المحرر موضوع: الولاءات الفرعية تلغي الانتماء الوطني  (زيارة 625 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل لويس إقليمس

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 426
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني

الولاءات الفرعية تلغي الانتماء الوطني
لويس إقليمس
بغداد، في 17 كانون ثاني 2022
 
كتب الكثيرون وكتبنا، وسيستمر اليراع الناضج بالكتابة عن السكاكين الحادة الكثيرة التي اغتالت الوطن وقتلت روح الانتماء إليه وساهمت بفقدان هيبته وضياع سيادته في متاهات تعدد الولاءات الفرعية التي تصرّ جهاتٌ حزبية في المثلث الحاكم إبقاءَها وتصدّرَها المشهد السياسي المتهالك وفق مبدأ التوافق والمحاصصة غير المنتج. ولكن قصرَ النظر في رؤية بعض كتابنا المعروفين على صعيد المنبر الثقافي والصحفي والمحسوبين على كتلٍ سياسية أساسية ساهمت في تشظي الولائية الخالصة للوطن والانتماء له، قد ساهمت في تعزيز هذه الأدبيات عبر التغاضي أحيانًا، بقصدٍ أو بدونه، عن قول كلمة الحق وكشف الحقائق كما هي، حينما يتعلق الأمر بمكوّنهم صاحب الراية العليا في تقديم مسمياتهم العرقية والقومية والفئوية والمذهبية وتدوين سبقِها على غيرها في سارية الانتماء الوطني.
والمقصود هنا وبكل صراحة نموذجان من الساسة قبل غيرهم بسبب تفاقم تأثير هؤلاء وطغيان تعسفهم طيلة السنوات التسع عشرة المنصرمة من حكم المثلث المتهالك بعد السقوط الأهوج على يد الكاوبوي الأمريكي الظالم. ودخولاً في التفاصيل، فقد بان على الملأ مثلاً، تفاخرُ شرائح واسعة من الساسة الشيعة بإيثار مذهبهم وسبقه على أي مسمّى وطنيّ يخص تاريخ العراق وجغرافيتَه وحضارتَه وهيبته وسيادتًه. وقد لحقهم في ذات القطار الوصولي غير الجامع، ما صدَمَ العراقيين والعالم بتعنّتِ زعامات وساسة ونواب أكراد على تقديم مسمّى القومية الكردية والإصرار على مقاربتها والاعتداد بها على حساب أولوية سمة الانتماء الوطني الجامعة للعراق وشعب العراق قبل غيرها من المسميات. ومن المؤسف أن تتفاقم أدبيات مثل هذه الولاءات والانتماءات الفرعية وتتسيّد المشهد السياسي والاجتماعي على السواء في محاولة من أحزاب السلطة الفاشلة لفرضها بأية وسيلة ولتصبح جزءً من الحياة العراقية بتقدّمها على مفهوم الولاء الوطني الجامع.
لقد أعجبني ما كتبه الكاتب الماهر "كفاح محمود كريم" قبل ايامٍ على صفحات هذه الجريدة في عنوان مقالته "الوطن وتعدد الولاءات والانتماءات"، حينما افصحَ وأماطَ اللثام عن بعض منغصات وشكل هذه الولاءات والانتماءات بشأن مفهوم "الوطنية، وتحوّلها في ظل هذه الكائنات إلى مجرد أغنية أو نشيد أو شعار أجوف أو سلّم لاعتلاء كراسي السلطة ليس إلّا"، وذلك من خلال تركيزه حصرًا على أثر الدين والأحزاب الدينية في "تقزيم المواطنة وتصدّر شكل هذا الولاء أو الانتماء للمذهب والعشيرة"! لكنه في واقع الحال، قد أغفلَ أو حاول تجاهل شكلٍ معقدٍ آخر من أشكال هذا الانتماء أو الولاء غير الجامع الذي ينتمي إليه شخصيًا ولم يتوخى الحيادية في الوصف والنقد والتقديم. كنتُ أتمنى عليه أن يكون منصفًا وصريحًا أكثر. ففي ضوء ما نسمع ونقرأ ونشاهد، هل يمكن التغاضي عن صيرورة واقع حال التسمية "الكردساتنية" شكلاً من أشكال الولاء الفئوي في سياسة الإقليم والإصرار على سبق ذكرها على أيّ مسمّى وطني عراقي جامع؟ فإذا كان القبول بها كواقع حالٍ وكحقيقة ثابتة من دون لبسٍ أو خشية، فهي في نظر العراقيين جميعًا رؤيةٌ قاصرة وغير مقبولة. فالعراق أعلى وأرفع من أي مسّمى فرعيّ، قوميًا كان أم دينيًا أم مذهبيًا أم فئويًا أو ما سواه. وما على ساسة الإقليم إلاّ مراجعة الذات وتقرير المصير وعدم خداع شعبهم أولاً وعموم شعب العراق ثانيًا. فالشعب الكردستاني الطيب الذي عانى كثيرًا وصبرَ وضحّى، كان وسيبقى جزءً مهمًّا وأساسيًّا في نسيج المجتمع العراقي، ومساهمًا سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وعلميًا وفنيًّا في إدارة البلاد من منطلق "العراق وطن الجميع".
