المحرر موضوع: الوحدة القاتلة  (زيارة 974 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل كريم إينا

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1311
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
الوحدة القاتلة
« في: 00:25 05/03/2022 »
الوحدة القاتلة
   كريم إينا
كانت الحياة جميلة فيها سعادة لا توصف، لكن بمجيء الظلاميين أصبحت الحياة لا تطاق، العوائل تفككت، الإبن لا يطيع والده، البنت غاضبة على والدتها، الكل مستنفر الطاقات، دخول داعش بفصائله الإرهابية هي السبب في تغيير المقاييس، خلال فصل الصيف الحار، تم إختراق حدود العراق، وتحت أجواء قنابر الهاون والقاذفات أصبح الكل يركض من أجل النجاة، كلام كثير.. غضب يجول في خاطره، فقط من كان سنداً له في بؤسه، كلام لا يفهمه أحد، رفع رأسه ونظر نحو السماء، رأى هذا البرق، وهذا الغضب والمطر الصاعق، وكأنّ كلّ هذا الكلام الذي بداخله تفسّرهُ السماء، وتقول: لهُ أنا أتفهمك، بدأ الضباب يجتاحُ حياته منذُ أن غادرته شريكة حياته، لقد كبر في العمر إبنهُ الوحيد تركهُ ورحل عنهُ ليكمل دراسته في إحدى الجامعات العراقية، ما زال يعزفُ على رثائها، ظلّ بائساً يخنقهُ الضجر، تاه بين الأزقة، والمطرُ يلطم وجناته، مرّ بسوق الغزل يمشي مثقل الجسم خائرة قواهُ، فجأة لمح متجراُ لبيع الطيور، سار نحوهُ، سمع صوتاً عذباً لتغريد ببغاء، عجبه هذا الصوت ذو المنظر الأخاذ بغاية الجمال، إبتاعهُ، عسى أن يحظى بصحبة جيدة ليؤنس وحدته لبقية أيام حياته، أينما يذهب يرى شبح وجه زوجته، لا يعرف ماذا يفعل؟، كان سكان القرية يلقبونه بغريب الأطوار نتيجة صمته البائس، يتذكر رقصات زوجته الناعمة عندما كان يعزف للناس والنقود تنهالُ في وعائه، هكذا كان يعيش، لم تعد الموسيقى والرقص يحركان كيانه كالسابق،لم يثرهُ أيّ شيء، لذا قرر السفر نحو بلاد الشمس ومحطات الأنس، لينسى سنوات الحرمان، رافقه الببغاء أينما ذهب برحلته إلى لندن، رغم ثرثرته المبالغة كان مؤنساً لهُ، الحياة هنا مترفة، أموال تخرجُ من الصراف الآلي بمجرد كتابة كلمة السر!... بدأ يفكرُ بمصدر المعيشة، إختار حيلة لكسب المال بواسطة صديقه الببغاء، ظلّ يدربهُ شهر كامل كيفية حفظ كلمة السر للزبائن الذين يمرون كلّ يوم من أمام الحاسوب المالي، في اليوم الأول أخطأ الرقم، في اليوم الثاني سقط من جدار عالي، أرسلهُ إلى طبيب بيطري عالج رجله اليسرى المكسورة، ما زال بإستطاعته الطيران، كرّر العملية عدّة مرات، وأخيراً جلبت له نتائج مبهرة، أصبح غنياً سعيداً في تلك اللحظة لما تدرُ عليهم من أموال، إستمر الببغاء بحفظ كلمات السر لخمس زبائن يومياً، يرددها على مسامعه ثمّ يذهب لضرب الأرقام بالصراف الآلي، تبدأ النقود تنهالُ داخل كيسه، كان يطعم الببغاء بسخاء، أصبحا عام كامل على هذا النعيم، أطعمهُ ما لذّ وطاب، وفي يوم من الأيام تعكر مزاج الببغاء قلّ عطاءهُ بإعطاء كلمات السر