المحرر موضوع: ملتقى البحرين للحوار، لقاءٌ بين الشرق والغرب  (زيارة 375 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل لويس إقليمس

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 424
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
ملتقى البحرين للحوار، لقاءٌ بين الشرق والغرب
لويس إقليمس
بغداد، في 8 تشرين ثاني 2022
قد لا يشكل التواجد المسيحي في مملكة البحرين، شأنها شأن باقي دول الخليج هذه الأيام، سوى بضع مئاتٍ من المؤمنين من سكان البلاد الأصليين. ولكن إذا ما أُضيفت إليه أعداد الوافدين الأجانب، ولاسيّما من منطقة آسيا، فقد تصل أعدادُهم إلى ما يقارب 250 ألف مسيحي، منهم حوالي 80 ألف كاثوليكي، معظمهم من الوافدين من دول أسيوية من العاملين في مؤسسات ومتاجر المملكة، بحسب بيانات منشورة في بعض الوسائل والمواقع الإعلامية المعتمدة. ولكن الأكيد بحسب التاريخ، أن منطقة الخليج ومنها دولة البحرين كانت تزخر في سالف السنين قبل قدوم الإسلام إليها وانتشاره في شبه الجزيرة العربية، بجماعات تنتمي للمسيحية من قبائل عربية أصيلة حيث كان المذهب النسطوري راسخًا في هذه الأراضي أكثر من غيره. فكان لكنيسة البحرين أساقفة وقساوسة وشمامسة وكنائس عديدة وأديرة زاخرة عبر التاريخ. كما عرفت هذه البلاد وما جاورها من بلدان الخليج نوابغ ومشاهير في اللغة والشعر والزعامة. ففيها عرفت قبائل أصيلة مثل "تميم" و"تيم اللاّت" و"كلب" و"الأشعريون" و"تنوخ" و"ربيعة" و"مضر" و"قيس عيلان" من القحطانيين، و"عبد القيس" ومنها "تغلب" و"عنز" و"النمر بن ساقط" من العدنانيين وغيرهم كثير، كما تذكر بطون الكتب. وأترك الخوض في هذا المجال للمتخصصين لمزيدٍ من التبحّر في الأصول والأنساب. فما يعنينا في هذه المناسبة، شكل الانفتاح القائم في هذه الدولة الخليجية الصغيرة انطلاقًا من قيم التسامح الحاكمة في عموم دول المنطقة والرغبة المفتوحة لقياداتها الشبابية في تعزيز المزيد من قيم التعايش مع غيرها من دول وشعوب وأديان العالم باحترام وقبول متبادلين. فالبحرين تضمّ اليوم 18 كنيسة تمثلُ مختلف الطوائف المسيحية، وآخرُها كنيسة "سيدة العرب" الكاثوليكية التي افتتحت في 2021، وهي تمثل أكبر كنيسة في منطقة الخليج العربي.
في هذا السياق، وعبر الرحلة البابوية الخليجية المثيرة تحت لواء الحوار بين الأديان "الشرق والغرب من أجل التعايش الإنساني"، وتعزيزًا لفرص السلام بين الشعوب والأمم، شهد العالم أروع كرنفال حواريّ متجدّد لتفعيل مفهوم "الإخوة في الإنسانية"، الذي جرى توقيعُه بين بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر عام 2019 في دولة الإمارات العربية المتحدة. لقد نالت هذه المملكة الصغيرة شرف هذا اللقاء التاريخي الذي سيبقى في ذاكرة مواطنيها وشعوب المنطقة من حولها، دليلاً على سداد الخطى باتجاه الانفتاح والتسامح ونشر أدوات السلام والعون والتضامن بين الشعوب، مهما تعددت وتنوعت أديانُها وقومياتُها وألوانُ بشرتها. فالطريق إلى ملكوت الرب وجنان الخلد التي لا تزول ولا تفنى تبدأ انطلاقًا من قيم الاحترام والتسامح وأشكال التعاضد والتعاون والتضامن بين البشر على الأرض بانتظار مكافأة السماء الحقيقية المنطقية الراقية، ليس بأوقات المتع الحسية مع "الحوريات في الجنان التي تجري من تحتها الأنهار"، كما يطيب للبعض تصوّرها، بل في ملاقاة رب الأكوان باري السماوات والأرض والعناصر وجهًا لوجه وبقلوب صافية وأفكار صالحة وعقولٍ صحيحة غير مريضة لا مجال فيها للبس والخلط والتشويه في الحقائق بين ما في السماء وما على الأرض. فما يزرعه الإنسان من قيم الحياة المتزنة والفلَاح الحسن في الأرض ينالُ جزاءَه في السماء!
