المحرر موضوع: مشيئتك يا رب ... لا مشيئة إنسان  (زيارة 425 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل المونسـنيور بيوس قاشا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 239
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
مشيئتك يا رب ... لا مشيئة إنسان
بقلم/ المونسنيور د. بيوس قاشا
في ظل الحياة المؤلمة وفي ظل إفراغ القلوب من محبة الله ينتاب الإنسان مرضاً وحزناً وتتفاقم عليه الضيقات والمصاعب وينسى أنه خُلق على صورة الله كمثاله ليشهد لحقيقة الحياة ولا ييأس من مسيرة الشر في هذه الدنيا مهما كانوا أصحابها والمنادين بها، فالشر سلاح ضد الإنسان ليبعده عن طريق الصواب الذي
يسلكه. ولكي يكون الإنسان أميناً للسماء ووفياً لإلهها عليه أن يشهد للحق مهما احتمل من الآلام وإنْ كان الآخرون لا يستأنسون ذلك، فالحياة ليست مصالح زائلة وأنانيات محسوبة بل فداء وعطاء ومحبة كما شهد ربنا على الصليب، فهل سنحمل الصليب بدل سمعان القيرواني رغم ألم الحياة أم ماذا. فما أجملها مسيرة الحياة، وما أغناها حياة الحقيقة، إنها سِمة المحبة والخير والبركة، سِمة التواضع والوداعة، وتلك شهادةٌ لحياة الألم التي نقاسي مسارها في هذه الحياة، ومحطاتها ورسالتها وانبعاثها، وإنْ كانت مؤلمة ومكلَّلة بشوك الزمن، وهذا ما دعاني أن أقف لأعاين وجودي وهمومي وآهاتي ومآسي الزمن، وكبرياء الكائن الذي طُرد من فردوس العلي بسبب مصالح الزمن وفساد الحياة... فإليكم ما أدركتُه وما تعلَّمتُه... إنها آهات لمسيرة الحياة، ولتكن مشيئتك يا رب لا مشيئة إنسان.
    شاءت إرادة السماء أنْ حلّ ما حلّ فينا، وتلك إرادته سبحانه وتعالى. كما شاءت الدنيا أنْ تسيّرنا حسب هواها وأهدافها، ولكن علينا أن نمتلئ من نِعَم السماء، فتتلاحم أيادينا وتتعزز إرادتنا، فثقل الحياة ليس بإمكاننا حمله إلا إنْ كنا أوفياء لتربتنا ولأجيالنا وأحفادنا، ونطلب عون الله، وإنْ كان الإرهاب قد منح حياة لا يملكها، وتوصل الدنيا إلينا رسالة الدمار والتهميش والتهجير فيكتب لنا الزمن تاريخاً مزيَّفاً بالتهنئة وكباره... فتلك مصيبة المصائب وحقيقة النوائب.
    ألا يكفي زمن الحروب المميتة والطائفية المقيتة والعشائرية الهزيلة والقومية القبلية كي ننادي بالمواطنة الصالحة والعمل المشترك، وأنْ نضع الحقيقة والشهادة من أجلها وفي مكانها من أجل الوطن كي لا يبقى محتَلاًّ، فتُسلَب إرادته وإرادتنا، ويبقى مشتَّتاً بأبنائه وانتماءاتهم. والله بكل شيء عليم. فالكفاءة نعمة من رب السماء، والذكاء رسالة يحمل فيها الإنسان نِعَمها، ولكن أنْ تُدفَن الكفاءة والذكاء بحديث أشخاص فاسدين وحاقدين فذلك تشويه للسماء ولنِعَمِها. إنها حرب شعواء بين الشياطين السود والملائكة البيض، فضاعت المسؤولية وتاهت القوانين، وفي ذلك يقول أفلاطون:"الشخص الصالح لا يحتاج القوانين لتُخبره كيف يتصرف بمسؤولية، أما الشخص الفاسد فسيجد دائماً طريقة ما للإلتفاف على القوانين". نعم، هؤلاء يكتبون السماء بأسمائهم فهي مُلْكٌ لهم، هكذا أرادت آلهتهم وهذا الذي يجب أن يكون، ولكن لنعلم أن الحقيقة لا تكمن في القول والتهم بل الحقيقة تحمل شهادة الحياة، وفي ذلك يدركون جيداً مَن هم السرّاق، وكيف يلتفّون على الحقيقة لغاية في قلوبهم.
    إنه زمن فيه نبيع حقيقتنا كي نربح أيامنا وأمكنتنا وأزلامنا، فنرسم لنا ملامح مستقبل ونهاية لمعارضينا، ونميت الكفوئين كي لا نبقى نحن في خانة المدراء الفاسدين، فنُبعد عنا كل حقيقةِ وطنٍ وإخلاصِ شعبٍ. فهل سمعتم بوطن يبيع شعبه، وبرئيس يبيع أعداده؟، أليس ذلك زمن الضياع والفساد وشهادة زور؟، ومع هذا كله سيبقى الله على كل شيء شهيد وقدير.
    حتى ما يكون النفاق سبيلاً إلى الأعالي، وتكون الوجوه آيةً للتسامي، نعرف الحقيقة ونزيّفها، ونعرف الكذب وأحباله ونقدّسه، ونعرف الزور وشهوده فنزكّيه إلى الصلاح والبِرّ، ونشير إلى الفاسد ونباركه، وله يليق الإحترام والخضوع. ولا زلنا نخاف أن نقول الحقيقة من أجل عدم ضياع مناصبنا ومآربنا، واحتراماً لها كي لا نفقدها، فهي لنا آلهة ونحن لها عبيد، والحقيقة هي "إنّ العبد لا يعلم ما يصنع سيده" (يوحنا15:15). فحتى ما نبقى في حالة إتّهام الأبرياء ونحن مدركون براءتهم، ونُنسب إليهم أباطيلَ وأحاديثَ شيطانيةً فنجعل منهم مجرمين ونحن نعلم أنهم أبرياء، لا جريمة تشوب مسار حياتهم، ونعمل هذا كله كي نُبعدهم عن سبيل الحياة من أجل الدنيا وحلاوتها والمصلحة ومكوناتها.
