المحرر موضوع: من ذكريات مار يوحنا الحبيب - 5  (زيارة 744 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل شمعون كوسا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 200
    • مشاهدة الملف الشخصي
من ذكريات مار يوحنا الحبيب - 5
شمعون كوسا

ويتابع صاحب الذكريات ويقول :
من ضمن من درّسونا أيضا في قسم الصغار ، فاتني ان أذكر القس إلياس صقّال الذي درسنا الرياضيات لفترة قصيرة ، وخلفه بعد ذلك معلم مدني يُدعى إلياس سمحيري من بعشيقة . رجل ضعيف البنية، عابس الوجه، ولكنه شديد التقوى ، بحيث انه كلما كان يعود من تناول القربان ، كنت تشاهده وعيونه قد اغرورقت بالدموع . كان عصبيّ المزاج في التعليم وله عبارات ساخرة يُطلقها بعفوية على أغلب الطلاب لا سيما الذين لم يُصيبوا في اجوبتهم ، فعلى سبيل المثال قال لاحد الطلاب : (شوف شلون دَيبلع  ريقو ، عبالك شيره مال عسل ) ما معناه بالفصحى : انظروا إليه كيف يبتلع ريقه وكأنه يلتهم عسلاً !!!. هذا الطالب كاهن متقاعد الان،  وسيعرف نفسه اذا قرأ هذه السطور .
في الساعة الثانية عشرة والنصف كان موعد غدائنا. كنا نتوجه  مصطفّين بصمت عميق الى غرفة الطعام. كل طالب يتوجه الى  مقعده المعهود . كنا نتناول الطعام بصمت ، وآذاننا صاغية  لاحد التلاميذ المكلفين بقراءة كتاب تاريخي ، او عن حياة قديس ، او موضوع روحي آخر.  يتمّ التناوب على قراءة الكتاب خلال وجبات الطعام ظهراً ومساء. أثناء القراءة إذا أخطأ القارئ ، نحوياً او لفظياً ، يتمّ تنبيهه  برنة جرس ، كي يتصحّح الخطأ . كان القس البير ابونا يتولى الامر اذا كان الكتاب عربيا ، والاب جوزيف اومى اذا كانت القراءة  فرنسية .
في السنوات الاولى من المعهد ، كان صوم الاربعين مرهقا ، لانه  كان يقضي بالانقطاع التامّ من اللحم طيلة فترة الصوم. فكان يُعوّض عنه بالتمر المقلي مع البيض لأيام الآحاد . اما ايام الجمعة ، فكانت الاطعمة عبارة عن مزيج من القرع الاحمر مع التمر المسلوق ومنتجات اخرى عبثاً تسعى الى فتح شهيتنا . وبما اني لا زلت في  غرفة الطعام ، احب المرور على  فقرة الفاكهة بعد الاكل . كانوا يأتونا احيانا ، لاختتام الاكل ،  بنصف رأس خسّ لكل طالب .  تصور الصوت الذي كان يحدثه أكل الخس من قبل ستين او سبعين شخصا في آن واحد و في جوّ صامت . كان الموقف ، ومن دون تشبيه ، لا يختلف كثيرا عن صوت يصدره بعض انواع اخوتنا الدواب عند التهامهم للعلف  مثلا  !!!!! 
