المحرر موضوع: حديث يوفال نوح هراري عن الموت في كتابهِ (العاقل)!  (زيارة 509 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل رعد الحافظ

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 673
    • مشاهدة الملف الشخصي
حديث يوفال نوح هراري عن الموت في كتابهِ (العاقل)!

مقدمة :
في مقالٍ سابق عرّفتُ القاريء بكتاب يوفال نوح هراري الأوّل الشهير ,
(العاقل  :تأريخ مُختصر للجنس البشري) ,الرابط أدناه!
وفي ورقة اليوم سأختصر لكم حديثه عن أهمّ موضوع شغلَ البشرية منذ بدء التأريخ ,ألا وهو موضوع الموت والبحث عن الخلود الأبدي!
أهميّة الموضوع بالنسبة للعلماء ,أنّ الموت كان الحقيقة المُطلقة الوحيدة التي واجهتها البشرية ,كون الموت يحدث للجميع دون إستثناء (بصرف النظر عن الخرافات المتعلقة بخلود بعض الرجال ,لاداعٍ حتى لمناقشة تلك الاقوال)!
أمّا باقي الحقائق بما فيها إنبثاق الكون والإنفجار العظيم ,والشمس ومركزيتها للمجموعة الشمسيّة وكونها نجم من بين إحدى نجوم مجرتنا (درب التبّانة) التي تحوي مايقرب من 200 مليار نجم .ثمّ كروية الأرض (كوكبنا الأزرق الجميل) .
وحتى قوى الجاذبية وماشابه ,ونظرية داروين للتطور والإنتقاء الطبيعي للأحياء ,وصولاً الى نظرية آينشتاين النسبية ونظرية الكوانتم .. وغيرها ,كلّها كانت حقائق نسبيّة خاضعة للجدل والنقاش ,وبعضها مستمر الى يومنا!
***
صورة :

***
مشروع جلجامش (من كتاب العاقل/ يوفال نوح هراري)!
كانت ومازالت المشكلة الأكثر إقلاقاً وتشويقاً ,الأهمّ من بين كلّ المشاكل البشرية ,التي تبدو غير قابلة للحلّ هي مشكلة الموت نفسه!
سلّمت معظم الديانات والآيدولوجيّات قبل العصر الحديث المتأخر ,أنّ الموت هو مصيرنا المحتوم .علاوةً على ذلك حوّلت معظم الأديان الموت ليكون المصدر الرئيس لمعنى الحياة!
حاولْ تخيّل الإسلام أو المسيحية أو الدين المصري القديم في عالَم بلا موت.
علّمت هذهِ العقائد الناس أن يتصالحوا مع الموت ليعقدوا آمالهم على حياةِ الآخرة,
بدلاً من السعي للتغلّب على الموت والحياة للأبد هنا على الأرض!
كانت أفضل العقول مشغولة بإعطاء معنى للموت ,دون محاولة الهروب منه!
هذا هو موضوع أقدم إسطورة وصلت إلينا ,إسطورة جلجامش في حضارة سومر القديمة .بطلها هو الرجل الأقوى والأقدر في العالم ,الملك جلجامش من مدينة اوروك (الوركاء) ,الذي إستطاع هزيمة أيّ شخص في المعركة.
ماتَ ذات يوم أعزّ أصدقاء جلجامش ..(أنكيدو)!
جلسَ جلجامش قرب جسدهِ وراقبهُ عدّة أيام ,حتى رأى دودة تزحف خارجة من أنفهِ .في تلك اللحظة إستحوذ عليه رعبٌ رهيب ,وإعتزمَ أن لا يموت أبداً ,لذا عليه أنْ يجد طريقة يهزم بها الموت.
بعدها قامَ برحلة الى نهاية العالَم ,قتلَ فيها اُسوداً ,وحاربَ الرجالُ العقارب ,
ووجدَ طريقهُ الى العالَم السفلي .هناك حطّمَ عمالقة أورشنابي الحجريين ,
ومراكبيّ نهر الموتى .ثمّ وجدَ (أوتنابيشتيم) الناجي الأخير من الفيضان الأزلي!