    ضمن هذه المفاهيم الصافية في الفكر والعقل والفلسفة واللاّهوت سعى بابا الفاتيكان ومعه أصحاب النوايا الطيبة من زعامات دول ورؤساء وممثلي سائر الأديان في العالم لتعزيز دور الأديان الحقيقي في المجتمعات أملاً في إيجاد أفضل الصيغ للتقارب بين شعوب الأرض وساكنيها وصولاً للتعايش الإنساني المقبول، ولو في أدنى صوره وأدواته، من خلال حثّ الزعامات السياسية والحزبية والمنظمات بأشكالها وتنوّعها كي تعي حجم المسؤولية الملقاة على عاتقها. فالزعيم الأفضل والرئيس الأحسن والقائد الفذ هو مَن اصطفَّ مع الشعب وحقوق الفقراء والمعوزين والمظلومين وفي خدمتهم. "مَن أرادَ أن يكون عظيمًا، فليكن لكم خادمًا" (مرقس 10:43). هذا كلام السيد المسيح للحواريين الذين كانوا يتنافسون ويتفكرون فيمن يكون متقدمًا على غيره. وهو ما نحتاجُه اليوم نهجًا جديدًا في ممارسة السلطة، الدينية منها والدنيوية ومنها السياسية أيضًا. فما يشهدُه العالم بسبب مكر الساسة والزعامات التي تبحث عن مصالحها الخاصة والحزبية والفئوية والمذهبية والطائفية كما في عراقنا المريض، بعيدٌ كل البعد عن هذا السياق الإنساني والاجتماعي والأخلاقي. والحق، عندما ينساق العقل البشري الضعيف إلى أشكال الكذب والخداع والنفاق والفساد في الأخلاق وفي وسائل العمل بسلوكٍ معوجّ وخاطئ، لا نتوقع من جرّاء كلّ هذا سوى نتائج سلبية مدمّرة للبشر والحجر والحرث والعرض والفكر والعقل، بل في كلّ المفاهيم والقيم والسلوكيات.
من هنا، سيخطّ التاريخ بمدادٍ من الذهب الخالص الأيام التي أمضاها قادة العالم السياسيّون والدينيّون في ضيافة البحرين وملكها، لتضافَ إلى أمنيات شعوب الأرض وأصحاب النوايا الطيبة بالعمل الجادّ والدؤوب لصيانة الحريّات الدينية وحرية المذاهب وممارسة المعتقدات والعبادات في كلّ بقاع الأرض من دون تهميش أو رفضٍ أو تمييزٍ أو استخفافٍ أو إهانة. فهي الطريق الموصل إلى منع كلّ أشكال العنف والكراهية والحقد التي تثيرها جهاتٌ مدسوسة ومتخمة بأدوات التشدّد والانغلاق التي لا تريد قبول الآخر المختلف وتجعل من ذاتها ومن فكرها ومن أيديولوجيتها ومن فلسفتها الدينية القاصرة المحصورة بين جدران "الأنا" الفظّة سبيلاً ووسيلة لفرض هذه المفاهيم الظلامية على الغير من دون مراعاة عظمة الله الخالق في خليقته التي أرادها حسنةً وجميلة مثل جماله الحسن جلّت قدرتُه! ومن ثمّ فالطعنُ في جمال خليقة الله والتمييز فيها يعني إلغاءً لدور وعظمة هذا الخالق الجبّار، وعدم الاعتراف بجماله وطيبته الكبيرة، وهو القادرُ على كلّ شيء!

