لغتنا هويتنا
كلمة نائب رئيس تحرير مجلة بابلون
هيثم ملوكا
مما لاشك فيه أن اللغة هي صلة التواصل بين البشر وهي الأداة التي تنقُل المفاهيم وتحمل الأفكار. كما أن اللغة أيضاً تعد جُزءاً لايتجزأ من الثقافة والتأريخ ، فهي الهوية والدليل الى الأنتماء والعرق..
وسَنُسلط هنا الضوء على اللغة التي يتحدث بها عموم مسيحي العراق أو في المهجر وغالبيتهم من الكلدان(حيث يشكلون حوالي 75%من مسيحي العراق) ولغتهم الحية هي اللغة الكلدانية. فهذه اللغة الأصيلة التي يرجع تأريخها الى آلالاف السنين ، حيثُ تناقلتها الأجيال تِباعاً. فبالرغم من حصول الكثير من التغيرات عليها كلغة محكية عبر التأريخ بسبب تأثير بعض اللغات عليها. ألا انها لازالت حية وباقية ومتداولة الى الآن. وأما كلغة مكتوبة فلازالت كما هيَ عندما تبناها الكلدان كلغة مكتوبة في كتبهم ووثائقهم ، وصلواتهم فيما بعد عبر الوثائق التأريخية التي تثبت ذلك.
السؤال المهم . كيف نحافظ على لغتنا وننقلها للأجيال القادمة.؟
ظلت لغتنا الكلدانية متجذرة وقوية ومنقولة من جيل الى جيل في موطنها الأصلي (بلاد الرافدين) العراق اليوم . وترسَختْ لغتنا وحافظت على جماليتها وحروفها ،بسبب وجود الكنيسة بعد ان أعتنق الكلدان المسيحية والأيمان بالمسيح المخلص. ولكن القرن الأخير وتحديداً في العقود الأخيرة وبسبب الحروب والأرهاب وتدهور الأمن وعدم الأستقرار، هاجر غالبية مسيحي العراق، وكما قلنا الكلدان يشكلون الغالبية العظمى منهم والبقية هم( السريان والاثوريين والأرمن).هاجروا الى كل بقاع الأرض وانتشروا في كل دول العالم وشكلوا جاليات لهم في البلدان التي سكنوها. وهنا أصبحت مهمة الحفاظ على لغتنا أصعب مما كانت عليه في بلدها الأصلي حيث كانت الأهالي والعوائل الكلدانية في العراق تتحدث وتتباهى فيما بينها وفي كل المناسبات بلغتهم الكلدانية ، وكان الجميع يتحدثون داخل بيوتهم صغارا وكبارا بها ويتقنونها بلباقة رغم دخول بعض الكلمات (العربية أو الكردية أو التركية )عليها بسبب تأثير البيئة المشتركة والتعايش المشترك عليها. وكانت العربية أو الكردية تعتبر لغة ثانية لهم .والشيئ الأخرهو بسبب تمسكهم القوي بدينهم ولكي يتميزوعن الأقوام الأُخرى خوفاً من الأنصهار. لذلك بقت اللغة بمثابة الهوية الدينية والقومية بنفس الوقت.
ماحصل في بلاد الغرب والمهجر بعد هجرة ثلاثة ارباع الكلدان الى الخارج. أنضوتْ هذه الجاليات تحتَ حكم سياسات هذه الدول وقوانينها ودساتيرها وثقافتها . حيث نلاحظ أن دول الغرب أو الأغتراب لاتعطي اهمية لدين الفرد او لغتهِ ولاتفرق بينهم ، وتعتبراللغة والتقاليد حريات شخصية يحق ممارستها فيما بينهم .
لذلك نرى الأجيال الجديدة من الأطفال الذين يولدون في هذه البلدان يتشربون من ثقافة هذه الشعوب وافكارهم فترى غالبية أطفال المهاجرين غير مكترثين بالتحدث بلغتهم الكلدانية بالرغم من أنهم تعلموها من الوالدين بالممارسة اليومية. ولكن حالما يلتقون هؤلاء الأطفال مع بعضهم في البيت او في الشارع او المناسبات تكون لغة البلد الرسمية هي المحكية وهذا ما لم نكن نلاحظهُ الا نادرا عندما كانوا في العراق. في الحقيقة الخلل ليس فقط في نظام هذه الدول ودساتيرها وثقافاتها، بل لأنها تعامل الجميع تحت طائل القانون والدستور المدني الذي لايغبن حق قوم على قوم بعكس مانلاحظهُ في بلداننا فغالبا ماتكون التشريعات والقوانيين مبنية على شريعة دين الأغلبية وهذا مايولد بعض الظلم في كثير من القوانين المدنية التي تعطي الحق لقومية الغالبة في العدد. مثل حق أختيار الدين او القومية او الزواج من أقوام أخرى. ولذلك تكون هناك ردة فعل في التمسك القوي من قبل الأقوام الأخرى غير العربية، للحفاظ على هويتها.وهذا ما لانراه في بلدان الأغتراب . لذا تبقى مسألة الحفاظ على اللغة والتقاليد طوعية عند الفرد، لعدم وجود اي مؤثرات وغُبن بحق اي قوم أو اقلية عرقية. ويبقى هنا العامل الأساسي الذي ستلعبهُ العائلة والكنيسة ومؤسسات المجتمع المدني والتنظيمات القومية في تلك البلدان للحفاظ على لغتهم . فالتساهل وعدم المتابعة مع الأبناء وعدم حثهم على التحدث بلغتهم او حثهم لحضور تراتيل وقداديس الكنسية الكلدانية بلغة الأم.. وايضا عدم فتح دورات لتعليم اللغة. كل هذه العوامل مجتمعة سيكون لها نتائج سلبية مدمرة مستقبلا على جالياتنا وسوف تفقد هويتها القومية وأن بقت محافظة على ديانتها التي هي بدورها ستضعف بسبب ثقافات ومعتقدات هذه الشعوب. لذا توجب على الجميع بِدءاً من الأسرة ومن ثم الكنيسة التي تلعب دوراً مهما في نشر الأيمان والتشبث باللغة والقومية ، ومن ثم أيضاً كما اسلفنا تلعبُ تنظيمات المجتمع المدني( الثقافية والقومية) دوراً مُهماً في التعاون مع الكنيسة والعكس صحيح لترسيخ مفهوم القومية واللغة، لخلق جيل واعي يتميزعن الجميع ويتفاخروا بأنتماءهم التأريخي العظيم الى تلك الحضارات العريقة التي صنعها أجدادهم بكل ماتعنيه هذه العبارة من معاني عميقة وسامية .