ولكن، لنفترض هذا سؤالًا بريئًا من مواطنٍ أغاضته مثل هذه المسميات الفرعية التي يسعى أصحابُها وأدعياؤُها تسويقَها من أجل فتّ عضد اللحمة الوطنية وإضعاف القدرة الانتمائية للوطن الجامع وجعله ألعوبة بأيادي الجهات التي تستغلُّ ضعفه وغيابَ الزعامة الوطنية الجامعة الصادقة فيه. فبحسبة بسيطة لا تحتاج إلى تعقيدات العجينة المختلطة بكل أنواع الطحين الجيدّ والرديء والممزوجة بالبهارات والمقبلات المجامِلة والمرائية والكيدية غير البريئة بتاتًا. فإنْ كانت هذه المسميات بكلّ أشكالها وألوانها لا تقبل بأولوية "العراقية" والانتمائية الصادقة والصريحة للوطن الجامع، فلماذا كلّ هذه المماطلات وصفقات الابتزاز والمساومات في الالتزام بالدستور أحيانًا وفي الرغبة بتغييره أو تعديله في أحيانٍ أخرى؟ وكيف بنا من هذا التناقض في الرؤى وفي مسارات الحكم المتعثرة منذ 2003 عندما ساهمت هذه الكتل العرقية والقومية والدينية والمذهبية والعشائرية والإقطاعية والفئوية بمجملها في كتابة الدستور لصالحها ولصالح انتماءاتها الفرعية حصرًا، بعيدًا عن مصلحة الوطن العليا وإيغالاً بإهانةً شعب الحضارات وتغييبًا لدوره، وهو صاحب السلطة كما يدّعي أدعياء السياسة المراهقون الذين سطوا على السلطة في البلاد بتلك الطريقة المعروفة بدعمٍ من أعداء البلاد المحتلين على اشكالهم وتكالبِ مطامعهم وتعدد المكاسب التي حصدوها من وراء إسقاط النظام السابق؟ فتلكم كانت من أكثر الجرائم التي اقترفها الغازي الأمريكي الطائش وأعوانُه من دول الشرّ العالمي والإقليمي وبلدان الجوار الطامعين على حدّ سواء في نشر الفوضى وإضعاف البلاد والسعي لعدم استنهاضها لسنواتٍ قادمات حتى يشاء القدر. وليس في ذلك شك!
