المحرر موضوع: من ذكرياتي - معهد مار يوحنا الحبيب (2)  (زيارة 1077 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل شمعون كوسا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 200
    • مشاهدة الملف الشخصي
من ذكرياتي - معهد مار يوحنا الحبيب (2)
شمعون كوسا
اواصل هنا ما كنت قد بدأته عن مشواري الطويل في معهد مار يوحنا الحبيب . اليكم اذن اعترافاتي :
وبما انه كان عليّ القيام بنصف ساعة تأملٍ صباحَ كلّ يوم ، كنت اُنتهز فترة ذهابي وإيابي للكنيسة في ممارسة هذا النشاط الذهني ، وكانت الطبيعة بأكملها تؤازرني في توفير افكار واحاسيس تُشغل عقلي وعيوني وآذاني . ولكي أكون دقيقا امام الله والتاريخ ، يجب ان اقول باني كنت استقطع من الوقت المخصص للتأمل ، الدقائقَ التي أمضيها مُرغما  في إبعاد الكلاب الشرسة لخجه كوجى ، وإلهائها  بشتّى الطرق.
في السنة الثانية ، دخل السمنير من شقلاوا ، كلّ من يوحنا عبدالاحد ، الذي سيم كاهنا سنة 1970 وخدم بنجاح في شقلاوا وانتهى مقتولا بأيدٍ آثمة غادرة . ودخل معه أيضا حكمت بابير الذي استبدل اسمه بقسطنطين .
في السنين التي تلتها ، دخل المعهد من شقلاوا كلّ من خوران بولص وحبيب مربين وبعدهما دخل صليوا عزيز ونوري توما .
كانت تبدأ كآبتي اعتبارا من الاسبوع الاخير من العطلة الصيفية ، حيث كان يبدأ العدّ التنازلي لمغادرة شقلاوا باتّجاه الموصل . كان موسم الخريف يساعد على هذا الشعور ، فالثمار تهاجر تباعا اشجارها ، والعنب يترك الكروم ، والاوراق ، بعدما ينقطع عنها النسغ ، تصفرّ وتتساقط  يائسة باكية . كنت اقول في نفسي لقد حلّ زمن التهيّؤ للرحيل ومغادرة الهواء الرحب للدخول في علبة السردين . كان الوداع دوما احتفاليا مأساويا ومليئا بالدموع ، وكان كافة افراد العائلة يحضرون هذه اللحظات .
يوم  السفر، كان يضع جدي في جيبي مبلغ دينار ونصف والقس فرنسيس ايضا ، الذي كان يبيت عندنا عشية الرحيل ، كان يشارك بمثل هذا المبلغ ، وأخي يعقوب ايضا ، يمنحني مبلغا بسيطا . على اية حال ، لم أكن اصرف في المعهد اكثر من خمسة دنانير في السنة ، وجُلّ المبلغ كان يذهب لشراء بعض التقويّات والهدايا لتوزيعها في الصيف ، وايضا للمعايدات التي ارسلها للأهل والاصدقاء في مناسبتَي عيد الميلاد والقيامة.
كان نظام الدراسة في السمنير ينقسم الى ست سنوات للصغار وست اخرى للكبار. السنوات الستّ الاولى ، كان يُخصّص منها سنتان للمبتدئين الصغار،   وسنتان للمتوسطين ، وسنتان للكبار . كان الزيّ لهذه المرحلة زيّا مدنيا موحّدا.  في السنة الاولى كان التركيز على تعلم اللغة الفرنسية بشتّى السبل ، لأنه بعد مضيّ ثلاثة اشهر من دخول الطالب الى المعهد ، يُمنع عليه التحدث بغير الفرنسية وتحت طائلة عقاب . بجانب  الفرنسية كان يتابع الطالب دروسا للعربية والارامية واللاتينية والرياضيات والدين والعلوم الانسانية. وفي كل سنة يرتفع مستوى التعليم والتعمق في هذه المواد .
بعد اكمال مرحلة  الصغا ر ، كان  ينتقل الطالب الى مرحلة الكبار في ست سنوات عامرة اخرى . يرتدي السوتانة السوداء ، ويبدأ  بسنتين في دروس الفلسفة التي كانت تشمل تاريخ الفلسفة ، ومواد الميتافيزيقية والمنطق وعلم النفس وعلم الاجتماع ، لان الفلسفة دراسة لا بد منها لفهم اللاهوت . وكانت هناك دروس للكتاب المقدس  خلال سنوات اللاهوت الاربع . والدروس تُلقى باللغة الفرنسية من قبل آباء دومينيكان قادمين من فرنسا .
 مع ابتداء مرحلة الفلسفة ، يُكلف الطالب كل سنة،  بتحضير موعظة لإلقائها في صالة الطعام ، ظهرا بحضور الاكليريكيين صغاراً وكبارا . للعلم فقط ، كانت تتمّ وجبات طعامنا بصمت مطبق ، حيث كان الجميع ينصتون الى كتاب يقرأه احد الطلاب عن سيرة قديس او كتاب تاريخي او غيره  . فيما يخصني، أول موعظة كُلفتُ بها ، كانت عن زكّا العشار ، هيأ لي الموضوع باكمله القس فرنسيس ، وحفظته أنا على ظهر قلبي . كانت تستغرق الموعظة بين ربع ساعة الى عشرين دقيقة .
