المحرر موضوع: يعسوبتي  (زيارة 1038 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل كريم إينا

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1311
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
يعسوبتي
« في: 22:39 20/01/2022 »
قصة قصيرة
يعسوبتي
كريم إينا
كانت ليلة قارصة، لم أرَ مثلها في شهر شباط، حيث ضوء القمر الرائع ينيرُ سماء قريتي (بغديدا) الجميلة، زالت الظلال الشاحبة من بين الأشجار، وإنقشعت الظلمة في كلّ زاوية من زوايا القرية، وهربت حلكة اليأس من النوافذ الخشبية القديمة، ليسكنُ محلّها ضوءَ القمر المنير. الوقتُ فجراً.. ومصابيحُ أعمدة الكهرباء تذرذرُ نحوي ضباب إشعاعاتها المضيئة. همتُ بها وشعرتُ بشحنة خوف وقشعريرة، ربّما تحذّرني؟ كأنّ زمهريراً هائلاً يشقّ ثلجة أعماق صدري، منذُ يومين، يحاول خنقي، يحشرُ وسادة هوائه المصفر في أنفي حدّ الثمالة.. ولكن دون جدوى، حرّرتُ نفسي منه تسلّقتُ قمة شجرة التوت لأستلف الصعداء، هدأت نفسي قليلاً أمام ثمار الشجرة مصدر غذاء العائلة.. أسندتُ رأسي على أغصانها الكثيفة لأحلم بمستقبل بعيد. تلتفُّ حوله الغيوم علّه وأنا أسرحُ لألتقط كوّة مبهرة تنداحً في الظلمة الغامضة.. يعسوبتي المنمنمة فاردة جناحيها نحوي ساطعة تلتفّ حولي برذاذ جناحيها الناعمي الملمس.. تعلو وتهبط كطائرة هليكوبتر، تنيرُ العتمة بصورها البراقة، ودفؤها يقفقفُ برودة الجو، ونثيثُ الرياح سعيد بتمايلها وإنفلاتها من بين الأغصان، للحظة تصطدمُ بخيوط العنكبوت فيختلّ توازنها يضؤبها الهواء والعدّ التنازلي لهبوطها بات وشيكاً.. زايلها شبح الموت رغم المسافة البعيدة التي بيني وبينها، خفتُ عليها، قفزتُ من مكاني مذعوراً لإلتقاطها أو نجدتها.. وهي ترمقني وتتهادى لترشف قدرها المحتوم الذي ما زال بضع خطوات بيني وبينها.. حاولتُ إنتشالها كالأخطبوط أمدّ ذراعي لأحتويها.. ولكن عصب الضباب عمى بصيرتي، فإستشرى الخوف بي، بدأ القمر يخفتُ ويخيّم على سماء قريتي هدوء مقيت، كأنّها تدخلُ في دائرة الفوضى، جسمها الإرجواني الرطب ينجذبُ بشدّة مطبقة على أريكة الحديقة بلا حراك، تعتريني حسرة وإكتئاب وأنا سائر لإنقاذها.. ما زالت مرارة الأقدار ودياميس الكون تحومُ حولي لتتجسّد بهيئة يعسوبة صغيرة، تتملّكني نفحة الشلل والعجز عن الحركة، لأتخيّلها بقفزتي الطائرة من شجرة التوت روح بلا جناح تفقدُ الأمل بالحياة..