بين البابا وشيخ الأزهر تاريخ راسخ من الحوار والاحترام
لقد كان لمشاركة بابا الكنيسة الكاثوليكية التي تُعدّ ما يقرب من 1,3 مليار مؤمن في العالم (من مجموع 2,4 مليار من المسيحيين في العالم بحسب إحصائيات تقريبية أخيرة)، أهميتُها بضرورة تعزيز مفهوم الحوار الإيجابي بين الأديان من خلال نبذ منطق "التعارض والتقاطع" في مفاهيم التعايش بين الشرق والغرب الذي يزيد من هشاشة التوازن بين الأمم والشعوب ويؤدي إلى النزاعات والحروب والاقتتال في أشكال "المواجهة السلبية بين الكتل المتعارضة" التي لا نفع منها. فقد تنبهت هذه الدولة الصغيرة في حجمها والكبيرة في وعيها لحجم المسؤولية الملقاة على عاتق قيادتها. فبحسب مصادر رسمية يرى مسؤولون حكوميون أن لا شيء أفضل من اللجوء إلى قيم الإصلاح في الحكم وفي معالجة التظلّمات وفق منظور المواطنة والعدالة والمساواة لكلّ يشعر بالغبن والظلم في الحقوق المواطنية.
    وهذا هو ذات النهج الذي تسير عليه قيادات العديد من دول الخليج في السنوات الأخيرة بعد انفتاحها على العالم وانتهاجها سبيل التفاهم والتسامح والمحبة وصولاً للسلام الذي يتمناه جميع ذوي الإرادة الصالحة. ففي واحدٍ من لقاءاته في مدرسة القلب الأقدس مع طلبة مدارس وجامعات في اليوم الثالث من زيارته، أشادَ قداستُه بما لمسه في هذا البلد الصغير من استعداد للحوار والتقاءٍ بين مختلف الديانات والثقافات. وهذا مفهومٌ جديدٌ دخل سياسة المنطقة وقياداتها الشابة بفضل الدعوات المتكرّرة من لدن بابوات الفاتيكان والمشايخ المنفتحة الداعية جميعُها للحوار والانفتاح والحداثة في التفسير والتأويل والعيش اليومي وفق الحياة المعاصرة ومتغيراتها المستجدّة ومشاكلها القائمة وصولاً لحالة الاستقرار والسلام والتعايش التي يتمناها الجميع. فالحياة تتطلب من الجميع التماهي الإيجابي مع المستجدّات وتبنّي كلّ ما هو صالح لخير الإنسانية. فهذه الأخيرة بحاجة لكلّ روحٍ جديدة تنبض بالحركة والإبداع والشجاعة ومواجهة النفس عبر اعتناق ما اسماها قداستُه "بثقافة الاهتمام التي تعني التعاطف مع الغير وفهم أفكارهم واهتماماتهم ومشاعرهم". كما أن "تعزيز هذه الثقافة ينعكس بالتالي على تعزيز الأخوّة في المجتمعات". إنه حديث الرجال الحقيقيين والرعاة الصالحين عندما يجري استخدام العقل والروية والفكر الناضج والمنهج الصحيح في قيادة الرعايا بحكمة وعقل مستنيرين وانفتاح مقبول ومتزن وفق متغيرات الحياة الإيجابية ومن دون التضحية بأساسيات الأخلاق الدينية. فالشرع والمعتقد في أية ديانة لا يمكنهما العيش في كواليس التشدّد في الحرفيات والتحجّر في العقليات والانغلاق على الذات لكون هذه لا تبني الإنسان القويم ولا تشهد لحق الخالق في خليقته التي أرادها صورة جميلة وحسنة وطيبة في كل مسالك الحياة القصيرة على الفانية. فيما أدوات التسامح والانفتاح ومفاتيح الرحمة والمحبة التي لا حدود لها كفيلة بخلق مجتمعات إيجابية في سلوكياتها، صحيحة في توجهاتها، وصائبة في خياراتها الإنسانية والاجتماعية بكلّ ما تعنيه هذه من مفردات الخُلق العظيم التي توصي بها جميع الأديان بلا استثناء.
