المحرر موضوع: عازف الناي سفاح عبد الكريم  (زيارة 430 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل محمد علي محيي الدين

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 637
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
عازف الناي سفاح عبد الكريم
محمد علي محيي الدين
 أواخر ستينيات القرن الماضي، كنا شداة للأدب، نلهج بالشعر، ونغني بالكلمة، ونبحث عن الجديد، ونهفو للسماع، نتابع دون ملل أو كلل ما ينشر من شعر على صفحات الجرائد، أو من دار الإذاعة العراقية، فكان النواب والسماويان عزيز وشاكر، وابو ضاري وأبو قيصرالديواني وناظم السماوي وعريان السيد خلف  وكاظم إسماعيل الگاطع وناظم السماوي ومهدي السوداني وصبيح ناجي القصاب وزهير الدجيلي وحامد العبيدي وكامل الركابي ورحيم الغالبي وفالح حسون الدراجي وغيرهم نتلقف قصائدهم ونحفظ أشعارهم ونردد أسمارهم، وحدت بنا القافلة في دروبه نتابع ما يصدر هنا وهناك  من دواوين ومجموعات، نحفظ القصائد ونردد الشواهد، لا هدف لنا غير الشعر بسموه وموسيقاه ورقة معانيه، وكانت المطابع تدفع ألينا بين حين وآخر ديوان شعر يتلقفه القراء والنقاد بما يستحق من نقد وتنويه وتقريظ ودرس.
 ومن بين مقتنيات تلك الأيام ديوان صغير بحجمه, كبير باسمه، لشاعر أعجبت به وحفظت ما استطعت من شعره، وسمه بشراع الضمير للشاعر أبو وليد، قرأته وتلمست معانيه، وطفت في أرجائه، وأخذ مكانه بين المأثور من دواوين الشعراء، دون أن اعرف عن شاعره سوى كنيته التي لا تنبي عن أسم.
 ومرت بنا السنين حبالى بالمرح والترح، والحزن والفرح، والتقدم والتراجع، والنجاح الفشل، إلى أن قيض لليل الطغاة أن ينجلي، وسنين الظلم أن تزول، فكان لنا عودة لدنيا الشعر، ورياض الأدب، ونشاط في مؤسساته وأنديته وجمعياته، فالتقيت في اجتماع للشعراء الشعبيين في مدينة كربلاء، شعراء سمعت بهم، وقرأت لهم، دون أن يكون لي شرف التعرف عليهم، فكان أن تعرفت عن قرب بشاعر قرأت له وأعجبت به، إنسان كبير وقلب مفعم بالود، وبسمة لاصقة على الشفاه، وكلمة معجونة بكل ماهو جميل، ذلك هو الشاعر سفاح عبد الكريم، صاحب الكنية الأثيرة"أبو وليد" وتفضل واهداني ديوانه الجديد"يا روحي ليل الحلم" فكانت سهرة ممتعة، عدت خلالها إلى أفانين الشعر الشعبي العراقي في حقبته المثمرة في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم، وألهتني مشاغل الحياة عن الكتابة عنه، رغم رغبتي الصادقة للتنويه بما فيه من مواطن الروعة والجمال.     
  وكنا نتبادل الود والمهاداة كلما جد جديد، وعندما أعاد إصدار ديوانه الأول شراع الضمير أرسل لي نسخة منه مع ديوانه عازف الناي الذي ضم ما استجد من قصائده، فكانت تذكيرا لسهو غير مقصود، وتنبيه لغفلة أقسرتني عليها الأيام، فكان أن لملمت أفكاري لأعزف على ناي طالما أبهج الجميع، وأن أقول كلمة حق في شاعر صدق وده، ووفى عهده، لقضية آمن بها، ودافع عنها، فكان قيثارة أبدعت أجمل الألحان، وأوقفت نفسها لخدمة شعب ووطن.
 المطالع لقصائد الشاعر يجد بين ما يجد نكهة خاصة، توابل بصرية، ونتوء فراتيه، وكلمات موحية بأكثر مما تعني الكلمة وتهدف لمعنى ظاهر، فقد نجد خلف الكلمات معان أرادها الشاعر أو أشار إليها وربما يريد غيرها ولكن خيال القارئ يدفعه لتلمس معنى يكمن خلف المعنى الظاهر، فهي حديقة حاوية لأزاهير شتى تقطف منها ما تشتهي أو تريد، وهاجس الوطن ميسم طاغ على ملامح الديوان، وأنين ينمو بين ثناياه، حتى عندما يتغزل الشاعر أو يتناول منحى من مناحي الحياة تجد للوطن ظلاله الطاغية على مشهد القصيدة، وتتلمس فجوات ظاهرة تنفذ من خلالها أحاسيس الشاعر ومشاعره المعبرة عن نزوع وطني فريد، وقصيدته وطن مذبوح نداء صارخ، ونخوة مجلجلة تأخذ طريقها إلى مكمن المشاعر التي تعتلج في نفس الإنسان وعندما يقول:
 فك حزنك أبوجه الموت
"يونس" خلّده التسبيح والتعبان بيه الحوت
فك حزنك نهارك ليل
يا مركاض كل الخيل
يكفي الخوف يطعن والزمن سربوت
 تجد الصدق الدافق، والروح المتوثبة، والألم الشفيف، والصورة الموحية بالكثير من التجليات والتخيلات لوطن واكب الأحزان وواكبته، وعجن الأيام وعجنته، ولكنه رغم كل شيء يتطلع لصباح جديد ينزع من مخيلته آثار الظلمة والخوف، فالأيام لن تأخذ منه كما تريد وهو الأقدر على مواجهتها بما جبل عليه من قوة وصلابة بفعل المحن التي طالما واجهها وكابد منها وعانى من ضراوتها، لذلك تكونت لديه قوة على الممانعة والمدافعة والمواجهة تجعله يشعر بأمان النهاية وانه سيكون المنتصر حتما، وليس في قاموسه ما يوحي بالانكسار أو التراجع أو الجمود، لأنه طاقة متحركة لا يمكن لها أن تتوقف عن الانطلاق.