وهنا اخرج من غرفة الطعام منتقلا الى فصل آخر . في بداية كل سنة وعند العودة من العطلة الصيفية ، كانت هناك رياضة روحية تستغرق ثلاثة ايام لقسم الصغار ، وسبعة ايام للكبار،  لابسي السوتانة السوداء . كانت تبدأ هذه الايام بالقداس الصباحي وتعقبه المحاضرات الروحية ، وأوقات تأمل ، وقراءات الانجيل أو الكتب الروحية  الاخرى . كانت تتّسم هذه الرياضة بالصمت المطبق الكامل الذي يُفرض على قسم الكبار . كنا نخرج من الايام السبعة  وكأننا  نفيق من سبات عميق استغرق فترة طويلة جدا. عند نهاية الرياضة الروحية كنّا نرى انفسنا وكأنّنا في عالم آخر ، والبعض منّا كان يشكّ في مقدرته على استعادة النطق بعد هذا الصمت !!! كانت الرياضة فترة صعبة جدا. ولكنها كانت تعتبر فترة فحص ذاتي ، ورجوع الى النفس بغية تنقيتها من أدران ما علِقَ بها في الحياة الدنيوية اثناء  العطلة الصيفية ، 
في كل يوم اربعاء من رأس الشهر ، كانت لنا ساعة تأمل في الموت ، وهذا كان يجري في فترة بعد الظهر بعد الغداء مباشرة . كان وقتا صعبا جدا لكون الدورة الدموية منشغلة في عملية الهضم . كان الاب جوزيف مدير المعهد هو الذي يقرأ موضوع التأمل الذي يبدأ بهذه الجملة  : تأمل الان نفسك ماثلا امام الله بعد الموت ، وبأنه عليك الاجابة عن كل ما فعلته في حياتك . كان على المتأمُل ، اذن ، المضي في التفكير على هذا المنوال لمدة ساعة . شخصيا لم اكن استسيغ هذا النشاط  . كنت اقول : أين نحن والموت لا سيما الصغار منُا ، وبأي شئ يلوم نفسه الشاب الصغير كي يتوجه بهذا العمر الى ديّان صارم كي يقرر مصيره ، إمّا باتجاه  النار او في الملكوت . كان موقفا كئيبا جدا . 
كان لنا نزهات اسبوعية وايضا شهرية . في سفراتنا الشهرية كنا نتوجه كثيرا الى دير مار بهنام ، وفي بعض الاحيان الى دير مار كوركيس او دير ما اوراها . وفي عودتنا كنا نعرّج على احد اديرة الراهبات القريبة من موضع سفرتنا، واقصد هنا الراهبات الكاترينات اللواتي يُعتبرن الفرع النسوي للرهبنة الدومينيكية . كنا نحتسي عندهنّ الشاي مع بعض الكليجة او الجبن او ما شابه . في ذلك الحين كان الخوري أفرام عبدال مديرا لدير مار بهنام ،  وخلفه فيما بعد القس بطرس شيتو ، ومن بعده القس فرنسيس جحولا ، والثلاثة هم الان في عِداد مَن مثلوا أمام الديّان .
كنا نستحمّ يوم السبت من كل اسبوع . المدة التي يستغرقها الطالب محددة  بربع ساعة . والتوقيت هذا لم يكن يحتاج الى جرس او مراقب ، لأنّ ساعة الاباء الدومينيكان الشهيرة هي التي كانت تتولى الامر برنتّها كل ربع ساعة ، وكانت رنّتها  مسموعة من الحارات القريبة  من الدير وحتى البعيدة . وبالنسبة لنا ، كنا قريبين جدا من دير الاباء الدومينيكان . كان يستلم كل طالب ملابسه النظيفة في كيس يحمل رقمه ، ويودع المتسخة منها في نفس الكيس .
أسعد أيام المعهد كانت يومي عيد مار يوحنا الحبيب ، شفيع المعهد ، ومار يوسف ، شفيع مدير المعهد . كان يهيئ المعهد لهاتين المناسبتين ، ولا سيما لعيد مار يوسف ، الكثير من الفعاليات ، عبر المنشورات والكلمات والقصائد والتمثيليات والاغاني . لقد ساهمت انا شخصيا مع الاخرين في تلحين بعض هذه الاهازيج والاغاني ، ولقد أديت بعضها  بحنجرتي المتواضعة .