سيادة أنماط فرعية من الولاءات
لا أحد ينكر سيادة أنماط عديدة من الولاءات والانتماءات الفرعية في المجتمع العراقي ما بعد التغيير الدامي الذي فرّطَ في مصالح البلاد وفي مصير العباد. ومنها أنّ بعضًا من الجهات التي حصدت منافع حصرية على عهد النظام السابق وما بعد سقوطه بفضل تكالب المجتمع الدولي على قدرات البلاد آنذاك لأية أسباب كانت، قد لاقت فرصتَها المؤاتية في فرض أجنداتها بفضل ما نالته وحصدته من دعم دولي فائق ومساعدات استثنائية لتحقيق مكاسب على حساب باقي مكوّنات الشعب الأخرى. فكان منها ومن سواها مّمن اجتمعوا على إعمال السكاكين الحادة في جسم الفريسة التي تهاوت كالنعجة التي تُساق للذبح من دون إرادتها، أن قتلت كلَّ روحٍ وطنية وفتّتت اللحمة المجتمعية العراقية التي قلّما شهدت نعراتٍ طائفية وخروجًا عن جادة الوطنية منذ عقود. فقد كانت السيادة للوطن شعارًا أبديًا والانتماءُ إلى أرضه وسمائه ومياهه علامة مضيئة في مسيرة جميع مكّونات الشعب بكلّ تلاوينه ومكوّناته وتفاصيله من دون أن تعلو قامة على غيرها إلاّ بالولاء إليه والانتماء له قبل أي انتماء أو ولاء، والتغنيّ بحبه وهم يعانقون ألوان علمه ويغدقونه بنشيد "موطني" الأزلي الكلمات.
تلكم كانت الحقيقة في واقع الحياة مع عدم نكران حالاتِ شذوذٍ في المسيرة السياسية. وهذا شأنٌ طبيعي في بلدٍ مثل العراق متعدد الثقافات والأصول والحضارات والأديان والمذاهب. لكنّ اللحمة الوطنية كانت هي السائدة، وليس الولاءات الفرعية، عرقية كانت أم دينية أم غيرها، إلاّ من جانب شواذ الأمة من الولائيين التقليديين للغير والتابعين لأجندات دولية مغرضة. وهكذا ضاع مفهوم المواطنة الصحيح وحلّت محلَّه ثقافات دخيلة ومغرضة جديدة معطِّلة لروح المواطنة ومسيئة للوطن وأهله، بحيث أصبح ألعوبة بأيادي غير أمينة ودخيلة على حضارته وثقافته وطباعه النهرينية. حتى نهراه الخالدان، لم يسلما من النهش والغدر بالسعي لتجفيفهما من دول الجوار أمام مرأى ومسمع من ساسة الصدفة الذين ركّزوا جلَّ همهم وغمّهم على كيفية الغرف من موارد البلاد واقتسام كعكته التي سال وما يزال يسيلُ لها لعابُ ساسة أحزاب السطوة بأي ثمن واية وسيلة، إلى حين تأزف الساعة. وقد باتت قريبة في إزالة الصورة المشوشة للحالة الشاذة السائدة بعد انتظار مرير عبر تقرير التشكيلة الحكومية المرتقبة "لا شرقية ولا غربية، حكومة أغلبية وطنية". عسى الجهة المعنية تثبتُ على قرارها وتقود همة الإصلاح الوطني الحقيقي بجدارة وعزيمة ونزاهة ومن دون مجاملة ولا تقاعس ولا تغاضي عن محاسبة أهل الفساد سابقًا وحاضرًا ومستقبلاً، بدءً من عناصرها المشبموهة ووصولاً إلى الرؤوس الكبيرة التي تسعى للتشبث بالسلطة والاحتماء بها بأيّ ثمن خشيةً من أن تطالها المحاسبة المرتقبة.
المفهوم الجامع للوطن
من هنا نقول، ليس الدين والمذهب والطائفة والعشيرة هي الأدوات الحصرية في "تقزيم المواطنة" وتأزيم العلاقة بين الشعب والوطن وفي تفتيت لحمة الأخير على حساب المفهوم الجامع. بل بالخروج عن الإجماع الوطني أيضًا في دفع وتقديم "قومية" بعض المكوّنات، أو في السعي لسيادة "العرق" وفرضه عنصريًا على غيره من أعراق المكوّنات الأخرى. فالمفهوم الجامع للوطن يكمن في تقديم المواطنة العراقية على غيرها من الهويات الفرعية، ولا مبرّرَ للتلاعب بالألفاظ وفي دغدغة مشاعر البعض زورًا وبهتانًا. فأنا لو حسبتُ نفسي وطنيًا قحًّا، فينبغي أن أكون "عراقيًّا" بتكويني وواقعي وشخصي وتطلعاتي وطموحاتي وهمومي وحرصي جملةً وتفصيلاً، قبل أن أكون عربيًّا أو كرديًا (كردستانيًا وهي التسمية التي استخدمتها شخصية برلمانية وسياسية مؤخرًا في لقاء إعلامي) أو فيليًا أو سريانيًا أوآشوريًا أو كلدانيًا أو إيزيديًا أو شبكيًا أو صابئيًا أو تركمانيًا أو شركسيًا أو يهوديًا أو معتنقًا الإسلام أو المسيحية أو البهائية أو أية ديانة أخرى معترفٍ بها في بلاد الرافدين بحسب دستور البلاد منذ نشأة الدولة العراقية.