 أمّا اللقاء الذي جمعه يوم الجمعة 4 تشرين ثاني 2002، بشيخ الأزهر أحمد الطيب في ملتقى حوار الأديان، فقد أعاد إلى الأذهان أول لقاء تاريخيّ معاصر ونادرٍ لقائدين لأكبر تجمّعين دينيّين في العالم حينما وقّعا على وثيقة "الأخوّة الإنسانية" في دولة الإمارات العربية المتحدة في 2019. لقد أجمع الجميع منذ أول لقاء للشيخين الوقورين في دولة الإمارات في 2019، على أن سعادة الإنسانية وبقاءها وازدهارَها وتجدّدَها يكمن في تعزيز قيم الأخوّة الإنسانية عبر إبداعات وابتكارات الطيبين من محبي السلام وطالبي الرحمة الإلهية. وهذا ما سعى إلى تعزيزه ملتقى البحرين الأخير للحوار "الشرق والغرب من أجل التعايش الإنساني". بل إن هذه الوثيقة أضحت "أنموذجًا ونهجًا يمثلُ أساسًا للبناء من أجل السلام والوئام والاحترام المتبادل والتسامح بين الناس" كما وصفها شيخ الأزهر، رئيس حكماء المسلمين، داعيًا إلى استثمارها لتحويل حوار الأديان إلى واقع عمليّ لصالح الأرض المتعبة بالفساد والتخريب البيئي والبشرية المعذّبة بسبب طغيان الساسة والزعامات. ومن أجمل ما اقترحه سماحتُه، "حلول الثقافة محل السياسة" في العلاقات الدولية، لما للثقافة من قدرة على فهم الإنسان واستيعاب أبعاده المتعددة جسدًا وروحًا وعقلاً ووجدانًا.
ختمَ بابا الفاتيكان يوم الأحد 6 تشرين ثاني 2022، زيارتَه إلى البحرين التي استمرّت أربعة أيام بالصلاة من أجل الشعوب "المتألمة" في منطقة الشرق الأوسط. وهو يعي ما تعنيه هذه الالتفاتة الأبوية الكريمة عقب تجديده الرغبة الصادقة للكنيسة بتواصل وسائل الحوار بين الإسلام والمسيحية، وبين هاتين الديانتين مع سائر الأديان الأخرى في العالم، وذلك انطلاقًا من الاحترام المتبادل بينها جميعًا. ففي كلّ مناسبة يأتي تجديد هذا المفهوم الإنسانيّ الذي أصبح يشكلُ الدعامة الأساسية لحياة أفضل لشعوب الأرض ومنارًا لقادتها وزعاماتها بضرورة احترام حقوق جميع البشر، مهما كانت عقائدُهم وأديانُهم ومذاهبُهم وحتى "لادينيّةَ" البعض أو "لا أدريتَهم" الناجمة عن عدم مبالاة بالقيم الدينية والمعتقداتية انطلاقًا من إنكار قداسة الأديان وعدم تعبيرها عن حقيقة مطلقة بالنسبة لبعض هؤلاء. فالمنظومة الفكرية لهذه الفئة الأخيرة لا تقبل الإقرار بمرجعية دينية بشرية. وهذا حقٌ مكفول لها انطلاقًا من حرية الفكر والعقيدة، بالرغم من انتقادنا لشكل هذه الفلسفة الرائجة في الغرب هذه السنين.
 أخيرًا، نتوسم خيرًا بعد ختام الملتقى وصولاً لنجاة البشرية التي تعيش هذه الأيام حربًا شرسة بين دولتين جارتين مستقلتين يُخشى إيصال البشرية بسببهما إلى شفير الهاوية نظرًا لشكل التوازن الهشّ الذي تعيشه منطقة الحرب الضروس بين كلّ من روسيا وأوكرانيا. وتبقى وثيقة الأخوّة الإنسانية خير بادرة لخلق أشكال التوازن الإيجابي بين دول العالم للقاء مثمر بين الشرق والغرب بدلاً من التقاطع والتخالف والتناحر والمواجهة. وهي الكفيلة بإيقاف دعم كلّ الحركات الإرهابية وأشكال العنف التي تقوم بها جهات متشدّدة دينيًا ومنغلقة فكريًا ورافضة لأي مختلف عنها في الدّين والإيديولوجا والنهج والمصلحة. فطريق اللقاء والحوار الذي رسمته الوثيقة التاريخية يبقى الخيار الأفضل لأسس الحوار والتقارب من أجل مصلحة البشرية جمعاء!