عندما يغزو الدينُ عالَمَ السياسة، البطريرك لويس ساكو زعيمًا وطنيًا
لويس إقليمسبغداد، في 14 شباط 2022
قالوها: "إذا اختلط الدين بالسياسة كانت الفتنة"! لكنّ واقع الحال في أحيانٍ ما وظروفٍ ما تستلزم تدخلاًت قوية وتمريراتٍ متفاوتة بنصائح وملاحظاتٍ لا بدَّ منها من أجل وضع الأمور في نصابها بعد اختلاط الأوراق واغتصاب الحقوق وضياع القدرات واختزال الوطن بفئات متحاصصة متخاصمة متحاربة على الجاه والمال والنفوذ بسبب فساد الساسة وأدواتهم.
عالَمُ السياسة عالَمٌ مغري، فيه مشاهد كثيرة جاذبة للارتقاء بطموحات شخصية وبلوغ مراتب عليا في صفحة الشهرة والمال والجاه والنفوذ والطغيان والفساد، تمامًا مثلما تبرز فيه رجالاتٌ صادقةُ الزعامة تستحق أن تُرفع لها قبعاتُ الاحترام وتُنصبُ لها معالمُ ونُصُبٌ لتبقى في ذاكرة التاريخ والإنسانية الخالدة. وهذا حسبُ بعض رجالات الدين وزعاماته أيضًا في هذه الأيام الصعبة، حين استغلال هذا الأخير أو التجلبب بشكلٍ من أشكاله أو العبور فوق جسوره من أجل بلوغ مآرب شخصية ضيقة وأنانية لا تخدم مبادئَه ولا تحترمُ قيمَه ولا تسمو بمعانيه العليا التي ينبغي توجيهها لخدمة النفوس المتعطشة إلى كلمة الحق وعيش سمات الصدق والمحبة والعدالة الاجتماعية والأخوّة الإنسانية وسط المجتمعات وصولاً إلى تحقيق السلام والاستقرار في المجتمعات وبين الأمم والشعوب احترامًا لخليقة الله شاملِ الرحمة لجميع بني البشر. وطالما وردتْ تحذيراتٌ حكمية من انجراف زعاماتٍ دينية، من أيّ دينٍ أو معتقد أو مذهبٍ، باتجاه أعماق السياسة المحذورة وغير الآمنة بسبب ما قد تنتجه هذه من إشكاليات غير محسوبة النتائج، أو ما قد تفرّخُه من مآسٍ وتخلقه من تشكيكات وهواجس ومخاوف بسوء النية وضعف الإرادة في إدارة دفة هذا الاتجاه غير السالك، المحفوف بالعديد من المخاطر والانزلاقات التي لا تُحمدُ عقباها في حالة زوغانها عن الطريق المرسوم لها في ذاكرة وعقل مَن يختار سلك مثل هذه الطريق غير الآمنة في النتائج والأفعال والمصير.