مع ذلك فشلَ جلجامش في مسعاه وعاد الى وطنهِ خالي الوفاض ,بشريّاً أكثر من أيّ وقتٍ مضى!
لكن كانت بحوزته نتفه واحدة جديدة من الحكمة .فحين خلقت الآلهة الإنسان كما تعلّم جلجامش ,جعلت الموت مصيره الذي لا مفرَّ منهُ ,لذا يجب على المرء التعايش مع هذا الأمر!
اليوم ,لا يتخذ مريدوا التقدّم هذا الموقف الإنهزامي ! فبالنسبة لرجال العِلم ,الموت ليس مصيراً حتميّاً ,بل هو مجرد مشكلة تقنيّة!
لا يموت الناس بسبب قضاء الآلهة ,بل بسبب أعطاب تقنيّة مختلفة : نوبة قلبيّة ,سرطان ,عدوى ..الخ ,وكلّ مشكلة تقنيّة لها حلّ تقني!
فإذا إختلّت ضربات القلب يمكن تحفيزه بجهاز مُنظّم ,أو إستبدالهِ بقلبٍ جديد!
وإذا تفشى سرطان فيمكن قتلهِ بالعقاقير أو الإشعاعات!
وإذا تكاثرت البكتريا فيمكن إخمادها بالمضادات الحيويّة!
صحيح أنّنا في الوقتِ الحاضر غير قادرين على حلّ جميع المشاكل التقنيّة ,لكننا نعمل عليها .
لا يضيّع أفضلنا عقلاً أوقاتهم في محاولة إعطاء معنى للموت ,بدلاً من ذلك هم مشغولون بفحص الأنظمة الفسيولوجيّة والهرمونية والوراثية المسؤولة عن المرض والشيخوخة .وهم يطوّرون أدوية جديدة وعلاجات ثورية وأعضاء صناعية ,ستطيل حياتنا وربّما تقهر ذات يوم حاصد الأرواح ذاته!
لم يكن بإمكانكَ حتى وقتٍ قريب سماع عالِم أو أيّ شخص آخر يتكلّم بمثل هذه الصراحة .كانوا يؤكدون : هزيمة الموت؟ ماهذا الهُراء ,نحن نحاول فقط معالجة السرطان والسلّ والزهايمر!
تجنّبَ الناس مشكلة الموت لأنّ الهدف كان بعيد المنال جداً ,فلِمَ يوجدون توقعات غير معقولة ؟ مع ذلك فنحن اليوم في موضع يمكننا أن نكون صريحين بشأن الموت .المشروع الرائد للثورة العلميّة هو مَنح الحياة الأبدية للبشرية!
حتى لو بدا (قتل الموت) هدفاً بعيد المنال ,لكنّنا حققنا بالفعل أشياء لم يكن من الممكن تصوّرها قبلَ بضعة قرون!
عام 1199 طعنَ سَهمٌ الملك ريتشارد قلب الأسد في كتفهِ اليُسرى .لو حصلَ ذلك اليوم لقُلنا أنّهُ اُصيبَ بجرحٍ بسيط!
لكن سنة 1199 وفي غياب المضادات الحيويّة وطرق التعقيم الفعّالة ,اُصيبَ هذا الجرح البسيط بالعدوى وتفشّت فيه الغرغرينا .كانت الطريقة الوحيدة لوقف إنتشار الغرغرينا في القرن الثاني عشر هي بتر العضو المُصاب ,لكن كان هذا الأمر مستحيلاً في حالة ريتشارد قلب الأسد ,حيث سرت العدوى في جسدهِ ,ولم يستطع أحد مساعدتهِ ,فمات الملك بعد إسبوعين وهو في معاناة عظيمة!