فإذاً كل ماتطرقنا اليه يجب أن يتم تطبيقهُ على الأرض من خلال بناء مدارس خاصة بجالياتنا لتعليمهم اللغة ، كتابة وقراءة ، ووضع مناهج دراسية تتحدث عن عظمة بلاد النهرين وبابل العظيمة والعلوم والأكتشافات التي وجدوها والتي لازالت البشرية تستند عليها مثل النظام الستيني لضبط الوقت وموقع الكواكب وقوانين تنظم حياة المجتمعات في العدل والمساوات وأنَ ارض العراق (بلاد الرافدين) هي مهد الحضارات ومنبع الأديان السماوية . فالنبي أبراهيم ابو الأنبياء هو من أور الكلدانيين ومن نسبهِ جاءت سلسلة من الأنبياء . كل هذه الأمورأضافة الى زرع الوعي القومي والثقافي ودور الكنيسة في ترسيخ وتقوية الأيمان . كلها ماذكرناه مجتمعة ستولد لنا أجيال نعتزُ بها وستعتزوا هي بنا لأننا مهدنا الطريق لهم ، وبخلاف ذلك سنخسر لغتنا وأنتمائنا القومي وربما حتى الديني بمرور الزمن .
هناك تجارب حصلت عبر التأريخ لشعوب فقدت هويتها القومية الأصيلة بسبب أهمالهم للغتهم وعدم الحفاظ عليها عبر الأجيال ،وخير مثال على ذلك . مسيحي لبنان اليوم هذا الشعب تنتمي جذؤره الى الشعب الفينيقي(الكنعانيين) والحضارة الفينيقية العريقة ولكن هؤلاء القوم أضاعوا وأهملوا لغتهم الفينيقية الأصيلة وأستسلموا الى لغة الشعوب التي غزتهم وكانت أقواها تأثيرا عليهم اللغة العربية . لذلك نرى مسيحي لبنان منذ البدء أنصهروا مرغمين مع العرب بعد عدم تمسكهم وتشبثهم بلغتهم وهويتهم القومية منذ عقود طويلة في حين هم بالأصل فينيقيون(كنعانيون) ولغتهم هي الفينيقية. أي أضاعوا لغتهم وهويتهم القومية وأصبحت فقط حبر على ورق وهذا فعلاً شيئ مؤسف . ويقول الأختصاصي في علم الوراثة من الجامعة اللبنانية الأمريكية الدكتور( بيار زلوعا) إنه أجرى دراسة حول الجينات الوراثية للشعوب في سوريا ولبنان وفلسطين نشرت قبل أشهر وأثبتت ان السكان الذين ينتشرون على هذا الساحل المشرقي يحملون تقريباً الجينات نفسها. ويضيف أن نسبة تشابههم أكثر من نسبة اختلافهم . وكان زلوعا نشر في 2008 دراسات حول اصول الشعوب في الشرق الأوسط بيّنت وجود آثار من جينات فينيقية في الحمض الريبي النووي لـ30% على الاقل من اللبنانيين.
إذن في ختام حديثنا نقول:- أن اللغة تعد جزء لا يتجزأ من الثقافة والتاريخ، فهي الهوية والأمر المعنوي الذي يشير إلى الأنتماء والعرق .فلغتنا هي الوعاءُ الفكري لشعبنا والخزين المتبقي، وهي النبض الدائم للقيم الثقافية والأجتماعية. وأي أهمال لها أو ضُعفِها أوالأستغناء عنها أواستبدالها بلغة أخرى مكانها قد يؤدي إلى خلل في فكر أبنائنا وبناتنا والأجيال القادمة مما يؤثرعلى معتقداتهم وقيمهم العريقة.