المحرر موضوع: بمناسبة عيدَي الفصح والقيامة المجيدين ما أحبَّ أقوالكم ... ولكن!!!  (زيارة 615 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل المونسـنيور بيوس قاشا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 241
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
بمناسبة عيدَي الفصح والقيامة المجيدين
ما أحبَّ أقوالكم ... ولكن!!!
بقلم/ المونسنيور د. بيوس قاشا
   يسرني في البدء أن أهنئكم من صميم الفؤاد بعيدَي الفصح والقيامة المجيدَين، طالباً من كلمة الله الحي - إذ قال "وأرسلنا كلمتنا إلى مريم" (سورة النساء؛ آية 171) إنه المسيح
الحيّ – أنْ يمنَّ على العالم وعلى شرقنا وعراقنا الجريح بالسلام والأمان. ولنعمل جاهدين من أجل بناء وطننا وخدمته لمستقبل أجيالنا. فلترافقكم صلاتي المتواضعة ... وكل عام وأنتم بألف خير.
منذ أنْ عرفتُ عِلْمَ الحياةِ وما يَعنيه في دنيا الزمن، وعرَّفَتْني الدنيا بمسيرتِها، لم أجدُ في منطقتِنا العربيةِ والشرقِ أوسطية فترةَ هدوءٍ وراحةَ بال. فالأهواءُ السياسيةُ كانت ولا زالت تقذِفُنا جميعاً من شاطئٍ إلى آخر، ولم نكن ندركُ _ وحتى اليوم _ شيئاً من هذه الأهدافِ والأهواءِ وما غايتها. بمعنى آخر أنَّ منطقَتَنا ووطنَنَا ومسيرةَ إيمانِنا مرّت ولا زالت تمرُّ في مراحِلَ صعبةٍ، وفي أغلبِ الأحيان يُصيبنا الإحباطُ وتعلو أصواتُ الهجرةِ، ولولا إيمانُنا بالمسيحِ الحيّ وشهادتُنا لتربتِنا لَمَا بَقِيَ مسيحي واحد إلا وهاجر من هذه الأرضِ الطيبةِ والتي كانت تدرُّ حياةً وخضاراً، واليوم نفطاً وكبريتاً، دولاراً وديناراً، نزوحاً وهجرةً، أحزاباً جشعةً، وخطاباً مميتاً، طائفيةً وعشائريةً، حروباً مرعبةً ومخيفةً جَعَلَتْنا ضحايا وعبيداً لمصالِحَ سياسية، ولمحاصصةٍ حزبية، للقاصي والداني، للغريبِ والقريب، للفسادِ والسرقة، وتفاقمت حتى أصبحنا تائهين في مجالِ الوجودِ والبقاءِ.

     إخوتي الأحبة...
نعم، إننا اليوم نقفُ على مفترقِ طريقٍ مخيفٍ ملؤُهُ الضياع والخوف وأمام مواقف صعبةٍ ومؤلمةٍ، فالخطرُ يداهمنا من زوايا شتّى ومن أماكنَ متعدِّدة، وأيامُنا تعلن _ شئنا أم أبينا _ خطرَ إفراغِ المسيحيين من هذا الشرق، ولم تترك مجالاً لإعلانِ حقيقةِ وجودِنا، فبقينا خائفين، مُعلنين فَشَلَنا في سكوتِنا، وتكون الخاتمةُ والرحيل.
مَن منّا لا يقول أنَّ المسيحيينَ كانوا هم الأوائل في هذه البلدانِ الشرقِ أوسطية؟ ومَن منّا لا يقول أنَّ هذه البلاد كانت مهدَ المسيحية؟ ومَن منّا لا يقول أنَّ المسيحيةَ مكوِّنٌ أصيلٌ وقد سَبَقَتِ الشعوبَ والقبائِلَ في وجودِها وفي مسيرةِ حياتها، ولكن سَئِمْنا من هذا الكلام لكثرةِ تكرارِهِ، فالواقعُ والدستورُ وما يحصلُ يقولون غير ذلك، والحقيقة لا تكمن بالأقوالِ بل بالأفعال، إذ يقولُ مار يعقوب الرسول:"الإيمانُ بغيرِ الأعمالِ يكون في حدِّ ذاتِهِ ميتاً" (يعقوب14:2)... نعم، الواقع ليس كذلك مطلقاً.