وهكذا يبقى العراق ومستقبلُه رهينَ أداء الصادقين الأوفياء المنتمين إليه بكل جوارحهم وهمومهم وتطلعاتهم، وطنًا يجمع الكلّ بفسيفسائه وتعدّد ثقافاته وقومياته وأديانه، وليس لفئة دون أخرى. وهي ذات السمة الجامعة التي تربط الحاضر بالماضي وترفع من الأمنيات بمستقبل واعدٍ حين استعادة المبادرة بإحياء روح الانتماء الحقيقي للمواطنة والولاء للوطن والشعب عوضًا عن أشكال المسميات الفرعية الأخرى التي تفرّق ولا تجمع، وبعيدًا عن أية نظرة استعلائية لصالح مكوّن ديني أو قوميّ دون آخر. وهذا هو النهج الصحيح في إعادة بناء العراق وفق مفهوم المواطنة والمساواة والعدالة في الحق بحياة سعيدة وآمنة، كما في الحق بإدارة البلاد وفق مبدأ الكفاءة والجدارة ووضع الرجل المناسب في الموقع المؤهلِ له من دون تمييز أو تحييد أو مجاملة.
أمّا أن يًصار إلى تقديم وسبق قومية فرعية على "الهوية الوطنية الجامعة للوطن وفي الانتماء للشعب الأكبر" وعلى الملأ وبكلّ عنادٍ وإصرار، وعبر ما تيسر من وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي المختلفة أو في مناسبات ومؤتمراتٍ دولية، تمامًا كما فعلَ ويفعلُ أدعياءُ وأصحاب تقديم المذهب أيضًا على الانتماء الوطني، فذلك شأنٌ لا يمكن تمريرُه والقبول به بسهولة. وما على الجهات المعنية سوى تعديل المسار ووضع النقاط على الحروف لتبيان الغاية وكشف المستور المقصود واتخاذ ما يلزمه مثل هذا الخروج عن الجامع الوطني "العراقي" الذي ينبغي أن يسبق أية تسمية أو مسمّى غيره. فالمواطنة لا ينبغي "تقزيمها وحصرها في طائفة بذاتها او دين بعينه" كما كتب البعض. لكنّي أضيف وأؤكد، لا يمكن تقزيمُها أيضًا بالتسمية القومية لصالح كتلة أو مكوّن دون غيره. وهذا هو المفهوم الحقيقي "للوطن الجامع والانتماء للشعب الأكبر"! فالوطن يكبر في أعين الشعب داخليًا وخارجيًا حين تلتئم جميعُ مكوناته في بوتقته الجامعة، وطنًا موحدًا وشعبًا واحدًا، وليس في تفتيت عضده والنهش في لحمه كلّما تعرّض لمحنة أو صعوبة ليُترك ينزفُ حتى الموت!
حاشا لوطني أن يموت! فالأمل به وبالخيّرين والطيبين من الوطنيين من ذوي الأرحام الأصيلة كبيرٌ كبرَ بحور الماء، وعظيمٌ عظمة المحيطات، وواسعٌ رحابة صدور العراقيين من ذوي الإرادة الطيبة والنوايا الحسنة، طالما بقيت مياه النهرين الخالدين دجلة والفرات تغذينا بمياهها العذبة الدائمة الجريان. فإنّما الوطن الحقيقي في تقدّمِه وسيادته وهيبته وتقويمه وتشذيبه ووضعه على المسار الصحيح كما يليقُ بأيّ بلدٍ يحترمُ شعبَه ويقرُّ بقدراتِه البشرية والمادية ويصونُ هويتَه ويؤمّنُ مصيرَه. ولا شيءَ غيرَه من وراء القصد!