المحرر موضوع: النصف اﻵخر من الحكاية (إستكمالا لما سَبَقَ نَشْرَهُ)  (زيارة 585 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حاتم جعفر

  • عضو فعال
  • **
  • مشاركة: 61
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
النصف اﻵخر من الحكاية
(إستكمالا لما سَبَقَ نَشْرَهُ)

 أحاديث رواد الحانة وفي أغلب اﻷحيان ورغم ما عُرِفَ عنهم وما ألصِقَ بهم من تُهَمٍ وإدعاءات،  تُعَدٌ أكثر جدية وإنضباطا وكذلك هدوءا، قياسا الى ما كان يتداوله رواد الجانب الآخر من القبو والذي أسميناه بالمقهى، فَمَنْ يصغي الى ندماء الحانة سيظنهم من أولي الأمر وأصحاب القرار، وقد تأخذ بك أحاديثهم الى أبعد من ذلك بكثير، فلا تمرٌ امسية من أماسيهم على سبيل المثال الاّ وقد شُغِلَت بأهم المنعطفات التي تَمرُ بها الساحة السياسية الدولية، ولا يجري تناول أي شخصية سواء أكانت ثقافية أو فكرية أو فنية الاّ وقد أشبِعت بأصدق ما يمكن من قول ولتأخذ نصيبها، إن كان لها أو عليها.
 ولعل من أهم الشخصيات التي عادة ما يتوقف عندها رواد الحانة طويلا وبإجلال هو الزعيم الهندي المهاتما غاندي،  فهو مدار أحاديثهم وحاضراً بقوة، وتكاد لا تخلو أية أمسية من إستحضاره والإشادة بمواقفه، فوقتذاك كان قد اكتسب تأييداً شعبياً واسعا وتعاطفاً دولياً، منقطع النظير، أجبرَ في حينها دولة الإحتلال البريطاني وراعية منظمة الكومنولث على التعامل معه والإصغاء لمطالبه بجدية وإحترام، ليس بإعتباره زعيماً وطنيا فحسب، وإنما ممثلا لشعبه وناطقا بإسمه، لا ينافسه على مكانته تلك أحد، حتى نجح في إنتزاع كامل حقوق بلاده وعلى رأسها وفي مقدمتها الإستقلال الناجز.
ورب ضارة نافعة ففي إحدى الليالي وبعد أن طال السهر، بدأت تُسمع بعض الأصوات من داخل القبو ومن جهته اليمنى على أكثر الظن، مما أدّى بسكان تلك المنطقة الى تقديم شكوى عاجلة ولمن يهمه الأمر. وكإجراء سريع، تمَّ مداهمة المكان لإستقصاء ما يجري بداخله. الدورية المكلفة بذلك، وبناءاً على الأوامر الصادرة لها، إتجهت مباشرة وبهدف الإستطلاع والتحري صوب المقهى، سانحة الوقت ودونما قصد وربما بقصد وتواطئ من قائد الدورية المكلفة لرواد الحانة، على القيام بما يلزم وفاتحة في المجال لإستدراك أوضاعهم وبأسرع ما يمكن، وبشكل لا يلفت الأنظار أوالإنتباه لما كانوا فاعلين.
 وبعد أن أكملت مهمتها، ستخرج الدورية المكلفة بنتيجة مفادها: أن ليس هناك ما يخالف الأعراف والقوانين. في ذات الوقت قدَّمت إعتذارها لصاحب المكان عمّا سببته من إزعاج، حاثة اياه على تقديم طلب إجازة رسمية، تتيح له ممارسة مهنته وبشكل علني ووفقا للقوانين المعمول بها، أسوة بالأماكن الأخرى المشابهة لها، لتنتهي المهمة على هذا النحو. بعبارة أخرى فالإشارة سيكون مؤداها: الى إن بإمكان رواد القبو وبقسميه، الإستمرار على ما هم عليه، ريثما يتم إستكمال الإجراءات القانونية وإستحصال الموافقة.
                         ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبالعودة الى عمّي، فقد دخل تلك البلاد منذ وقت بعيد وعاش فيها ردحاً من الزمن، ونجح في نسج علاقات إجتماعية متطورة، باتت موضع حسد من قبل كل مَن لا يروق له ذلك. تشكلت تلك العلائق وتعززت أواصرها مع طول سنين غربته، فرأى ما رأى، تعثَّرَ هنا وقام هناك، توفق في بعضها وأخفق في أخرى، غير إن عزيمته وحتى اللحظة لم تهن ولم تلن، هي لعبة الغربة والإمتحان العسيران إذن، خبَّرهما وعرفهما جيدا، ففيهما ما له وما عليه أيضا.