نعم، تعرَّضنا للذبحِ والطردِ والتهجير، وما إقترفه تنظيمُ الدولة "داعش" بحقِّ المسيحيين والمكوِّناتِ الأخرى ولحدِّ اليوم لهو دليلٌ أكيدٌ على ذلك، فقد كان حينَها الكثيرُ من أبناءِ العروبةِ يتفرَّجون، وآخرون يصدِّرونَ بياناتٍ ويعقدونَ مؤتمراتٍ ويلقون خُطَبَهُم، ونحن لهم كنا شاكرين، ولكن كل ذلك لم يكن إلا نقطة في محيط وعلى حديدٍ ساخنٍ فلا أَثَرَ لها بعد أيام بل بعد ساعات، وكأنَّ كلُّ شيء قد تَمَّ وأُصْلِحَ. فالحقيقةُ يجب أنْ تقال، فاليوم الكثيرُ من المسيحيين لا يستطيعون التعبيرَ بحريةٍ عن إيمانِهِم وعَيْشِهِم في مجتمعاتِهِم وهم يكافحون من أجلِ البقاءِ والوجودِ والعيشِ بسلامٍ في أراضِيهم.
نعم، إنَّ عدَدَنا يتناقصُ بمرورِ السنينِ والأيامِ والأزمنةِ، ولا أظنُّ هناك مَن يريدُ العودةَ بعد أنْ هاجرَ وتركَ وغادرَ، فمِحنَتُهم كبيرةُ الحجمِ والمأساة، فهم لم يكونوا ذلك ولكن أجبروهم بشتّى الأساليبِ على فقدانِ الثقةِ بأرضِهِم ووطنِهِم، وهم الذين سكب أبناؤُهم دماءَهم من أجلِ تربَتِهم وأرضِهِم. واليوم ما يعانوه في شرقِنا المعذَّبِ لم يكن بالحسبانِ وبالصورةِ التي نحن نحياها، فما هي إلا صورةٌ بائسةٌ لمستقبلٍ قاتمٍ ولأيامٍ مِلؤُها الغيومُ والعواصفُ، وهذا ما يجعلنا أنْ نقلقَ على مستقبَلِنا ومسيرةِ إيماننا، وكفانا أنْ نقول، وما نفعله هو عكسُ ذلك تماماً لأننا لا زلنا عرضةً للإضطهاداتِ والقتلِ والتهجيرِ شئنا أمْ أبينا، وانسلاخُ مسيحيِّينا عن أرضِ آبائِهِم وأجدادِهِم ما هو إلا كونهم ضحايا لمخططاتٍ مشبوهةٍ أرادها لنا كبارُ الدنيا والزمن وأصحابُ المعالي والقصور ليشوّهوا سلامَ مسيرَتِنا وصفاءَ إيمانِنا في حبِّنا لأرضِنا وإنجيلِنا وكنيستِنا، لأنَّ المسيحي قوَّتُه في أرضِهِ وفي مسيحِهِ الحيّ وإنجيلِهِ.
نعم، هناك صوتٌ يهدُرُ دائماً دون إنقطاعٍ وبشجاعةٍ مِلْؤُها المحبةُ والغفرانُ والتسامح، إنه صوتُ كبير الفاتيكان، بابا روما، البابا فرنسيس، حيث قال:"هناك خطرٌ أنْ يُلغَى الحضورُ المسيحي من تلك الأرضِ التي منها إنتشرَ في العالمِ نورُ الإنجيل. إنها الحقيقةُ في الصميم، فما يحصل يقودنا إلى أنْ نسألَ: هل هو تهميشٌ مُتَعَمَّدٌ لإنسانِنا المسيحي في العراق؟ هل هو تدميرٌ لتاريخِنا الحضاري الموغَل في القِدَم والسنينِ والأزمنة؟ هل هو محوٌ لديانةٍ من أقدمِ الدياناتِ التي نادت بالتوحيد؟ هل نحن في زمنٍ يُخْبِئ ُتحت عباءَتِهِ طائفيَّتَه وفسادَهُ، فيقيمُ صراعاتٍ دمويةٍ وعشائريةٍ وحتى إيمانيةٍ لتحقيقِ مآربهِ وإعلانِها؟... إنها ظُلُماتُ العنفِ أليس كذلك!؟.