عن واقع الحال في عراقنا الجريح، تتأرجح المواقف وتتقاطع الرؤى في النظرة لرجل الدين وهو يخترق عالمَ السياسة ويجوب في غماره ودهاليزه متعثرًا حينًا وصائبًا في خطاه ومساعيه في أحيانٍ أخرى، مقبولاً في غيرها مرةً وساقطًا تحت حربات النقد وسيوف العقد وجنبات الفقد في أخرى. فمازال الجدلُ سيّدَ الموقف على مستوياتٍ عديدة، ومنها موقف عامة أتباع الأديان من زعامات دينية اخترقت عالم السياسة بأشكالٍ وسياقات مختلفة. فمنهم مَن كان حليفُه النجاح والقبول به زعيمًا، أيًا كان شكلُ زعامته، فارضًا نفسَه وشخصَه وتاريخ أسرته ومذهبه بالرغم من أنف الغير، فيما هذا الغيرُ صاغرٌ. ومنهم مَن أخفق في تبيان كاريزما الزعامة شكلاً وقولاً وإقناعًا، فوقعَ ضريرَ السمعة وحبيسَ سوء العشرة وغيابَ القدرة في الإقناع. وهناك شكلٌ آخر من زعاماتٍ دينية أكثر إيجابيةً غالبًا ما اتصفت بكاريزما مميّزة بفضل ثقافتها المنفتحة وعمقها الديني الواضح بفضل سموّ علاقاتها مع قيادات مدنية وشعبية ورسمية، ناهيك عن قربها من أفكار ورؤى وتطلعات ذوي الانتماءات الصادقة للأوطان، والحريصة على بناء الإنسان ومقاربة احتياجاته الإنسانية اليومية. وكان ممّا ساعد نماذجَ هذه الزعامات الدينية الصادقة في وعدها وحسّها وحرصها أن يكون لها دورٌ مميّز ومقبولية لدى عموم ساسة البلاد وزعاماتها بسببٍ من أفكارها الناضجة وقربها الإنساني من الجميع ورؤاها السديدة التي تصبُّ بالتالي في خدمة البلاد والعباد. ويكفي شعورُ العديد من ساسة البلاد وزعاماتها بالخجل والحياء بسبب طروحات هذه النماذج الوطنية من رجالات الدين المتميزين وممّا تطرحُه من أفكارٍ ورؤى ونصائح وتحذيرات تنفع دروسًا يومية في التعامل مع واقع الحياة.
ذلكم هو واحدُها، سيدي وصديقي غبطة البطريرك الكاردينال لويس ساكو، سدّد الربُ خطاه دومًا. فهو ينفع اليوم معًا، زعيمًا روحيًا وقائدًا وطنيًا.البطريرك لويس ساكو، زعيمًا وطنيًا من العدل أن أتطرق في هذه السطور إلى هذا الصوت الوطنيّ الصارخٍ في برّية العراق ينادي ويناشد ساسةَ البلاد بأعلى قدراته من أجل إعداد طريق الوطن وتقويم سبل الشعب والرحمة بالفقراء ومساعدة المحتاجين والركون للتعايش السلمي ونشر أدوات الأخوّة الإنسانية التي دعا إليها بابا الفاتيكان خلال زيارته للعراق قبل عامٍ. فحضورُ غبطة البطريرك ساكو، في مناسبات رسمية ووطنية وخاصة، يمثلُ في الواقع السياسيّ الهشّ علامة مضيئة على دور رجال الدين الإيجابيين من فئة المؤمنين حدَّ النخاع بالمبادئ الوطنية الساعية دومًا لنشر أدوات العدل والمساواة والألفة والتضامن والأخوّة والمحبة في أوساط شرائح المجتمع كافة، وليس في أوساط المسيحيين فحسب. فمَنْ مِن العراقيين والعرب والعالم لا يستمتع ويتفكّرُ بكلمات غبطته وهو يعتلي المنابر متحدثًا بصراحته المعهودة وموجهًا كلامه الأخوي بالرغم من قساوته في أحيانٍ كثيرة، للحضور والغائبين معًا بضرورة التكاتف والتآزر والوحدة من أجل وطنٍ موحد يتمتع جميع مواطنيه بحقوق كاملة غير منقوصة وفق الاستحقاق الوطني والجدارة والكفاءة وبموجب الدستور والقانون الشامل بعيدًا عن مسمّيات المكوّنات الطائفية التي أحرقت الأرض وأهلكت الحرث نتيجة تقاسم المغانم وإصرار الزعامات السياسية وأدواتها بمواصلة ذات النهج المحاصصي المقيت في تدمير البلاد ونهب ثرواتها ومنع تقدمها وتطورها أسوة بباقي الأمم والدول.