رغوة متكسّرة في وريدي.. نبض ورهبة.. جستُ نبضها برفق فأومأت لي تفاصيل وجهها بالحركة من جديد. تلفظ أنفاسها بذبذبات طائرة تهتزّ هنا وهناك كالطاقة الشمسية التي تبعثُ إشعاع الحياة لبقية الحشرات الطائرة.. تبدأ مرة أخرى تحملُ خيالها الموجوع لتطير في فسحة الفضاء المقمر يصبغها الغروب بالسحب. وأنا وراؤها أتبع حركاتها المتمايلة خوفاً عليها من السقوط،عدتُ أدراجي من شجرة التوت والوقتُ ينفذُ مني وأشباح رؤياي تضيقُ بي تُدخلني في جدرانها وتخرجني مجبول الخاطر.. فلتحملني الملائكة إلى هوائها الطلق الذي ما زالت تنسجُ منه نولاً من الحرير.. حرصتُ أن لا أسرع كي لا أصدمها بسرعتي وهي في ذيل الطريق، الآن إرتاحت نفسي المتمرّدة وهي تجولُ حقول بغديدا النديّة الزاهية، هناك بصيصُ أمل لملاقاتها لتحديد موعد نظرة حب بيني وبينها أحدّثها تحدّثني علّنا نصل إلى خيط مرئي يربطُ بين هواجسنا وذكرياتنا اليقظة، إنّها تصغي إليّ بحنان وتعرفُ ما يجولُ في خاطري من كآبات متمرّدة، فتأتيني بنسماتها الشتائية العليلة، تدغدغني بقهقهاتها الغضّة، ولكن ثمّة حشرجة كبيرة توشوشُ بآذاني إنّه سربُ الجراد جاء لينسفَ كل ما زرعتُ من خضرة الحياة، تستوقفني حمامتي عند مبنىً قديم، كتب على حجارة سوداء كلمة أتأمّلُ قراءة فحواها ليرسو إسم يعسوبتي الصغيرة على طابع بريدي صغير، الذي غطّته الأزمنة الغابرة، كانت ملتصقة بضوع زهرة، حاولتُ شمّ رائحتها المخملية وكأنّها تفاحة نيوتن، جذبتني إليها من أعلى قامتي حتى أخمص قدمي، دنوتُ منها كثيراً فطالعتني بنبرة كلامها الممشوق. وقالت:من أنت؟ يوشكُ البرقُ أن يلتمعُ وبخار البرد يخرجُ من فمها بكل عناية.. سحرني بنعومته المداعبة،قلتُ لها: أنا عيناك المحترقة تكمن عذوبتك الناعسة في فضاءات جسدي فألتقطها بسرعة الفهد، أطلتُ المكوث عندها وصدى كلماتها يَرنّ في وحدتي الجارفة، خطفتُ أرجلي النائية أمامها وصوتها الخفي خلفي يتململُ في كلّ الجهات شكرتني لخوفي عليها من السقوط وصوتها الإنثوي يترقرقُ ساعة هطول المطر وهو يتوهّجُ في ثنايا يوم شجي، كانت النشوة تغمرُ جوانحها ثمّ بدأت تنأى عني بمسافات غير مرئية حدّ التلاشي حينها أقفلتُ راجعاً إلى بيتي الموحش وعلامات الحزن تدّبُ من جسمي كشرارة سنا ضياؤها للعاشق الآتي من بعدي، وبعد هنيهة ضربتُ أوراق اللعب بالأرقام، علّها تخرجُ لي ثانية ونعيدُ حلم الحب الأبدي، ولكن تراني كنتُ مجرّد أحلمُ فقط حين أيقظني طنين ناقوسَ كنيسة بلدتي العجيب وهو يقول لي: حقاً.. حقاً ستأتي مرةً أخرى وبعد هنيهة من الوقت دُقّ جرس الهاتف حملتَهُ بيدٍ ٍ مثقلة وأنا أسترقُ السمع بدا لي صوتاً غريباً وهو يقولُ لي: سوفَ آتي وإنقطع الخط... فجأةً سمعتُ ضربةً خفيفة على مصراع باب بيتي المصنوع من شجر البلوط، إنذهلتُ بدوران لم يحدثُ لي من قبل، أسر قلبي وهو يعدو مسرعاً سابقاً أرجلي للوصول إليه، وعندما فتحتُ الباب، رأيتُ حلمي الضائع يعسوبتي الحزينة، وهي تتلهّفُ لرؤيتي، رحبتُ بها دخلت وعيناها البرونزيتين تقدح حناًناً غير متناهي، حينها لملمتُ أوراقَ حلمي الأخير، وكلانا نتشوّق بفرحة اللقاء التي ما زالت تضوعُ بيننا حتى مجيء المشيب.