المحرر موضوع: ليست زلة لسان. إنها بارجة من اللعنات  (زيارة 648 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Janan Kawaja

  • اداري
  • عضو مميز متقدم
  • ***
  • مشاركة: 31448
    • مشاهدة الملف الشخصي
ليست زلة لسان. إنها بارجة من اللعنات
الفلوجة لا تزال وستظل مهيمنة على العقل السياسي الأميركي.
MEO

"الجيش الأميركي مر من هنا"
ينوي الجيش الأميركي بناء بارجة حربية بكلفة 2.4 مليار دولار ويسميها "فلوجة" تخليدا لانتصاره على المدينة العراقية. قبل الإعلان عن ذلك الخبر كان الرئيس الأميركي جو بايدن قد قال في معرض تعليقه على انسحب الجيش الروسي من إحدى المدن الأوكرانية "السياق الآن يتمثل في إذا كانوا ينسحبون من الفلوجة... أقصد خيرسون، مدينة خيرسون".

الفلوجة العراقية لا تزال في عقل الأميركي وعلى طرف لسانه عالقة مثل فايروس. مرض لن يتمكن راعي البقر من القفز عليه أو تخطيه إلا بطريقة مقننة. العقل والقلب الأميركيان لا يزالان مقيمين في جرح الفلوجة. المدينة الصغيرة التي هُزمت. المدينة التي انتصرت على النسيان. وهي المدينة التي استقبل سكانها جيش الإحتلال بالأحذية المنزلية. تلك صورة ينبغي أن تحتل مكانا بارزا في ذاكرة تاريخ المقاومة في العالم. فالفلوجة دخلت حربين في عام واحد هو 2004 ضد جيش الإحتلال الذي لصغر عقول قادته أراد أن يخرج منتصرا على مدينة دفنت قتلاها في الحدائق المنزلية.

لقد هزمت الفلوجة الأميركان. ليست مزحة. تلك فيتنام صغيرة. لطالما فكر الأميركان في عارهم في فيتنام. لذلك فقد خططوا ألا يكون العراق فيتنام أخرى لولا أنهم أخطأوا في الفلوجة.

صحيح أن حجم الإستفزاز كان ضاغطا بقوة بالنسبة لدولة عظمى مثل الولايات المتحدة حين علق الفلوجيون أربعة من عناصر الشركة الأمنية المتعاونة مع جيش الاحتلال "بلاك ووتر" على الجسر المؤدي إلى الحبانية غير أن الدولة العظمى تلك لم تكن في كامل عقلها حين قررت الانتقام وكأنها تريد فيتناما أخرى. وهو ما صنعته حين استعمل جيشها الفسفور الأبيض وهو سلاح محرم في حربه ضد مدينة صغيرة كانت دائما منسية. 

في اتجاهين ينبغي قراءة المسألة. كانت هناك جريمة أميركية في حق شعب يدافع عن حريته وكان هناك شعب أدرك في وقت مبكر أن في إمكانه أن يوقع الغزاة في المصيدة. وهي مصيدة لن يفر منها حتى وإن خرج منها جيشه منتصرا. 

على غرار "هيروشيما حبيبتي" رواية وفيلم الفرنسية مارغريت دوراس يُمكن أن يُقال "الفلوجة حبيبتي". لقد ضُربت المدينة اليابانية في نهاية الحرب العالمية الثانية لكي تكون أثرا يحتل حيزا عظيما في سيرة الوجع الإنساني، دشنت من خلاله الولايات المتحدة مستقبل سياساتها العدوانية في وضع العالم تحت سيطرتها. أما في الفلوجة فإنها وضعت حجر الأساس لفكرتها عن عراق سيظل خاضعا لإحتلالها حتى بعد أن تسحب الجزء الأكبر من جيشها من أراضي ذلك البلد المدمر.

كانت هناك رغبة مذعورة في محو الفلوجة، بشرا وحجرا لكي تكون الأرض الخراب حسب تعبير ت. س. اليوت مجرد لافتة يُكتب عليها "الجيش الأميركي مر من هنا". متحف خيالي للعنف. فالقنابل التي سقطت على الفلوجة والأسلحة النوعية التي استعملت ما كانت لتبقي حجرا على حجر ناهيك عن الإنسان الذي لن يُسمع له صوت بعد تلك الكارثة.

غير أن الفلوجة قاومت ولم تسقط في الأيام التي تم تجهيز الجيش الأميركي لخوض حرب سريعة فيها. لم تستسلم المدينة بالرغم من أنها شارفت على الموت أو اجتازته لتقاوم من خلاله. وهو ما جعل من معجزتها مزيجا من الموت والحياة. وفي الحالين ظلت موجودة لتنتصر. زلة لسان الرئيس الأميركي كشفت عن أن الفلوجة لا تزال وستظل مهيمنة على العقل السياسي الأميركي مثل لعنة ولا مجال هنا للحديث عن الضمير الأميركي الذي غالبا ما ينسحب في الأوقات الحرجة.   

لم تنج الفلوجة من القتل والخراب. غير أنها وضعت الإنسانية كلها (ليس المقصود هنا المجتمع الدولي) في مواجهة عذابها. كانت هناك مدينة هي أشبه بمسيح يُصلب وحسين يُقتل وجان دارك تُعدم. وبكل ما يملكون من أذرع ومنصات إعلامية سعى الأميركيون إلى إستدراك خطيئتهم ولكن النهاية الرمزية كانت قد عصفت بهم. خسروا حربهم في العراق حين عصفت بهم الفلوجة. وهي اقل من مدينة وأكبر من أسطورة.

كان من الممكن نسيان زلة لسان الرئيس الأميركي لولا أن بناء بارجة لتخليد "الانتصار" الأميركي على الفلوجة جاء الصلف الذي يتعامل الأميركان من خلاله مع تاريخ قرروا أن يكتبوه بطريقة بلهاء فيها الكثير من الغباء والاستخفاف بالحقيقة التي تدينهم. فبقدر ما أسقط الأميركان من قنابلهم المحرمة على الفلوجة، بقدر ما خلفوه من أطفال مشوهين في السنوات التي تلت انتصارهم بقدر ما ارتفعوا بالمدينة المنسية أسبابا للخلود.