الاّ أن طول فترة التغرّب وإبتعاده عن وطنه ومع تقدمه في السن وإعتلال صحته، أخذت منه مأخذا وباتت تتزايد متاعبه يوما بعد يوم. وسيزداد اﻷمر صعوبة مع إشتداد حمّى الحنين الى وطنه، لكن ما حيلته، فبلاده البعيدة لا زالت أرضها قلقة، رخوة، وأصحاب القرار والسطوة والسلطة لا زالوا في غيّهم، تتقاذفهم اﻷهواء والولاءات العابرة للحدود وأعياهم الحكم. لذا وكلما خطر على باله العودة الى النبع واﻷصل، ستتقاذفه من جديد تلك النوازع واﻷسئلة المقلقة، فهي اﻷخرى تبحث عمَّن يجيب عليها. إذن متى يحزم أمره ويسلك طريق العودة والإلتحاق بأهله بشكل نهائي! لا أحد يعرف، لكن الثابت هو أنَّ صاحب الشأن سيرجأه مرة تلو أخرى حتى تحين لحظته، آملا أن لا يطول قرار عودته وقد يطول.
أمّا عن يوميات شقيق أبي وكيف كان يقضيها فلا بأس من التحدث عن جوانب منها وبعبارة واحدة: تفاعله مع الأوساط التي مرَّ بها وتعايش مع قسم منها، كانت تجد لها وفي أكثر اﻷحيان قبولا ورضا، ومن قِبل مَنْ أصبحوا فيما بعد أصدقاءا مقربين له. أمّا عن ليالي اﻷنس فلا تحلو الاّ بإكتمال العقد. في أحيانٍ أخرى وعلى ندرتها، كان يجابه بردود أفعال سلبية، تجد  تعبيراتها في سلوكيات وتصرفات نفر منهم، غير انها لم تَرْقَ ولم تصل الى ما يُنغصٌ عليه أوقات راحته.صحيح كان يحس بها غير انه إختار أن يغض الطرف ما استطاع عن بعضها، لذا تألفه مستعينا بطيب سريرته وحسن نيته والتي سيفترضها باﻵخرين أيضا، متيقنا من انه في ذلك يدفع ضريبة تغرّبه التي طال أمدها.
وإذا ما أردنا الإقتراب أكثر والتحدث عمّا كان يجري له، فلنستذكر سوية واحدة من تلك اﻷماسي ونقول عنها: بدأ شقيق أبي يشمُّ رائحة تُنبئ بوقوع أمرٍ ما، وسوف لن تأتيه بما يُسرٌ ويهنأ، مؤشراتها بدت واضحة، مصدرها سلوك أحدهم وما يفلت من فِيهِ من عفن الكلام. على إثرها حاول عمّي في بادئ الأمر أن يجد له مخرجاً وعذرا، عازيا تصرفه الى كونه حديث عهد على جلساتهم وعلى أجواء المنادمة وتبادل أنخاب الطلا، لذا تجده وجريا على عادته وفي مثل تلك الليالي وما يخترقها من مصادفات نحسة، بذل ما يستطيع من أجل تطييب النفوس والخواطر والإنتقال بالجلسة الى ما يريحها، لذا راح ينوع في شكل حضوره ومساهماته، حاثاً أصدقاءه على مشاركته، فتجده وقد شرع في قراءة ما يحلو من أشعار وبلغات تلك الشعوب التي إختلط بها وعاش معها ردحا من الزمن، مبتدئا بحافظ الشيرازي ومنتهياً بالجواهري، مروراً بغيرهما من فحول الشعر وأعلامه، متوقفا طويلا عند ناظم حكمت وأكثر منها عند عمر الخيام ورباعياته، فهي ضالته وملاذه اﻷخيرحين تضيق به النفس.
وحين لم يلقَ من الإستجابة ما يرتقي الى ليالي الخمر تلك وما يشجعه على الإستمرار والتواصل، سيتخذ شكلا آخر من الحضور، ساعيا الى خلق جو أكثر  بهجة وفرحا، كإن يغني الدشت على النغمين الفارسي والتركي، قدر ما يستطيع ويحفظ، مختتماً برائعة الشاعر أحمد رامي، مقتربا الى حدٍ ما من صوت موسيقار اﻷجيال محمد عبدالوهاب، ايها الراقدون تحت التراب...جئت أبكي على هوى الأحباب، الى آخر اﻷغنية.
هنا ستثار شجوني وأسئلتي، أنا إبن أخيه التواق الى لقاءه، إذ رحتُ متسائلاً في سرّي: من أين له هذه المقدرة على حفظ أشعار، سادة القافية وبتنوع لغاتها؟ كيف تعلم عمّي كل هذه الأطوار من المقامات ومن أين أتى بها ومتى؟ هل كان يستمع الى الغناء العربي، من جهاز خاص كان قد إقتناه في غربته؟ أم كان يستمع الى  الإذاعات العربية وعلى ندرتها؟ أم ان لديه وسائل اخرى من التواصل، تعينه على ما يريد ويطيّب بها خاطره؟ وعلى ما يبدو فقد تأكد لي بأنه كان على تواصل مع هموم ومشاكل وإهتمامات شعوب تلك المنطقة.