لصديقه، ممّا إضطر بمعاقبته بإعطائه وجبة طعام واحدة فقط خلال اليوم، بدأ جسمهُ يهزل لا يقوى على الطيران، فكرّ بأن يضعهُ في قفص حديدي، ظلّ وحيداً يكلمُ نفسهُ ليس من مجيب، وفي ليلة شتاء باردة قرر معاقبتهُ بأن يخرجهُ من القفص كي يشعر قليلاً بالبرد، ولكن تصرفه هذاُ لم يكن بالحسبان، في تلك اللحظة تسلّل قطٌ أرعن من حاوية النفايات قفز إلى حديقة البيت، وهو يراقب حركات الببغاء الهزيلة بعد خروجه من القفص، حينها إنقضّ عليه، نفش ريشه نصفه أصبح في بطنه، والنصف الآخر ما زال ينظر إليه، دخل صديقهُ عتبة الدار،شاهد منظراً غريباً، بقايا ريش ملون بالأخضر والأحمر بينما جسم الببغاء إختفى. وضع يديه على رأسه وهو يولولُ من شدّة حزنه عليه لأنّهُ مصدر رزقه، شعر بالإثم الذي إرتكبهُ قال: بتجهم ماذا فعلت بحق صديقي؟، لملم بقية أجزاءهُ المتبقية في الحديقة، حفر حفرة صغيرة ثمّ دفنها فيها، بعد هنيهة طرق أحدهم الباب، فتح الباب رأى أمامهُ ثلاثة أشخاص، قال: لهم ماذا تريدون؟. قال: أحدهم أنا جابي أجور الماء، والثاني قال: أنا جابي الكهرباء، والثالث قال: أنا جابي الإنترنيت، إنحرج أمامهم وقال: لهم سوف أذهب لأسدد الديون، خرج من هذا المأزق مثل الشعرة من العجين، وهو يقولُ: في نفسه كيف أدفعُ أجور الخدمات وأنا لا أملك أيّ مورد؟. حينذاك قرر أن يسافر ويرجع إلى العراق ليبحث عن إبنه ربّما يساعدهُ في محنته، الوحدة عندهُ أصبحت قاتلة لا يستطيع مقاومتها، تاه  بين الأزقة والشوارع، بحثاً عن إبنه الوحيد، القدر لم يستجب له، ظلّ يتسكّع بين الحانات، ينتظر من يرأف بحاله بقطعة نقود ولكن دون جدوى، مرت شهور وهو على هذا المنوال إلى أن نفذت كلّ الأموال التي بمعيته، حاول الذهاب إلى مقهى الرشيد في الجانب الآخر من الشارع، وفجأة صدمته سيارة سوداء، سقط من طوله على الأرض، لامست إحدى وجنتيه الشارع، شعر بسخونة كبيرة نتيجة لحرارة الشمس في ذلك اليوم سافر به شريط سينمائي عن رفيقة حياته، شعر بدفىء غريب يحسدُ نفسه عليه، ظلّ يبتسمُ  رغم كلّ آلام الحادث، تمنّى لو كان كلّ شيء ينجلي، ويعود به الزمن إلى تلك الذكريات الجميلة مع سلوى زوجته، وعينه ما زالت تراقبُ الحدث، أغلق جفني عينيه في أمل أنّ كل تلك المعاناة والمأساة كانت كابوساً مزعجا،ً نام بغيبوبة لمدة يومين، وفي اليوم الثالث رأى زوجته وهي برداء أبيض ناصع البياض والببغاء متكئاً على كتفها الأيمن، فقالت: لهُ أليست الوحدة قاتلة يا عزيزي، ما رأيك في أن تنضم إلينا، أجابها بكل تأكيد، فتح عينيه رأى إبنه ممسكاً بيده المبلولة من الدموع المتساقطة عليها، فقال: له الأب، يا بني لا تبكي فأنا لا أستحقُ دموعك الثمينة لأنّي إنسان خاطىء، أنصحك بأن لا تكون مثلي، نزل إبنه من السيارة حمله بسرعة إلى المستشفى، وقتها أصيب بغيبوبة، بعد ساعتين من كشف الطبيب له صحا من النوم نظر إلى إبنه وتفاجأ، قال: ولدي ولدي، لفظ أنفاسهُ الأخيرة ثمّ فارق الحياة.