بلغتُ مرحلة الكبار ، اعني مرحلة ارتداء السوتانة ، وبدأت الجرأة تدبّ قليلا داخل نفسي ، ففكرت بترك المعهد . انتهزت فرصة زيارة القس فرنسيس الى المعهد وفاتحته بالموضوع . كانت دهشته قوية ، فاتاني بحديث طويل ومعمق  جعلني انبذ الفكرة .
كان ردّ القس فرنسيس مشروعا ونابعا من رغبته الشديدة في ان اصبح كاهنا واخدم بمعيته جماعة شقلاوا . كان يرتاح لي وهذا كان شعور متبادل بيننا ولحدّ اليوم . إني ارى فيه  كاهنا ذا شخصية قوية وروحية عميقة . انه طيب المعشر ، متجرد عن المادة ، محب للحياة وافراحها البريئة ، والصفة المهمة الاخرى  التي تشدّني اليه بصورة خاصة هي ثقافته الغزيرة . كان يطالع كثيرا في جميع الكتب والمجلات، خاصة الفرنسية ولديه قابلية حفظ مواضيعها وتواريخها بشكل دقيق. عندما يتناول القس فرنسيس الحديث في محفل ما ، كان الصمت يخيّم على الجميع لجني المنفعة ممّا يقول ، والالتذاذ بأسلوبه المرح والذكي .
بدأتُ بتطبيق برنامج جديد في حياتي الروحية ، تتمثل بكبح جمح الرفض الذي يملأ  نفسي ، وتعبئة الفراغ بالتأمل العميق والتفرغ الى السجود امام القربان وتلاوة الوردية وقراءة النصوص الروحية للقديسين الاوائل . ولكني كنت كالذي يُشعل نارا من هشيم تلتهب فترة ويعلو نارها وتشتد حرارتها ولكنها لا تقاوم طويلا فتخبو وتخمد. وبخمود النار يعود اليأس من جديد وبصورة اشدّ، واستمرت الحالة على هذا المنوال ، في اشعال نار لا يطول لهيبها كي يغدو هشيما  ، كنت اصل احيانا الى القمة كي اعود مرميا على حضيض بارد ، حيث الشعور بالضياع .
في الفترات التي كنت مشبّعا بالروحانيات ، كنت ابثّ حولي حالتي الروحية واتحدث مع الزملاء الاصغر مني سنّاً ، وكانوا يعجبون باندفاعي ويتحمسون لحماسي ويقتنعون بكلامي ويطلبون المزيد ، لذا كان لي الكثير من الاصدقاء الصغار .
انه من المؤسف جدا الاقرار باني لم اشعر يوما ، في قرارة نفسي ، باني سأنتهي كاهنا ،  ولم أقتنع البتّة بهذه الفكرة . بعد كل سنة كانت تقربني من الاجل المحتوم ، كنت احاول إرجاء التفكير في الموضوع لكي لا ابصر نهاية لا احبّها . كنت اعتقد بان الكهنوت التزام قاس لا مفرّ منه لمدى الحياة . أنا مِمّن يطبّقون ما هم مقتنعون به ، وينادون به عاليا ويعلنون بصراحة ما لم يفز بقناعتهم. كانت لي شكوك كثيرة  في ما كنت ادرسه ، كلام نظري جدا ، تناقضات واسئلة لا تجد لها جوابا . كانت لي أيضا ملاحظات واعتراضات على تصرفات اغلب  الكهنة ،  ولم اكن اقبل على نفسي ان اوضع في نفس السلة مع الكثير من الكهنة الذين اقرأ في باطنهم بانهم يهزؤون بمشاعر الناس ويضحكون على عقولهم . وهؤلاء هم كثيرون. كنت مقتنعا بانه سوف لن يكون بمقدوري معارضة هؤلاء  ، واذا اخترت السير ضد تيّارهم ، سوف يسحقوني لا محالة ،  لانهم يرون فيّ شخصاً  يضرّ بمصالحهم . لعلني كنت مبالغا في مثاليتي ولكني كنت هكذا .
بالنسبة لي ، لا توجد هناك حلول وَسَط  في اتّباع المسيح ، وان كلام المسيح واضح في هذا الشأن وفي اكثر من صفحة وفصل في دعوة تلاميذه للفقر،  والتجرد التّام ،  وترك كل شيء ، والتضحية ، ونكران الذات ، والتواضع لحدّ اعتبار انفسهم خداما وليس اسيادا. أين اخوتنا الان من هذا الكلام الصريح ؟!!
كنت استطيع تقبّل الكهنوت ، ولَكان الناس يستقبلوني بحرارة كبيرة ويحتفلون بيّ ، لرخامة صوتي وتفوقي الدراسي ، ولكني كنت بتصرفي هذا اصبح مناقضا لقناعاتي ومنافقا وغير صادق مع نفسي . وهذا ما لا اقوى على تحمله لان  الصوت الداخلي كان اقوى منّي . مما لا شك فيه ان لبعض الاشخاص قابلية الازدواجية  في التصرف ، واسكات ضميرهم وتوسيع آفاقه لفترة ما ، او لاجل غير مسمّى ، او لربما لمدى الحياة ، وهؤلاء هم احرار .  قد يكون افتقاري لهذه القابلية نقصا فيّ ، ولكني لم اشعر يوما ولحدّ اليوم بهذا النقص .  وللحديث سيكون بقية.