ما نرضه المضيف اتنكس اعگاله
الوطن مذبوح واليبچن ألف خاله،
الجرح نخوة ضمير أو عرسه صحوة كاس
لا تامن ابكل الناس.
اليمّك حراميه او بعضهم يعبر عله الناس.
وابنادم وطن بيه عتگت العلة..
يا هيبة نخل بستانه المتعلي أبظله..
وعبر لغة حافلة بالغريب من اللهجة العراقية يظهر لنا الخزين اللغوي للشاعر من خلال مفردات تفرد بها وسعى لالتقاطها من هذا الخضم الهائل من التراث الشعبي وقد أعطت هذه المفردات زخما اكبر للمعنى وجلجلة واضحة للقصيدة ودفق لانسيابيتها لتأخذ مكانها في ذهن القارئ: تفحط ,عشر التي تعني مضاء الجرح وتفاقم آلامه،والمرواح الذي غادر الحقل ليبقى في ذاكرة الشاعر واعزوم  وهو صفة للفرس السابق التي تمتلك العزيمة واتفرفح  وهي مفردة غائبة في الوقت الحاضر تعبر عن الألم واللوعة، والبطران المشتقة من البطر الفصيحة التي تعني ألامبالاة، والچيمة  التي تميزت بين مفردات الجنوب العراقي في دلالتها.
   ويبدع في قصيدته "الى شاكر السماوي شاعرا"، وشاكر السماوي غني عن التعريف عرفته ميادين الشعر مدرسة تفردت بين المدارس الحديثة، وطريقة تميزت عن مثيلاتها بمفردات وصور وانزياحات استلهم منها كثير من الشعراء مفردات وصور تفرد بها ولم يكن مسبوقا بمثلها، لذلك أصبح له مريدون ومقلدون نجد منهم كثيرون بين شعراء تلك الفترة، لذلك يستلهم منه الشاعر صور مختلفة تباينت في توجهاتها وأهدافها وتنوعت في مضامينها وأشكالها، فمن "صلاة العاشق" الى "السيف الخارق" و"أسرار العراق" و "أتلگه الرصاص إصفوف" و"العشگ والموت وابنادم"..  و..و..
سكته اتخضر الهامات، نترجه الزمان ايدور..
لا ذِمه ولا ناعور..
يرجف بينه وايحطبّنه بالتنور..
بصرك يلجبت غرگان بالطيبه!؟
القصايد مو لعب بوسات تجليبه
العشگ والموت وابنادم".. گصيبة ليل
بيها اشموع تتمره "إبفليحه".. ابوجه المرايه..
اشحلاتك تركض بروحي جرف متحزم ابمايه
اشحلاتك تركض ابروحي ابهوه "الحلاج"..
وإحسينك "غريب او زينبك".... آيه
النواصي إرماد وانته النجم متلوحه ابگصيره اچفوف
و "إحچاية جرح"..
ما تنده اظنونك!؟
انته ابماي خابط راضي خيعونك..
تعوف النه الحصاد ابمنجل الباطل!
جرح.. جرحين، شو خاطر وكتنه اهواي بيه اجروح
يتخردل ضوانه من زمان الطوش، ماخذنه البرد للهور.
ولا حِنه ولا بيرغ،
طرگ مشحوف...
"چا شلي ابعشگ لو ما تجيه إطفوف"
گصران ابضوه الغيمات،
- يا صُفنه الاجيها اتحزني.. چن اسيوف
صدگني اعله مودك اركض ابلا خوف
فالقارئ يتلمس بلا شك التأثير السماوي على الشاعر سفاح عبد الكريم، والقدرة على تضمين ما يمكن تضمينه من مفردات أو عناوين لم يكن لغير شاكر أن يلتقطها ليجعل من تلك المفردات كلمات نابضة بالحيوية، مثخنة بالإيحاء الصامت، تنساب بسلاسة في ثنايا القصيدة، لتأخذ مكانها في ذهن القارئ، مفردة معبرة، لها خصوصيتها المتفردة التي لا تتحول عن غيرها، ولا تنبئ عن سواها، وهذه البلاغة الشعرية لم يتأتى إلا للقليلين الإلمام بها والإبداع من خلال مضامينها، ولا يعدم القارئ العثور على مواطن التأثر بارزة في مقاطعها وأبياتها حتى يمكن أن يقال أنها جزء لا يتجزأ من فكر سماوي ظهرت قسماته واضحة جلية في أماكن مختلفة يمكن ملاحظتها بما طفح من نشرها في ثنايا القصيدة.
 والحديث يطول عن الشاعر و"نايه" وعن صوره ومفرداته وإمكاناته الإبداعية وقدرته على الاستحواذ على لب القارئ من خلال ما يكتب، وما كتبته رؤوس أقلام، ونقطة بداية عن شاعر لا زال وافر العطاء غني التجربة، يتجدد مع الزمن في توليد المعنى واحتيار المفردة ووضوح الرؤيا وجمال التعبير.