المحرر موضوع: مظفر النواب وانقلابه على القصيدة العامية (الحلقة الثالثة)  (زيارة 453 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل نبيل عبد الأمير الربيعي

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 304
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
مظفر النواب وانقلابه على القصيدة العامية (الحلقة الثالثة)

نبيل عبد الأمير الربيعي
 
    والنواب في قصائده له طريقة في التوكيد على الفعل، خصوصاً قد لا يلتفت إليها المتلقي في حرية انتقاء الفعل المناسب الذي يطابق حالة التكثير ويثريها:
هاي بيوتنه وذولاك أهلنه
والچواير گطه
ودخان المعامل واصل التالي الشلب
والشلب ناهبله گصيبه من الشمس
                   گبل الصبح
                       بسكون
ويگولولك إحنا نموت!!!
   هاي الدنيا ما يبنيها غير أهلك..
      وميتنا أَرد أگلك: من تشيله الناس..
         يدير العين للديره بمحبّه وهوّه بالتابوت..
           ويگولولك، العفنين، إحنا نموت!!!!!!!
    تأمل الصورة التشكيلية لرسام تشكيلي مجيد كم يعرف عنهُ، فالنواب يضخم حالة التكثير بدرجة صادمة، يزيد دقتها في التماثل اللوني والكتلي للجانبين، كما بإمكان الشاعر، فكان الخيار مفتوحاً أمامه بين فعلين (نهب) و(باگ) أي سرق، والمتخيل يتخيل السرقة كعمل عدواني، لكن النهب عمل عدواني عنيف، فهو العنف النوابي، وبصمت خلال اغفاءة الشمس المهيبة يتولى السرقة.
    فالنواب يبذل جهداً هائلاً في الصبر ليس على كتابة القصيدة بل تخميرها من المبنى والمعنى، والمفردة الواحدة، وأحياناً الحرف الواحد، لينتج لنا أروع أنواع الشعر الساحر المذهل، ليرفعنا إلى  سماوات قصيدة النشوة الصوفية المترفعة، وهذا ما نجده في قصيدة (زفة شناشيل):
انا يعجبني ادور عالگمر بالغيم
ما احب الگمر كلش گمر
يا عمر كلك مطر
يا فرح جنك قهر
منين اجيسچ تاخذ الختلات روحي..
الگه عنبر..
الگه مشمش..
الگه غرنوگين يصلن
الگه شي ساكت مثل فرخ الحبر
الگه شي ضايع نهر
دشداشه گمره
اثنين بالمشمش..
وإذا العصفور يزقزق...
فوگ...
نسحب البستان..
نتغطه شهر.
صنطه لشناشيل
صنطه العگد
نام الدف على امخاديد الجوارين
وحصان العمر مسرع ورا الگمره، عبر
گنطره وماي الگمر
گنطره ونوم وعشگ جاس النهر
گنطره وجانا المطر
    لذلك من خلال قصائد النواب نجده قد فجر المفردة العامية وأطلق طاقاتها المحتبسة، منطلقاً من الفهم الخلاق لدور الشعر، وهو يمنح المفردة دوراً جديداً باهراً، ومعانٍ جديدة باذخة، تتجاوز معناها القاموسي التداولي، فيقول النواب:
جفنك جنح فراشة غض
وحجارة جفني وما غمض
يل تمشي بيا ويا النبض
روحي على روحك تنسحن
حن .. بويه حن
    وهنا ينشئ النواب علاقة بين جفنين: الأول جفن المحبوب، والثاني جفن المحب العذب. وتأتي الدهشة دائماً من الألم الفائق، لحضور الموت وليس من الحياة المحضة الرتيبة، وفي قصيدة للنواب (ولا زود) يقول:
جثير گزازك بروحي،
وأگولن
هاي حنيّة
وأگلّك
وين هالغيبة؟
سنه
وبالحلم منسيّة
يَاطيف
شوية عاشرنه
الصبح دنياك، مگضيّة
    من خلال ما تقدم نجد المنجز الشعري الابداعي العامي للنواب بمفرداته قد صدأ واندثر تحت طبقات من غبار بلادة الاستعمال، لكن قد جسد النواب في شعره الحجر إلى ذهب من تلك المفردات: الغرشة، ليطة، مدگگ، نگش، اللجعة، زحير، ناموس، شگبان، اتغرنگت، الرزّة وغيرها.
    فينتقي النواب المفردات في تصوير مشاعره وانفعالاته وافكاره، فاستخدام المفردات من قبل النواب تشكل اختباراً حقيقياً لقدراته على الخلق وتحويل تراب المفردة إلى ذهب القصيدة، ومثال ذلك مفردة (گزاز)، لا أجد شاعراً قبل النواب قد استخدمها في الشعر العراقي العامي، فالمفردة تعكس درجة تمزق روح الشاعر، الذي بلغ حدوداً سادية في ذلك الكم الهائل من الوجع حباً، وأخيراً رحل النواب بعد ذلك الوجع جسداً لا روحاً، فقد جسّد روح العاشق لبلده وشعبه وشعره، من خلال قصائده، فجاءت سكتة الاكتئاب واليأس، ورحلت إلى الأبد تلك الشقاوة النازفة، لتعقبها خطوة اكثر مباشرةً واقتراباً من دائرة الخيبة والاحباط بعد احتلال بلاده من قبل الامريكان، الذي كان النواب يتمنى أن يتحسن حال بلده من بعد ذلك الانتظار والوحدة والأمل.