كانت المناسبتان تتسمان بالأطعمة الشهية التي كانت تملأ الموائد عند وجبة الغداء. كان يحقّ لنا شرب قدح صغير من الخمر المعتق ، وفي بعض السنوات بلغ التساهل حدّ عرض سيجارة لمن يرغب في التدخين ، وانا كنت من ضمن هؤلاء . كنت ادخن السيجارة بنهم واستنشق دخانها بنفس عميق ، غير ان هذه العادة الحميدة اختفت بعد سنوات ، جراء تصرفات بعض التلاميذ الذين كانوا يُلزمون اهاليَهم على توفير التبغ لهم خلال العطلة  الصيفية ، زاعمين بان المعهد كان يُرغمهم على التدخين . ممّا حدا بالمدير الى اتخاذ قرار  يمنع السيجارة.
على ذكر السيجاير ، كنتُ ادخن قليلا في فترة العطلة الصيفية ، وفي احدى السنوات ، وبالرغم من منعها في المعهد ، اصطحبت  معي علبة سيجاير بغداد . في احدى الليالي الطويلة ، تذكرت السيجارة واشتهيتها ، فتوجهت  في الليل الى حيث يتوجه الملك لوحده  ودخنت سيجارتين . كان فكري منشغلا  ولم أتحمل تقريع الضمير ، ولم أرتح الا عند التوجه منذ الصباح الباكر الى غرفة المدير للإقرار بما فعلته ،   وبعدها رميت ما كان متبقيا من العلبة ، لكي لا ادخل في التجربة واعود الى تقريع ضمير ثان .
اتوقف هنا في سرد هذه الطفائف المأخوذة من هنا وهناك، ولي غيرها للراغب في التلذذ بهذه الامور البسيطة .



غير متصل وليد حنا بيداويد

  • عضو مميز جدا
  • *****
  • مشاركة: 3064
    • مشاهدة الملف الشخصي
رد: من ذكريات مار يوحنا الحبيب - 5
« رد #1 في: 20:19 05/01/2023 »
ميوقرا شمعون كوسا
شلاما دمارن
اتخيل كم كانت الظروف الدراسية في المعهد صعبه بحيث ان الاكل كان دون المستويات الصحية المطلوبة لان يكون الطالب في اعمار الطلبة الصغار في المعهد قادرين على مواصلة الدراسة بوجود تغذية جيدة
اتذكر وانا طفل صغير في الصف الاول والثاني الابتدائي كان مدير مدرستنا في عنكاوا المرحوم لوقا دميانوس كاكا (لوقا افندي) شديدا لا يضحك وكان انسانا مؤمنا جدا لا يقبل ان يغيب اي طالب عن صلاة الرمش والاحاد
نعم كانت الكثير من المفاهيم الروحية تختلف حينها وكانت الشدة وعقاب النفس وتحريمها احد بنود فلسفة تلك المرحلة انسجمت من ظروف تلك المرحلة القاسية، ان يكون الصوم انقطاعا كليا عن اللحم وكأن اللحم هو سبب بلاء الانسان وليس قلبه ولسانه وتفكيره
الكثير من تلك المفاهيم كانت شديدة ادت الى تسرب الكثير من طلاب المعهد. 
احتراماتي

غير متصل شمعون كوسـا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 219
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
رد: من ذكريات مار يوحنا الحبيب - 5
« رد #2 في: 13:41 06/01/2023 »
اخي وليد
اشكرك على تواصلتك معي . على ذكر لوقا افندي ، اعرفه منذ صغري لانه كان يأتي باستمرار الى شقلاوا للاصطياف وكان له معرف كثيرة . واعرفه ايضا من خلال ابنه توفيق الذي كان زميلا في معهد مار يوحنا الحبيب . وانا اتذكر مثلك معلما من اهل عينكاوة عندما كنت صغيرا وهو هرمز كوندا (هرمز افندي) ، كان يعلمنا الدين والكلدانية ويتابعنا في كافة الفروض الكنسية  .نعم كانت حياة معهد مار يوحنا الحبيب صعبة جدا في بعض نواحيها ولكنها تفيد الانسان من حيث لا يدري لانه لحد اليوم ، وفي عمري هذا ، اقوم بغسل رأس في الشتاء بالماء البارد ، وهذا ما كنا نفعله هناك في ذلك الزمان وماؤنا كان ينزل من فوق السطوح . حفظك الله