المهم وبينما كان يشدو بصوته العذب تلك الأغنية الرائعة لعبدالوهاب، تحركت مشاعر أحدهم ممن له كثير إطلاع على اللغة العربية والذي يُعَدُّ من أقرب مقربي عمّي ويحضر أكثر جلساته. فعلى نحو غير متوقع، تجده وقد راح يتمايل بتمايل اللحن وتصاعد وتيرة الشجن، متهدجاً أحياناً ومُطرقاً أحياناً اخرى، ربما لتذكره عزيزا كان قد رحل الى أبديته منذ وقت ليس ببعيد، أو لطيب وجمال المقام الذي أدّاه عمّي. هذه الإستجابة البريئة والصادقة من الحاضرين، لم تَرٌقْ كما سيتضح لذلك الشخص الذي نغَّصَ عليهم سهرتهم. فمن غير مقدمات، أقدم وبشكل مفاجئ وغير متوقع على شن هجوم عنيف على عمّي وعلى الشخص اﻵخر الذي كان متفاعلا ومتناغما مع أجواء السهرة.
جلاّس تلك الليلة سعوا صادقين من أجل تهدئة الأجواء وترطيبها. عمّي من جهته وبإعتباره طرفا معنيا وبشكل مباشر بما حصل، تجده وقد استجاب سريعاً لتلك الدعوات المهدئة، وذلك نزولاً عند رغباتهم، معزياً ما حدث من متاعب الى ما يفعله الخمر، منطلقا في ذلك من خبرته الواسعة، والتي مرَّ من خلالها بتجارب كثيرة، فمثل هؤلاء، ستجد العديد من نظرائهم، موزعين على مختلف البلدان والحانات. وما دام الحال كذلك فلا بأس من طول الأناة والتحمّل. وهذا ما مال اليه عمّي من حلٍٍّ، وصولا الى تسوية، تتسامى فيها الروح وتسعد.
بعد مضي قرابة الربع ساعة وما كاد الوضع  يعود الى طبيعته ويستقر نسبياً، حتى عاد من جديد ذلك الشخص الى محاولاته الهادفة الى تعكير الأجواء والى إستفزاز عمّي وهذه المرة بشكل مباشر ومن خلال  إتّباعه لبعض الأساليب، والتي تُعَد أكثر وقاحة وصلفاً من سابقاتها، إذ راح وبطريقة متعمدة ومفتعلة، برفع وتيرة صوته حتى حوله الى صراخٍ، لم يستفز به من كان يجالسنا فحسب بل طال كل رواد القبو، بقسميه الحانة والمقهى، ضارباً بذلك عرض الحائط كل تقاليدها وحرصها الدائم على راحة رواده. الأنكى من ذلك هو اصراره على محاولاته تلك وبشكل مفتعل ودون توقف أو إستجابة للدعوات الصادرة من هذا وذاك،  هادفاً على ما يبدو الى إفساد اﻷمسية وبأي شكل من اﻷشكال.
وعن ما صاحب تلك الليلة من متاعب وكيف جرى التعامل معها وأسلوب معالجتها والى ما انتهت، فلم يصلني عنها من المعلومات ما يكفي، غير أن الذي عرفته فيما بعد ومن جهات أخرى، أن أقدم شقيق أبي على الإنسحاب من اﻷمسية، تاركا خلفه كل تداعياتها. في هذه اﻷثناء وعند خروجه من الحانة، إلتحق به أقرب أصدقائه وأعزَّهم، وليسرَّ له اﻷسباب الحقيقية التي وقفت وراء تصرفات ذاك الشخص اﻷحمقة، ليقول له: في اللحظة التي أتيت بها على ذكر أحد رجالات دولتكم وعلى ما أتذكر فإن إسمه جعفر العسكري، هنا ثارت ثائرته. وعلى ما أظن فقد أراد أن يوصل رسالة تؤشر الى أن ليس هناك من رجال خارج حدود بلاده.
  على أثر ما جرى لعمّي في تلك الليلة، فقد قرر أن ينحى منحا آخر وربما سيشكل إنعطافا حقيقيا في مسيرة حياته، وقد تحدث إنقلابا فيما يحمل من مفاهيم ومعتقدات وأفكار. أمّا أنا، كاتب هذه السطور، فسأرجىء الخوض فيها، بإنتظار إكتمال الرواية والتي ستحمل الكثير من التفاصيل.

حاتم جعفر
السويد ـــ مالمو