المحرر موضوع: بين الاحتلال وإسقاط النظام: تزييف الذاكرة في العراق  (زيارة 627 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Janan Kawaja

  • اداري
  • عضو مميز متقدم
  • ***
  • مشاركة: 31468
    • مشاهدة الملف الشخصي
بين الاحتلال وإسقاط النظام: تزييف الذاكرة في العراق

عقيل عباس
كاتب وأكاديمي عراقي

في السنوات الأخيرة، بدأ يبرز في العراق على نحو متزايد استخدام مصطلح الاحتلال الأميركي في وصف الإطاحة العسكرية الأميركية بنظام صدام في 2003.

باستثناء قوى سياسية قليلة اتخذت مبكراً موقفاً معارضاً للاجتياح العسكري الاميركي ونعتته، على نحو منسجم مع افكارها، بأنه احتلال عسكري وحتى رفعت السلاح ضده كالتيار الصدري، اعتادت الأغلبية الساحقة من العراقيين وصفَ الحدث بـ"السقوط،" أي سقوط نظام صدام، في تأكيد منها على أن ما يعنيها هو نتيجة الفعل وليس هوية الفاعل. عبَرَّ هذا التوصيف، "السقوط،" بدقة عن المزاج الشعبي، ومعظم السياسي، العراقي حينها. كانت خلاصة هذا المزاج، بعد 24 عاماً مرهقة من حروب صدام وقمعه وإفقاره العراقيين "لا يهم كيف ينتهي نظام صدام حسين، المهم انه ينتهي، سواء قامت بهذا الشياطين او الملائكة." حمل َ هذا الوصف تعبيراً دقيقاً ايضاً عن الكيفية التي نظر فيها العراقيون عموماً للحدث: نهاية طاغية أكثر منه قدوم محتل.

بعد ستة أسابيع من "السقوط" مرّرَ مجلسُ الأمن الدولي، بدفع أميركي-بريطاني، قراراً دولياً يعتبر الولايات المتحدة سلطة احتلال، منحها بموجبه الصلاحيات التنفيذية والتشريعية التي تتمتع بها الحكومات الوطنية عادةً من أجل إدارة البلاد لفترة مؤقتة، وفَرضَ عليها التزامات خضعت لرقابة أممية. الأهم في هذه الالتزامات هي نقل السلطة الى العراقيين عبر عملية سياسية تقود الى حكومة منتخبة في إطار نظام ديموقراطي. احتاجت اميركا هذا القرار كي تمنح وجودها في العراق شرعية سياسية وقانونية، لأن "الاحتلال العسكري" في القانون الدولي صفة قانونية لها طابع تنظيمي وتحمي حقوق السكان المحليين، وتعتبر الوجود الأجنبي مؤقتاً وتشترط انهائه. هناك الكثير من الوثائق والقوانين الدولية، تراكمت على مدى أكثر من قرن، تُنظم العلاقة بين قوة احتلال والواقعين تحت سيطرة هذه القوة. من هنا، كانت الأوامر والقرارات التي أصدرتها سلطة الائتلاف المؤقتة التي نص عليها القرار الدولي، وتزعمها الدبلوماسي الأميركي بول بريمر، مُلزمة ولها حكم القانون، وما تزال جزءاً من المنظومة القانونية العراقية إلى اليوم (الا في حالة قيام البرلمان العراقي بتعديلها أو الغائها).

عراقياً، فُهم هذا القرار على نحو مناقض تماماً للفهم الدولي والأميركي، فالاحتلال في الثقافتين العراقية والعربية كلمة سيئة تماماً ترتبط باعتداء قوة أجنبية على البلاد وسكانها وتعاملها معهم على نحو ظالم فضلاً عن سرقتها مواردهم. في هذا السياق العراقي، كان إعلان أميركا نفسها قوة محتلة اقراراً ضمنياً منها أنها قامت بشيء سيء وغير أخلاقي نحو العراق والعراقيين، حتى وان لم يغير هذا الاعلان فعلياً تعاطي العراقيين مع الولايات المتحدة ولا قواتها في العراق، باستثناء مجاميع سياسية محدودة، كالمؤتمر الوطني العراقي بزعامة السياسي المعروف، ومهندس الإطاحة بنظام صدام، احمد الجلبي الذي كان يصر على تشكيل حكومة عراقية تقود البلاد (في إطار افتراضه حينها أنه سيكون رئيس هذه الحكومة عبر تأثير حلفائه الأقوياء في واشنطن). عارض الجلبي بقوة هذا القرار الدولي وصوره على أنه فعل استبدادي ذو طابع استعماري.