نعم، وإنْ كان قد تضاءلَ عَدَدُنا فهذا لا يعني ضياعنا ورحيلنا، بل على الإسلامِ أولاً حمايةَ البقيةِ الباقيةِ من أجلِ ضمانِ بقائِهِم وحقوقِهِم. فالعديدُ من الذين رَحَلُوا يتردّدونَ في العودةِ إلى موطنِهِم الأمّ، ولا يفكّرون إلا بالبقاءِ في الغربةِ لأسبابٍ عديدةٍ منها الوضع الأمنيّ الذي يعيشه شرقُنا المعذَّب. وهناك، أي في الغربةِ، يجدونَ ضالَّتَهم حيث كل إنسانٍ له قيمته وحقوقه، له كرامته وإنسانيته في حريةِ إيمانِهِ وممارستِهِ لعقيدتِهِ دون خوفٍ وعلانيةٍ، فلا يحكمه إلا قانونُ الوطن والدولة الذي يحميه من جميعِ التعرضاتِ والمعاكساتِ، بل أكثر من ذلك "إنه خُلق على مثالِ خالِقِهِ" (تكوين27:1)، ويقول الكتابُ:"إنَّ اللهَ رأى كلَّ شيءٍ حَسَنٌ" (تكوين31:1). فنحن لسنا بحاجةٍ إلى عودةِ داعشٍ بِنسخٍ أخرى أو بصراعٍ طائفي، فقد أكَلَتْنا نارُ الحروبِ والصراعات، وأخاف أنْ يؤولَ البلادُ إلى الغرباءِ عاجلاً أم آجلاً.

     الختام 
شكراً... كفانا وعوداً، نحن بحاجةٍ إلى تثبيتِ وجودِنا. أعملوا، ولا تقولوا بعدُ "لا ترحلوا"، بل قولوا "هذا وطنُكُم. سنكتبُ دستورَنا معاً. أَعْلِنُوا فيه وجودَنا ووجودَكُم". واعملوا معنا كي نحميَ تراثَ آبائِنا وأجدادِنا. لا تجعلوا مسيحيَّتَنا تمزِّقها الحروبُ التي لا ناقةَ لنا فيها ولا جمل، فَنَتِيْهُ في المجهولِ مثل نزوحِنا في زمنِ داعشِ الإرهاب. ولم نعد نحتَمِلَ ما حصلَ وما حلَّ بنا، وهذه حقيقتُنا.
والحقيقة أنَّ المسيحَ حي، ولأن المسيح قد قام أرجو أنْ تملأوا قلوبَنا الأملَ والرجاء، واعملوا من أجلِنا، واشهدوا لأصالتِنا وليس لهجرتِنا. ولا تخافوا أنْ تقولوا الحقَّ فالمسيح الحي يقول:"قولوا الحقّ،َ والحقُّ يحرركم" (يوحنا32:8)، وجبران خليل جبران يقول:"يا ربّ، ساعدني أنْ أقولَ كلمةَ الحقِّ في وجهِ الأقوياء، وألا أقولَ الباطِلَ كي أكسَبَ تصفيقَ الضعفاء"، والمهاتما غاندي يقول أيضاً:"حتى وإنْ كنتم أقليّة، تبقى الحقيقةُ حقيقةً"، والقرآن الكريم يقول:"وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهَ" (سورة البقرة؛ آية282).
فمبروك لكم عيدَي القيامة والفصح المجيدين. قوموا وأعلنوا حقيقةَ أقوالكم – نعم، المسيح حي، حقاً حي - ومسيرة حياتِكم وإيمانكم وحبَّكم للوطن وللجميع، فما أحبَّ أقوالكم، فنحن وأنتم أبناء حضارة الرافدين العريقة وبلاد ما بين النهرين الحبيبة والأصيلة.