غير متصل شوكت توســـا

  • عضو مميز جدا
  • *****
  • مشاركة: 2231
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
رابي وصديقي العزيز شمعون كوسا المحترم
تحيه طيبه
تُشكر على  التزام تواصلك مع وعد استكمال حلقات ذكرياتك , فقد استبانت  في  الثانيه  جمالية السرد وغزارة صراحتك  مع نفسك أولا ثم مع المتلقي الذي وضعته امام خيارين , إما ان يعيش الازدواجيه في التنكر لحقيقته ليتعايش مع القلق والحرج , أو ان يكون جريئا في تسابق تقديم نفسه وقناعته كما هي دون رتوش ومن دون خلق التبريرات.
  انا واثق من انك ستزيد في الحلقه او الحلقات المقبله من جمالية فكرة اعتمادك على فلسفه الصراحه مع النفس ومع ما يحيط بها , تلك بلاشك هي قمة في الابداع والجرأه التي نستغربها نحن الشرقيون .
بصراحه أعجبتني كثيرا فقرة الاختتام التي زينت مقالكم , حين قلتم :
" كنت استطيع تقبل الكهنوت ولكان الناس يستقبلوني بحراره كبيره......ولكني كنت بتصرفي هذا اصبح مناقضا لقناعاتي ومنافقا وغير صادقا مع نفسي,  وهذا ما لا اقوى على تحملّه  لان الصوت الداخلي كان اقوى مني......الى نهاية الفقره"
احسنتم ,,, ليس في القول فحسب, انما في التطبيق وهذا افضل ما سيجنيه القارئ من اسلوبك وقناعاتك. عندما يصغي الانسان الى ما يختلج  في دواخله ,تُسلّم اقداره لمدى حيوية ضميره  التي تعكس الامن والطمأنينه  عند المقابل ,اي كلما طغت مفاعيل الضمير على ما تستهويه  غرائزية الانسان ورغائبيته , كلما ابدع في الابتعاد عن النفاق  والصدق مع الناس. 
حقيقة لا اود الاطاله اكثر  متمنيا لك دوام الصحه في استكمال تقديم الدرس لنا من خلال سردك المفتوح لذكرياتك.
شكرا لكم
وتقبلوا خالص تحياتي

غير متصل شمعون كوسـا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 219
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
أخي العزيز شوكت
اشكرك على متابتعتك الحثيثة لموضوعي هذا .
اخي شوكت ، كان يجب ان تخرج للعلن احداث عشتها وعاشت معي ، أحداث بقيت تتلاطم ، وبالرغم من الزمن الطويل لم تلذي مضى عليها  فانها لم تطاغوع رغبتي العارمة لاضمحلالها ورحيلها  تدريجيا ، بقيت ولم تتأثر بالزمن لانها لم تكن وليدة الساعة ولا صاحبة عمر صغير يقاس بايام او اشهر ولكنها كانت نتاج احدى عشرة سنة من العمر.
ساستمر بالسرد حسب توفر الوقت ، سيكون هناك سرد للوقائع تتخله مشاعر ومعاناة غير مرئية .
اشكرك ثانية وأملي ان اسمعك دوما كي اراك بعافية وسعادة .