لا فُضَّ فوك سيدي البطريرك ساكو! بل سلمَ فمُكَ يا ناطقًا باسم المحبة، وصية المسيح الأولى، في كلّ مكان وكلّ زمان وأنتَ تحاصرُ ساسة البلاد في آخر مداخلاتك الوطنية والإنسانية في المنبر الحكيمي يوم 5 شباط 2022 بالاستشهاد والتذكير والرجوع لأفضل عبارات الحق الصارم قبل قرون خلت من جانب إمامٍ فصيح العبارة، حصيف الرأي، محكم العقل، طالما يتبجّحُ به وفيه أتباعُه الأدعياء من دون تطبيق معاني حِكَمِه وأقواله، أو تنفيذ ولو نتفٍ من مخارج هذه الحكم والنصائح النبوية، أو تقويم أدائهم السياسيّ والحكوميّ على أرض الواقع. فقد أوصى أميرُ المؤمنين، علي بن ابي طالب مَن ولاّه مصر أن "يشعر قلبُه بالرحمة للرعية، والمحبة لهم واللطف بهم، وألّا يكون عليهم سبعا ضاريا يغتنم أكلَهم... فالناسُ صنفان إمّا أخ لك في الدين، وإما نظيرٌ لك في الخلق”. ما أجمل الكلام وأفضل الحِكَم لو جرى تطبيقها والعمل بها لكان وطنُنا أفضل حالاً وشعبُنا أكثر سعادة وشوارعُنا أنظف وثرواتُ بلادنا في الحفظ والصون وأخلاقُنا أنقى من الثلج وعلاقاتنا الأخوية تسودها المحبة والتوافق والاتفاق بالحوار الهادئ واحترام الآخر المختلف واعتماد ميزان الأهلية والجدارة في إدارة البلاد والعباد.
في مشاركته الأخيرة في ندوة عن الوئام بين الأديان في بغداد يوم 9 شباط 2022، بحضور مستشار الامن القومي السيد قاسم الاعرجي، رفع غبطة البطريرك ساكو صوتَه عاليًا أيضًا كعادته منوّها بضرورة "الخروج من النظريات والافكار الى التطبيق العملي في احترام المواطنين والمساواة بينهم بسبب وجود تهميشٍ وإقصاءٍ وظلمٍ سبّبته الطبقة السياسية الحاكمة الباحثة دومًا عن مصالح"، ومنبّهًا في الوقت نفسه لضرورة الانتباه للخطاب الديني المتشدد الذي ينبغي معالجته على أرض الواقع من خلال تغيير المناهج التعليمية و استبدالها بأخرى منفتحة، ما يتطلب الذهابَ لسنّ قوانين جديدة تضمن حقوق الجميع". أليس في هذا التوجه الوطني إماراتٌ واعية وواضحة لزعامة وطنية ودينية تستحق التقدير وأن تُرفع لها قبّعة الاحترام وتولّى جانبًا من زمام القيادة والإدارة الوطنية، أقلّها تقديرًا في قبول توجيهاته السديدة والركون إليه في استشارات صائبة لخدمة الوطن وأهله جميعًا من دون تمييز أو تفرقة في الدين والمذهب والإتنية؟ سؤالٌ جديرٌ بالتقدير والقبول والاحترام ولا يقبل الرفض والنبذ والاستهانة.
هذه دعوة أخرى من مواطن عراقي صادق لزعامات دينية من مختلف الأديان والمذاهب تتمثل وتتجلى فيها الحكمة والرؤية السديدة والانفتاح والأصالة والحداثة معًا، للعمل على نشر الثقافة الوطنية والمجتمعية وبثّ روح الوعي الديني وتيسير الخطاب الوسطيّ المقبول عبر مبادرات حقيقية على أرض الواقع تدعو لاحترام خيارات الآخر والإقرار بحقوقه وعدم التجاوز على شكلِ ونوع هذه الخيارات ضمن حدود القوانين المرعية ودستور البلاد حامي حقوق الجميع بالعدل والمساواة والجدارة في الاستعداد للعمل والخدمة والوفاء بالالتزامات. حينها فقط، سيكون الوطن بخير وأهلُه في غاية السعادة متمتعًا بقدرٍ يسيرٍ من الأمن والاستقرار والرفاهة حالُه حال باقي شعوب الأرض عندما يصبح صاحبَ السيادة على أرضه ومياهه وثرواته وقراره الوطني.