جزء اساسي من الاختلاف هنا ثقافي، فكلمة "الاحتلال" في الإنجليزية (occupation) وصفية عموماً ولا تحمل الدلالة السلبية التي لها في العربية، إذ أنها تشير إلى واقع الوجود في مكان ما، على نحو مؤقت عادةً، وليسَ ايذاءَ أهله أو التغول عليهم. لحد الان مثلاً، تصف الكتب والمنشورات الاميركية وجود القوات الأميركية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في ألمانيا واليابان على أنه احتلال عسكري، كما كانت تفعل في وصفها وجود نفس هذه القوات في العراق. في الثقافة العراقية الاحتلال يساوي الاستعمار الذي يعني احتلالاً دائماً للمكان واستغلال موارده وتهميش أهله، فيما في الثقافة الغربية عموماً، الاستعمار، وليس الاحتلال، شيء سيء وغير أخلاقي. ضاعت فروق الفهم والثقافة الهامة هذه في زحمة الأحداث العراقية وصعوباتها المتزايدة.

استمر الاحتلال العسكري الأميركي للعراق نحو 14 شهراً، إذ إنتهى رسمياً في نهاية حزيران 2004، عندما سلم بريمر السلطة السياسية لرئيس الحكومة المؤقتة حينها اياد علاوي، فيما عُرف حينها بنقل السيادة، مع بقاء القوات الاميركية في ظل اتفاقية لها مع الدولة العراقية. بقي التأثير الأميركي على إدارة السياسة في العراق كبيراً، حتى مع نقل السيادة، لكنه أخذ يتراجع تدريجياً الى أن انتهى تقريباً تماماً بانسحاب كامل هذه القوات في نهاية عام 2011 لتعلن الحكومة العراقية برئاسة نوري المالكي يوم 31 ديسمبر من ذلك العام "عيد السيادة" بعد مغادرة آخر جندي أميركي البلاد. لكن السيادة المحتفى بها لم تتحول الى وقائع حقيقية على الأرض يشعرها العراقيون، فبعد الانسحاب العسكري الاميركي قاد سوء إدارة السياسة، بحدة الصراعات الناتجة عن هذا السوء، والتغاضي عن الفساد احياناً، والمشاركة فيه أحياناً أخرى، إلى تدهور الأمن مرة أخرى وصولاً إلى سقوط الموصل وبروز داعش التي سيطرت على ثلث البلد تقريباً. احتاج العراق حينها أن يستدعي القوات الاميركية كي تساعده في هزيمة التنظيم الإرهابي في حرب طويلة وقاسية شارك فيها عراقيون كثيرون بشجاعة لافتة إلى أن استعاد العراق سيطرته على كامل البلاد.

في إطار المجيء الثاني للقوات الأميركية إلى العراق، في 2014 وبقائها بأعداد قليلة حتى الآن، برز مرة أخرى خطاب الاحتلال من خلال قوى إيديولوجية مرتبطة بإيران، عبر "محور المقاومة" الذي يصر، خلافاً للمنطق والقانون والمصلحة والبديهة، على اعتبار هذا المجيء والبقاء احتلالياً، رغم إنه تم بدعوة رسمية قدمتها الحكومة العراقية مرتين. لم يُقنع "محور المقاومة" المجتمع أن أميركا قوة محتلة. لكن هذا المحور نجح في شيء آخر: ترسيخ فكرة ان العراق كدولة، بمصائبه وفشله وتفشي الفساد فيه، هو ضحية "الاحتلال الاميركي" في 2003. ساعدت في هذا الترسيخ قوى أخرى، معظمها من الإسلام السياسي الشيعي، المسؤول الأول عن الخراب في البلد، وذلك في إطار تنصل عام للطبقة الحاكمة العراقية عن الفشل الهائل الذي يعاني منه البلد. استدعاء "الاحتلال الأميركي" مفيد هنا، لأنه يسمح لصنّاع الفشل والمستفيدين منه بأن يلوموا هذا الفشل على أميركا ويتلبسوا دور الضحية المعتاد والسهل.

لا شك أن أميركا في عام سيطرتها التامة على العراق ارتكبت اخطاءً جسيمة مثل حل الجيش العراقي وقبولها الأحمق بفهم البلد مكوناتياً على أنه تقاسم جماعات كبرى شيعية وكردية وسنية، لكن هذه الأخطاء قامت على أفكار تبنتها قوى سياسية شيعية وكردية في إطار تحالفها الحزبي حينها وضغطها المتواصل على الولايات المتحدة لتحويل هذه الأفكار إلى واقع. انساقت أميركا بقصر نظر لافت مع هذه الأفكار. لكن يبقى خطأ أميركا الأكبر في العراق هو أنها عبدت الدرب أمام هذه القوى للوصول إلى الحكم.

إذا كان لا بد من فهم مشكلة العراق في إطار ثنائية الضحية والجلاد، فان العراق ضحية أحزابه الحاكمة، وعلى الأخص الاسلامية الشيعية منها، وليس "الاحتلال الأميركي." يَسّرَ هذا الأخير، دون قصد، لهذه الأحزاب مهمة الوصول إلى الحكم لتختطف البلدَ وتأخذه على درب الآلام الطويل عبر خداعها المجتمع وتخديره بالشعارات المكوناتية كي ينتخبها ويتغاضى عن فشلها، فيما تؤمّن هي استمرارها في السلطة، وضمانها امتيازات الحاكمين القائمة على بؤس المحكومين.