متصل د.وعدالله عزيز

  • عضو فعال
  • **
  • مشاركة: 49
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
الاخ العزيز الشماس شمعون

قرات الجزئين الرائعين والسرد الجريئ وما دار في خلجات نفسك !! بالضبط هذا ما اصابني وراودني في السنوات الثلاث الاولى في معهد مار يوحنا الحبيب وانا في سن الطفولة ودخولي المعهد كان نذرا للعذراء مريم من قبل والدتي التي توفي لها ثلاثة اولاد وانا على راس سبع بنات!طبعا دون رغبة والدي وخواتي وحتى دون  رغبة مثلث الرحمات المطران بني انذاك ولكن اصرار والدتي !!...بعد ثلاث سنوات في المعهد علمت ان دراسات المعهد غير معترف بها من قبل وزارة التربية  وكذلك الحياة والانظمة الصارمة  فقررت ترك المعهد

والدتي الله يرحمها كانت بحزن لا يوصف....بينما والدي الله يرحمه واخواتي فرحوا كثيرا
علما بعد تركي المعهد بسنوات سمحوا للطلاب للدراسة خارج المعهد .....
هذه قصثي عزيزي شماس شمعون ذو الصوت الرخيم مشابهة نوعا ما بما تفضلت به

مع تحياتي القلبية للاب الفاضل فرنسيس شير والاب والاخ الفاضل حنا يكو

غير متصل شمعون كوسـا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 219
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
اخي وعدالله
قبل كل شئ اشكرك لمتابعة المقال ولمداخلتك التي اسعدتني . اقول : رحم الله والدتك وكلي امل بانها تعيش الان في نعيم الابدية .
اما فيما يخصني انا وكما قرأت كانت ارادة ابي ورغبة جدي التي جعلتني امضي هذه المدة الطويلة .
انا لا اود سرد يوم تركي المعهد وتوجهي الى شقلاوا لانه حديث مأساوي يدمي القلب فقط اذكر امي المندهشة وغير المصدقة كانت تقول للحاضرين ، لا تحزنزا لا شك ان شمعون يمزح .
شكرا لكلماتك الختامية اللطيفة وسوف انقل تحياتك الى القس فرنسيس شير .

غير متصل وليد حنا بيداويد

  • عضو مميز جدا
  • *****
  • مشاركة: 3051
    • مشاهدة الملف الشخصي
شماسنا القدير شمعون كوسا المحترم
بعد التحية
هذه هي المرة العاشرة وانا اكتب نصف تعليقي والكهرباء تنقطع وقررت الان ان اكتب بسرعة قبل ان تنطفئ الكهرباء للمرة العشرون.
اقول انه سرد جميل للواقع الذي عشته مخالفا لرغبتك والظروف التي خالفت الطبيعة الجميلة التي ترعرعت فيها بين احضان الجبال وصوت خرير الماء وبرودة الجو حيث الانتعاش وصفاء الطبيعة.
نعم ان ظروف المدينة صعبة وتكون اصعب عندما تفرض على الانسان فرضا ان يعيش فيها وتحت اجوائها اخص عندما تاتي دون رغبته الشخصية فالقبول بها  هو جزء من النضال ضد هذه الحياة الصعبة، ولكم لا تنسى شماسنا العزيز ان المسيحية لم تصل الينا الا وقد واجهت اعتى الظروف الصعبة،  بل كانت اصعب من الظروف التي مررت بها وكان المرحوم والدي في الدير برفقة المرحوم البطريرك روفائيل بيداويذ
 وترك الدير ليغادر الى لبنان وقبرص وكريت للعمل، وتركه للدير لربما وانا اقول على الارجح كانت بسبب الظروف الصعبة في الدير وعدم انسجام الظروف مع رغبته الشحصية.
احترامي