    حتى ما نبقى نتاجر بخرزات سبحتنا وطولها ولونها وصنفها وقيمتها وقينات عباداتنا، ونجعل السامعين والرائين والمطيعين أن يُدركوا أن هذه دنيانا وهذه مآربنا في تمجيد اسم الله (جلّ جلاله)، وننسى إننا في ذلك لا نمجّد إلا أنفسنا ولا نعبد إلا كبرياءنا، وطريق السماء ومآرب تمجيد الإله تكون في السيرة والمسيرة، في الطهارة والبرارة، في الشهادة والحقيقة، وليس بوقوفنا أمام أنظار مَن لهم العيون كي نُحسَب عندهم قديسين ونحن قد ملكنا كبرياءً ورياءً وغشّاً. حتى ما نُصدر بيانات ونسكت، وأصوات الكبار والصغار والجمعيات واللجان وما شاكلها تعلو وفي اليوم التالي تَبُحّْ. وهنا يكون التساؤل: أين كبار زمننا وقادة أحزابنا وأمراؤنا، ومندوبو لجان خلاصنا، هل تركوا ساحة الشرف كي لا تُكتَب لهم الشهادة، أم إن الاجتماعات والمؤتمرات جمعتهم لكي يتفرقوا ويكونون شهوداً لتفرقتهم وأمناء لبياناتهم؟ ما هذا الذي يحصل؟ مَن يحاسب صاحب البيان وداعي الاجتماع والمؤتمر؟ ما هذا ومن أجل مَن؟ ألسنا كلنا من الخطأة والأمناء لخطيئة الكبرياء والأنا؟.
    معابدنا تحمل رسالة الإنجيل للبشارة بالمسيح الحي، فهي أماكن عبادة وصلاة، وفيها يرتفع الدعاء ببخور المصلّين إلى حيث الأعالي، وما ذلك إلا خبر مفرح لبشرى الحياة. أتمنى أن لا تكون معابدنا مذياعاً للحفلات والسهرات من أجل الدنيا ومحاسنها، بل أن تكون ورقة بيضاء، فالأنشودة تقول "يا إله الخير أيها الرحمن، إقبل منا هذه الصلاة، واجعل منها يا ربنا للخطأة غفراناً"، فلا يمكن أن يكون المعبد قناة فضائية دنيوية. فمعابدنا معابد صلاة، فيها نرفع دعاءنا إلى ربّنا العليّ العظيم، وأيادينا ضارعة إلى ملك الكون، ولكن أن تكون صلاتنا وأن يكون دعاؤنا ورفع أيادينا بقلوب فاسدة ونيّات قذرة، في القتل والسرقة، فما ذلك إلا "فرّيسية الروح" (لوقا18) و"صدّوقية الشريعة وكتّابها" (متى23) ، ونجعل من رب الكون عبداً (أستغفر ربي)، وعليه أن يعمل ما أشاء وليس ما يشاءه... ألسنا في ذلك مطيعون، وربّ السماء يقول لا يليق السجود إلا لربّ الكون. فعجيب الإنسان في أمره، يعمل على طول بقاء حياته وهو يدرك جيداً أنه في قبضة الباري وإرادته، يربح جوازاً للخلاص والهروب كي لا تفنى دنياه، وينسى أن يربح جوازاً للعبور نحو العلياء. والمحبوب ينادي بإنه باقٍ حتى دهر الدهور وينسى أنه في لحظة يُعلَن مجرى الأمور... فما أتعس الحياة حينما لا نفهم إرادة باريها، ولا نحب خالقها، ولا نقدس ساعتها، فكثيراً كانوا كباراً ودون استحقاق، فلا علم ولا علماء، ولا شهادة ولا امتياز، بل تابعون أمناء وعبيد أوفياء، وإنْ كانت الحقيقة تنادي بأنهم لا يستحقون، فلا آذان تسمع ولا عيون تؤمن، والسامعون لهم مراؤون، والناظرون إليهم مصلحيون، وهكذا شاءت إرادتهم. فعبيد اليوم مهانون خاضعون خانعون، وكبار الزمن - وإنْ كانوا سرّاقاً - فهم أوفياء معلَنون.
ومع هذا سأقول متفائلاً: صحيح مرّت علينا سنوات عجاف ولا زالت بسبب ما خلّفه داعش وبسبب إحتلاله لقرانا وقصباتنا ومدننا ولكن والحمد لله وبهمّة الطيبين والمنظمات الخيرية والكنسية والمدنية والدولية عاد تقريباً كلّ شيء إلى محلّه. فما نحتاج إليه أن نبني الوطن مع الآخرين وخاصة بعد زيارة قداسة البابا فرنسيس في 5/3/2021 الذي قال أن نكون شهوداً لهذه الأرض التي عرفها التاريخ بحضارتها وعمرانها وإيمانها كما رسم لنا مخطط الإيمان الإبراهيمي. فلنعمل جاهدين على أن لا نيأس ولا نتقاعس عن القيام بواجباتنا وإن كان الشر يحاربنا من جميع الجوانب وهذه حقيقة الحياة. فلنتذكر تجربة الشرير للمسيح الرب بعد صيامه أربعين يوماً وأربعين ليلة... وأقول تلك مشيئة السماء... فيا رب، إجعلها مشيئتك لا مشيئة إنسان... نعم ونعم.