العربي والموسيقى العربية والفنون العربية. الموارنة رواد النهضة والقومية العربية ولن ينفعهم كونهم سريان حتى وإن صعدوا على الجبال وصاحوا بأعلى صوتهم أنهم سريان. ولهذا فيروز والرحابنة رواد قمة في الفن والشعر والموسيقى واللغة العربية، ولهذا ينهض العرب من الخليج الى المحيط ويسمعون موسيقاهم وشعرهم في الصباح الباكر. وهذا ينطبق على كل من استعرب من السريان او الكرد او الفرس او غيرهم. الا ترى أخي العزيز أن الكلدان في هذا النهج سائرون، وإلا ما هي قضية التأوين، وهل يحتاج شعب صاحب هوية عمرها الاف السنين تمتد الى عمق حضارة الرافدين، إي يكتشف بعد الاف السنين أن ثوابته – لغته وفنونه وطقوسه وشعره – لم تعد ذات فائدة وان اللغة العربية هي الأفضل.
أما إن وصل شخص من فئة ما الى منصب فهذا لا يعني أنه قدم خدمة لهويته. طه ياسين رمضان كردي وطارق عزيز كلداني. نعم وصل الكثير من الكلدان الى مناصب رفيعة ولكن لم نمارس ثوابت هويتنا وفضلنا الثوابت العربية على الثوابت الكلدانية، والموقف من التعريب وسيادة اللغة العربية على حساب لغتنا القومية هو السائد ومع الأسف هذا هو الحال منذ أمد، غير أنه طفح في عهد البطريرك ساكو وصار التعريب "التأوين" هو النهج وهو الثوابت التي ندافع عنها باستماتة، أقول ذلك لأنني لم ألحظ نقدا او مقاومة شديدة للتأوين وسياسات التعريب بينما الأكراد مثلا قاوموها ولا يزالون وبشراسة.
وأن يخصص البابا الفلاني كرسيا في جامعة باسم "الكلدانية" او "اللغة الكلدانية" هذا لا يعني أن الجامعة تدرس لغة اسمها "الكلدانية". الكرسي هو كرسي الأستاذية، وأي صاحب مال في إمكانه تخصيص كرسي في الجامعة لأستاذ يحمل درجة الأستاذية كي يحمل الاسم الذي يريده، ولكن هذا لا يعني ان الأستاذ الجامعي صاحب الكرسي سيعمل وفق مشيئة الذي خصص المال لهذا الكرسي ويحول مثلا تسمية قسم اللغة السريانية الى اللغة الكلدانية. خذ مثل أخر، فأنا أحمل لقب Hamrin Professor أي أن ممولي هذا اللقب خصصوا كرسيا لأستاذ يختارونه هم وشرطهم أن يكون كرسيه يحمل اسم Hamrin، ولكن ليس في إمكانهم التأثير علي كي أحول مثلا قسم اللغة السويدية الى اللغة الحمرينية. في الحقيقة لا يحق لهم التدخل. إذا لقب كرسي الأستاذية الذي يحمل اسم الشخص المتبرع شيء والرصانة العلمية شيء أخر. وتذكر معاهد او مؤسسات دينية، هذه بصورة عامة لا يعتد بها أكاديميا، وللعلم فإن جامعة الموصل مثلا، والتي كنت أستاذا فيها، لم تعترف بشهادات جامعات الفاتيكان ورفضت تعين أي من أصحابها ضمن الهيئة التدريسية، هذا كان في وقت الخير.
وأكرر ليس هناك جامعة رصينة في العالم لها قسم لتدريس لغة اسمها أشورية او كلدانية، بينما هناك عشرات الجامعات – حوالي مائة حسب إحصائية قمت بها قبل فترة – ومن ضمنها أرفع الجامعات في العالم مثل أكسفورد وكمبردج وشيكاغو ومانجستر وغيرها لها أقسام أو فروع تدرس اللغة السريانية وتقدم الأبحاث فيها.
كل هذا لا يعني أنه لا يحق لنا أن نطلق تسمية نختارها على أي شي في بالنا. في إمكاننا هنا في المنتدى كما يحدث ان نسمي اللغة ما نشأ، وشخصيا لا أكترث، ولهذا لنطلق عليها اللغة الكلدانية شريطة ان نمارسها ونحبها ونقدسها، نعم نقدسها لأن تراثها ونصوصها وفنونها كلها تقريبا تدور حول المسرة والبشارة، ولكن مع ذلك هذه اللغة صارت هدفا لهجوم شنيع – نعم شنيع – من عراب التأوين ووصل الأمر الى درجة أن بعض الناشطين القوميين الكلدان يسايرون نهجه.
تبقى مسألة واحدة وهي اللهجات، وأنا قلت في المقال اللهجة المحكية الكلدانية الساحرة، هذه لهجة من لهجات اللغة السريانية او الأرامية. لنا – للكلدان – فيها تراث ضخم، وأغلبه في تناص مع المسرة والبشارة ولكن لا أظن ستفلت من المعول الهدام لصاحب التأوين.
هل تدرّس هذه اللهجات – اللهجة الكلدانية واللهجة الأشورية – في الجامعات الرصينة؟ نعم تدريس على نطاق ضيق ولكن فيها أبحاث كثيرة ومنشورة في أمهات المجلات الأكاديمية ذات الاختصاص وهناك كتب تتناولها. في الجامعات التسمية الدارجة للهجات هذه هي الآرامية الحديثة Neo-Aramaic.
هذا ما أراه أنا انطلاقا من معرفتي الأكاديمية المتواضعة وهذا هو الحاصل في الأروقة العلمية والأكاديمية. هنا في المنتديات نحن أحرار، ولكن مهما علا صوتنا لن نغير في الواقع الأكاديمي شيئا.
هناك ولع أكاديمي كبير باللغة السريانية والسبب لسنا نحن بل أجدادنا الذين تركوا تراثا كل اكتشاف جديد له من قبل الجامعات يضيف لبنة مشعة ومنيرة الى صرح الحضارة الإنسانية، أما نحن فمنشغلون بتأوين هذا التراث، أي تشويهه وتغريبه وتعريبه وتزويره ورميه جواهره في القمامة او احراقها كما فعل "أهل الكهف" (أهل التأوين) أين ما حلوا، ونحن منشغلون بالصراع على أي تسمية هي الأفضل في المنتديات التي لا تأثير لها خارج نطاق روادها.
وأخيرا، حاشى لي أن أطعن بالهوية الكلدانية او محاولة تجريد الكلدان من هويتهم. هذا اتهام غير صحيح. بالعكس أحث الكلدان على التشبث بهويتهم ومقاومة أفة التأوين التي لا يقوم بها إلا "أهل الكهف" حيث ديدنهم رمي كتب التراث في القمامة او إحراقها او نعتها بصفات قبيحة. أقول آفة لأن التأوين يضرب ثوابت الهوية الكلدانية في الصميم.
وأنا اختتم هذا التعقيب المطول مرة أخر يحضرني قول مأثور للزميل الدكتور صباح قيا، وأرى أنه يؤشر الى واقع حال الكدان بصوة جلية: "حتى لو اتفق الملاك مع الشيطان, لن يتفق مع بعضهم الكلدان."
تحياتي