المحرر موضوع: الكلمة القيّمة المعمقة التي قرأها سيادة المطران مار باسيليوس جرجس القس موسى  (زيارة 560 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل هيثم بردى

  • عضو فعال
  • **
  • مشاركة: 71
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
الكلمة القيّمة المعمقة التي قرأها سيادة المطران مار باسيليوس جرجس القس موسى الجزيل الاحترام، في احتفائية توقيع رواية هيثم بهنام بردى الموسومة [ مار كوركيس ] الصادرة مؤخراً عن دار النشر Take off design والتي أقيمت على قاعة الأب عمانوئيل خوشابا/ كنيسة مريم العذراء حافظة الزروع في مدينة مالبورن بأستراليا مساء يوم الأربعاء 23/ 3/ 2022.
***
أيها الحفل الكريم. أيها الأصدقاء. مساء الخير

كاتب القصة القصيرة جداً يتحدى نفسه ويكتب رواية طويلة ويكسب الرهان إذ برهن عن باعه في عَقد الحبكة، وتأزيم العقدة السردية، والإبقاء على التوتر لدى القارئ مُعلّقاً.. حتى النهاية.. إذ تتفرقع الأصنام شظايا عند أقدام فارس وضع كل قوّته وصلابته وأمانته في إيمانه بالحيّ الدائم: "فاستحالت التماثيل الى مجرد أحجار متشظية تتدحرج في البلاط أمام الملك والحضور" (ص 218). ويوقع القاص هيثم بهنان جرجيس بُردى رائعته يوم الخميس عصراً  18/10/2018.   
1.   مفردات لا نستطيع القول بأنها سقطت سهوا في سلّته الإنشائية، بل قد بحث عنها بحثَ المنقّب في طيّات أرض تضمّ قواميس عوالم منسية: وكأنه يتقصّد أن يشير إلى القارئ ألاّ يفتح الكتاب من دون معجم إلى يمينه... وإلاّ فاتته دقّة التعابير، وبالتالي حرمته تذوّق إطعام اللغة العربية الثرّى. فالقاص هيثم بردى يغرف من المفردات ما يقطع الأنفاس أمام قدرته على الصياغة الجديدة وتزويق المعاني بمفردات لم تسمع بها أذن ولم ترها عين فيستلّ منها ما تخبئه سِلالُه الحُبلى أبدا بجُدُدِ وعتائق.
2.   لقد عرف أن يوظف كلماته ليس للسرد وتنميق الكلام وحسب، بل لتمرير أفكار فلسفية، وفضح مبطّنات إيديولوجية أو تلفيقات دفاعية: "وخرج من المعبد بالسرعة نفسها التي اقتحم بها تاركاً كبير الكهنة وخَدَمَهُ في صمت ينافس الصمت العميق للآلهة المعلّقة المُبَحْلِقة بذهول في عالم سديمي أخرس" (ص 15).
3.   كالروائي المحترف دقيقُ الملاحظة طَرَقَ بابَ التحليل.. ولا يبخل في التمادي في مفرداته وتشبيهاته ومقارناته وتلميحاته وصوره: في مشهد مبارزته التنين الآتي ليبتلع الأميرة العذراء (ص 30 -31)، ينبري الفارس (كوركيس) في محاربته لا كحيوان شرس نهم، بل كرمز للشر والشيطان الحاقد الذي يقاوم البراءة والجمال والحب منذ إنشاء العالم: "منذ إغوائه لحواء، وتأليبه قابيل على هابيل، وحتى هزيمته المخزية أمام المخلص في الجبل، وأمام الحمل الذي فتح أبواب حصن الخطيئة الأولى لِيُدْخِلَ الإنسان في فراديس الرب. كل هذه الذكريات والوقائع تقاطرت الى ذاكرته وتعاظم شعوره بالخزي والعار والرغبة بالإنتقام" (ص 31).
4.   يقسم الكتاب الى خمسة أقسام. وفي بداية كل قسم اعتباراً من القسم الثاني يتعمد القاص وضع تواريخ: "نحو عام 285"، ثم "نحو عام 303": إنها تواريخ مفترضة لأحداث حياة مار كوركيس واستشهاده. وغاية القاص ليست إعطاء تواريخ ثابتة، بل أن "يُمَوقِع" الأحداث ضمن الزمان والمكان حسبما ينقل التقليد. أما ما يهمه كقاص فهو "توظيف" المعطيات مع الاحتفاظ بحقه في تزويقها وشحنها بالمثيرات والحبكات والمُقَبّلات. أين بدأت قصة مار كوركيس، وأين بدأت الأسطورة؟ (وآخذ الأسطورة هنا بمعنى القصة التي اغتنت بالإضافات والتفاصيل حتى أخذت اتساعاً ملحمياً بدافع العبر التي توفرها حياة البطل وأفعاله). يجيب القاص: بدأت في كبادوكيا، وسط تركيا الحالية، مع فارس شهم روماني آمن بالمسيح واستشهد بسبب ذلك في روما في عهد الإمبراطور ديوكلتيانوس الذي شنّ على مسيحية الأجيال الأولى أكبر موجة من الاضطهاد. تفصيل: هو مفتاح الملحمة الكوركيسية: الفارس الشهم كوركيس ينقذ أميرة من براثن تنين خبيث يصرعه بحربته. فيتشح الشخص إذ ذاك صورة الفارس الصنديد المؤمن، الذي يهرع الى نصرة المظلومين ويقارع الشيطان وقوى الشر باسم يسوع. وتعبر الصورة من كبادوكيا إلى كل حوض الأبيض المتوسط شرقاً وغرباً، حتى يصبح مثال الشجاعة والأمانة للدعوة المسيحية، ونموذجا يُحتذى به: فيستحق، والحق يقال، لقب كلكامش المسيحي.
5.   وقصة مار كوركيس في الإمبراطورية الرومانية غرباً لها ما يعادلها شرقاً في مستهل
القرن الرابع عينه في الأمبراطورية الفارسية مع الأمير الفارس الشاب بهنام واخته سارة التي هي الأخرى تنجو من فتك البرص وتعود إلى الحياة باسم يسوع على يد أخيها الشاب ويستشهدان على يد أبيهما مع رفاق أربعين لثباتهم على الأمانة حتى الموت.
6.   كتاب القاص هيثم بردى الذي بين أيدينا ليس قصة مار كوركيس الشهيد، ولا سيرة حياته التاريخية، ولا حتى تاريخ ملحمة تكريمه وانتشار اسمه عبر الأماكن والعصور، بل هو رواية أدبية تضع "ظاهرة" مار كوركيس ضمن تاريخ الإيمان المسيحي، وتعكس صورة مثالية نمطية أمام الشاب المسيحي كيف يضع شهامته في الأمانة لأيمانه حتى النهاية ولخدمة المظلومين وكل مستجير. ويضع القاص هذه "الملحمة" في إنشاء زاخر بالمفردات المطرزة والمشبعة بصور وألفاظ تبعث الحياة والعنفوان في الكلمات الصماء! وفي حركة اختراق المسيحية للإمبراطورية الوثنية سلمياً وبصمت، عرف كيف يُدخل شخوصاً في هذا التيار من بين دواوين البلاط نفسه، أمثال الوالي يسطس وسقراط وغيرهما من ضباط وفرسان الامبراطورية.. وحتى الساحر الذي استنجد به كبير كهنة أبولون ليوقع بالفارس كوركيس، فانقلب سحره على الساحر وآمن هو نفسه بيسوع. ولقد أبدع القاص في وصف إباء الفارس ورباطة جأشه وتمسكه بمسيحه مع ولائه أمام الامبراطور في مشهد المواجهة الأخيرة (ص 117). كما استرسل القاص في تأخير الحسم في مشهد الاستشهاد المهيب زيادة في تأزيم العقدة والتشويق والترقب. ولم يختم الفارس كوركيس مرافعته أمام الامبراطور وكبير كهنة أبولون وتماثيل الآلهة الصماء، ولا ختم المؤلف خطابه حتى "هتف الفارس بصوت خارق: "اغربي ايتها الأبالسة" فاستحالت التماثيل الى مجرد أحجار متشظية تتدحرج في البلاط أمام الملك والحضور" (ص 218).
7.   ختاما، لقد عرف الأديب هيثم بردى حقا كيف يُحيي الأحداث: فلوّنها وطرّزها وغنّجها وأغناها ولفّها بثوب الأسطورة وأطّرها بإطار التاريخ والجغرافيا.. ليصيب الهدف الأبعد وهو تقوية الإيمان والنزاهة والثبات على مثال الفارس جاورجيوس الكبادوكي الروماني الذي اشتهر في الشرق والغرب، ليس في الكنيسة المسيحية وحسب، بل إنه من القديسين المسيحيين القلائل الذين عبروا فضاءات الأديان الأخرى ليُكرّم ويشتهر كنبي حتى في الإسلام ذاته، على القليل في العراق: وأحد الشهود الشاخصة جامع النبي جرجيس في الموصل، واسم جرجيس الذي يطلق على إخوة مسلمين دون تردد تميناً به.
8.     أيها العزيز هيثم بردى. تهانينا مثنى وثلاثاً ورباعاً، زدنا عطاء وابتسامة وشهامة يا مبدعاً.!

+ باسيليوس جرجس القس موسى