إستمرَ الأطباء في جهلهم بكيفية منع العدوى ووقف تعفّن الأنسجة حتى أواخر القرن التاسع عشر .وفي مستشفيات المعارك الميدانية كان الأطباء يبترون بشكل روتيني أيادي وسيقان الجنود الذين اُصيبوا بجروحٍ طفيفة في الأطراف خشية الغرغرينا .كان البتر وجميع الإجراءات الطبية الأخرى (مثل خلع الأسنان) تُجرى دون أيّ دواء تخدير .اُستخدمت أولى مواد التخدير (الإيثر والكلوروفورم والمورفين) ,بإنتظام في الطبّ الغربي ,فقط في منتصف القرن التاسع عشر!
قبل ظهور الكلوروفورم كان على أربعة جنود أن يثبتوا رفيقهم الجريح ,فيما يقوم الطبيب ببتر الطرف المصاب بالمنشار .
في صبيحة اليوم التالي لمعركة (واترلو / 1815) ,كان يمكن رؤية أكوام من الأيادي والسيقان المبتورة .في تلك الأيام غالباً ما اُرسل النجارون والجزّارون الذين إنضموا الى الجيش ليخدموا في الفيلق الطبّي ,لأنّ الجراحة تطلّبت أكثر من المعرفة العادية بالسكاكين والمناشير.
تغيّرت الأمور بالكامل في القرنين التاليين لمعركة واترلو .أنقذتنا العقاقير والحُقن والعمليات الجراحية المعقدة من عدد وافر من الأمراض والإصابات التي اُعتبرت فيما مضى حكماً بالإعدام لا مفرَّ منه .كما حمتنا من آلام ووعكات يوميّة لاحصرَ لها .كان الناس يعدونها ببساطة جزءً من الحياة .
قفزَ متوسط العمر المتوقع من حوالي (25 الى 40) سنة ,ليصل حوالي 67 سنة في جميع انحاء العالَم ,و حوالي 80 سنة في العالَم المتقدّم!
كانت مُعاناة الموت الأسوء في ساحة وفيّات الأطفال ,فحتى القرن العشرين لم يتمكن رُبع الأطفال الى ثُلثهم في المجتمعات الزراعية من الوصول لسنّ البلوغ!
عانى معظمهم من أمراض الأطفال مثل الدفتريا (الخناق) والحصبة والجدري.
في إنكلترا القرن الـ 17 توفي 150 من كلّ ألف حديث الولادة في سنتهم الاولى.
وكان ثلث جميع الأطفال أموات قبل أن يصلوا لسنّ الـ 15 عام!
أمّا اليوم فيموت 5 فقط من كلّ ألف طفل إنكليزي في سنتهم الاولى .ويموت 7 فقط من كلّ ألف قبل سنّ الـ 15 عام!
يمكننا فهم التأثير الكامل لهذه الارقام بشكل أفضل من خلال إقصاء الإحصاءات جانباً وسرد بعض القصص ذات العلاقة!
تُعّد اُسرة الملك إدوارد الأوّل ملك إنكلترا (1237 ـ 1307) ,وزوجتهِ الملكة إليانور (1241 ـ 1290) مثالاً جيداً .
تمتّعَ أطفالهم بالظروف الأفضل والمحيط الأكثر رعاية الذي يمكن توفيره في أوربا القرون الوسطى .كانوا يعيشون في القصور ,يأكلون الكثير من الطعام كما يحلو لهم ,لديهم الكثير من الملابس الدافئة ,والمواقد جيّدة التجهيز وإمدادات المياه الأنظف ,وجيش من الخدم وأفضل الاطبّاء .
تذكر المصادر 16 طفلاً حملت بهم الملكة إليانور ,مات معظمهم في طفولتهم!
كان أصغرهم (إدوارد) ,أوّل الاولاد الذين نجوا من خطورة سنوات الطفولة وتسلّمَ العرش الإنكليزي بعد وفاة والدهِ ,وعُرِفَ بإسم الملك إدوارد الثاني!
بكلمات اخرى إحتاجت إليانور لـ 16 محاولة لتنفيذ المهمة الأساسيّة لملكة إنكليزية ,وهي تقديم وريث (ذكر) لزوجها!
لابدّ أنّ والدة إدوارد الثاني كانت إمرأة تتمتع بصبر وثبات إستثنائيين .لم تكن كالمرأة التي إختارها إدوارد لتكون زوجةً له (إيزابيلا الفرنسيّة) ,التي تآمرت لقتله حين كان في الـ 43 .
على حدّ علمنا كان الزوجين إليانور وإدوارد الأوّل زوجين صحيحين .ولم يُمررا أمراضاً وراثية قاتلة الى أطفالهم .مع ذلك توفي 10 من أصل 16 أيّ (62%) خلال مرحلة الطفولة .وتمكن 6 منهم فقط من العيش بعد سنّ الـ 11 .
وعاش 3 منهم فقط (أيّ 18%) الى مابعد الأربعين.
بالإضافة لهذه الولادات إنتهى عدد من ولادات إليانور على الأرجح بالإجهاض.
في المتوسط فقدَ إدوراد وإليانور طفلاً كلّ 3 سنوات ,فقدوا 10 أطفال واحداً تلو الآخر ,يكاد يكون من المستحيل بالنسبة لآباء اليوم أنّ يتخيلوا مثل هذه الخسائر!
كم من الوقت سوف يستغرق مشروع جلجامش (البحث عن الخلود) حتى يكتمل؟
مئة سنة ؟ 500 سنة ,ألف سنة؟
حين نتذكر كيف أنّنا كنّا نعرف القليل عن جسم الإنسان في سنة 1900 ,ومدى المعرفة التي إكتسبناها في قرن واحد ,فهناك سبب للتفاؤل!
تمكن المهندسون الوراثيّون مؤخراً من تمديد متوسط العمر المتوقع لدودة الربداء الرشيقة الى ست أضعاف .فهل يمكنهم فعل ذات الشيء مع الإنسان العاقل؟
يقوم خبراء تقنية النانو بتطوير نظام مناعة تقني ـ حيوي ,يتكوّن من ملايين الروبوتات النانوية ,التي ستسكن أجسامنا ,وتفتح الأوعية الدموية المسدودة ,
وتحارب الفايروسات والبكتريا ,وتقضي على الخلايا السرطانية ,وتعكس عمليات الشيخوخة .
ويقترح قلّة من العُلماء المُهمين أنّه بحلول سنة 2050 ,سيصبح بعض البشر عصيين على الموت . لا خالدين (فربّما يموتوا بسبب حوادث)!
***
الخلاصة:
ينتهي (يوفال نوح هراري) بالقول :
سواءً نجحَ مشروع جلجامش أم فشل ,فمن الرائع من منظور تأريخي أن نرى أنّ معظم الديانات والآيدولوجيّات الحديثة المتأخرة أقصت الموت والحياة الاُخرى فعلاً الى خارج المعادلة!
حتى القرن الـ 18 إعتبرت الديانات ,الموت وما بعدهُ أمراً مركزيّاً لمعنى الحياة!
وبدءً من القرن الـ 18 فقدت الديانات والآيدولوجيّات مثل الليبرالية والإشتراكية والنَسويّة ,كلّ الإهتمام بالحياة الاُخرى!
ما الذي سيحدث بالضبط لشيوعي بعد أن يموت؟ ماذا سيحدث لرأسمالي؟ ماذا سيحدث لنسوية؟
من العبث البحث عن إجابة في كتابات ماركس ,آدم سمث ,سيمون دي بوفوار.
القومية هي الآيدلوجيّة الحديثة الوحيدة التي ماتزال تمنح الموت دوراً مركزيّاً.
في لحظاتها الأكثر شاعرية ويأساً ,تَعِدُ القوميّة بأنّ كلّ مَنْ يموت لأجلِ الأمّة ,
سيعيش خالداً الى الأبد في الذاكرة الجمعيّة للأمّة!
مع ذلك فإنّ هذا الوعد غامض ,الى درجة أنّه حتى أشدّ القوميين إيماناً ,لايعرفون حقاً ما يجب أن يستخلصوا منه!
***
الرابط : تعريف بكتاب العاقل / تأريخ مختصر للجنس البشري!
https://akhbaar.org/home/2022/6/294793.html


رعد الحافظ
26  يونيو 2022