أسمالُ عيد) قصيدة الشاعرة مها اسماعيل ملحم، وسعة التحليق بين أجناس الأدب الأخرى.
كتابة : فهد عنتر الدوخي.
==============
أسمالُ عيد)
................
عيدٌ مضى، فيهِ الحياةُ قِفارُ
لا نبضَ فيهِ ولا كؤوسَ تُدارُ
وكأنّ مجْمعَ راحتيهِ منَ الشقا
والناسُ من أوصابها تنهارُ
عنتِ الوجوه لربّها تشكو له
ضيقَ النفوسِ وكمْ علتْ أكدارُ
وحيٌ منَ الرحمنِ جاءَ مُخاطباً
ذا منْ رمادِ صنيعِكمْ إنذارُ
قطّعْتمو أسبابَ رحمةِ خالقٍ
وجعلتمو جحرَ الظلامِ يُزارُ
وأكلْتمو مالَ اليتيمِ لحفظهِ
لكنّه لذنوبِكم قنطارُ
إحسانُكم كِبرٌ وفعلٌ ناقصٌ
إيمانُكم في لغوِكمْ إتجارُ
تتساءلون عنِ العناءِ بغصةٍ
والسؤْلُ من أفعالِكم يحتارُ
أَسُقيْتمو من ماءِ برهوتَ الذي
أطغاكمو ، فتعامتِ الأبصارُ ؟!
الحقّ نادى والرجاءُ لثلّةٍ
تدعو لربٍّ والقلوبُ تنارُ
والصفْحُ يُرجى والرجوعُ فضيلةٌ
تنبيكمو بالرحْمةِ الأقدارُ .
===================
مها اسماعيل ملحم..
................
من المسلم به أن الموهبة لدى الإنسان هي القدرة على فعل مميز جميل نافع في بيئته التي تحتضنه، وعندما تتوفر سعة الانطلاق نحو آفاق عالية فإن ادراك قيمة الأشياء تندرج تحت وعي الإنسان ومواصلة سعيه المحموم لإثبات أحقية تفوقه عن المخلوقات الأخرى، وما عرف عن فلسفة الكلام ما توارثته الأمم القديمة وحتى ظهور تقنيات النشر المذهلة السريعة أن الشعر كجنس أدبي مستقل مازال يشكل لسان حال رقي هذه الأمم مع فنون الأدب الأخرى التقليدية المعروفة، لذلك نرى أن العناية به والإحتفاء بمضامينه التربوية والإنسانية والإبداعية يعد عملا متفوقا تفخر به الأمم وتقيم له الأفراد ملتقيات وتوقره الأنفس بتوثيق واضح على صفحات التاريخ، يلبى تطور الحياة ومواجهة متغيرات العولمة والتواصل الإلكتروني السريع، مادفعني، وأنا أقرأ لزميلتي الشاعرة القديرة الأستاذة (مها اسماعيل ملحم)، قصيدة (اسمال عيد)، جعلني اسوق هذه المقدمة ألمتواضعة عن الشعر، كروح تلازم الجسد، وعنوان يعبر عن فحوى الرسالة، وكما ورثنا صورا جميلة ساحرة ومدهشة لشعراء عاشوا زمن الجاهلية وقد صورا الزمن والأحداث والأفكار والعلاقات العامة والظروف الإجتماعية والبيئة التي كانت تسور أحلامهم وتطلعاتهم وعلاقتهم بالعلوم الأخرى وما اكتسبت ابحاثهم في تحليقهم نحو مصادر الثقافة الإنسانية للأمم الأخرى، أضع مقدمة هذه القصيدة (العمودية) التي أتقنت بنيتها وشروطها الذاتية كنتاج يؤكد صلته بالماضي المشرق للكلمة والجملة والمقال والقصيدة،
(عيدٌ مضى، فيهِ الحياةُ قِفارُ
لا نبضَ فيهِ ولا كؤوسَ تُدارُ)...
لو نتوغل بين تضاريس هذا المشهد لوجدنا ان السيناريو الذي اعدته لنا الشاعرة مها الملحم يواكب (متغير حياتي صعب) وينقل للملتقي حدثا واقعا وثق في سجلات الكلام بصيغته الوصفية التقليدية، وعلى المحلل لهذا الإستدراك ان يجد العلاقة الفلسفية بين ثقافة الشاعرة وما تؤمن به أن القصيدة هي إحدى أدوات التعبير عن هموم الإنسان وما تجول به النفس من آمال ومقاصد والتي مازالت تلعب ذات الدور الإنساني التي اتسمت به منذ ولادة حروف قصيدة المتنبي (عيد بأي حال عدت ياعيد)، لذلك نقول إن الشاعرة بقدرتها الإبداعية وجمال رسمها لكينونة القصيدة وتواصلها مع الهموم الإنسانية تؤكد صحة اتجاهها نحو الحفاظ على هوية القصيدة التقليدية القديمة وكما أشرنا في مناسبات ماضية أن هذا الفن الصعب المراس بعناصره التقليدية المشروطة مازال يسير في ركب الإيقاع الموسيقي المتقن وتوازن كلماته واضماماته المنهجية التي عهدناها في بحور الشعر رغم تداعي الازمنة، والتي تنظم بموجبها القصيدة العمودية ، في الشطر ، والعجز، وتنسيق الحروف وميزتها القافية التي تسحر القلوب،
(عنتِ الوجوه لربّها تشكو له
ضيقَ النفوسِ وكمْ علتْ أكدارُ
وحيٌ منَ الرحمنِ جاءَ مُخاطباً
ذا منْ رمادِ صنيعِكمْ إنذارُ).
في هذا الانثيال اللغوي المحكم نجد ان المتلقي يستطيع فك شفرة الخطاب برؤى سهلة دون إن يشغل نفسه بتأويلها، وهنالك سمة بديهية لمقاصد القصيدة ودلالاتها يدركها المتلقي ويتمتع بها، لكن ليس على حساب تأويلات القصيدة الحرة ما قدمته الحداثة لها، الأمر الذي جعل القصيدة الموزونة القديمة إشارة حضارية لعمق وغزارة القاموس العربي النحوي واللغوي، لذلك من تسعفه موهبته وسعة الذكاء التي تزين روحه واكتسابه للمعارف الأخرى وهو يسير في هذا الركب يجعله مميزا بسعة تحليقه بين الأجناس الأخرى من الأدب، مبارك لشاعرتنا الأنيقة الأستاذة مها اسماعيل ملحم، قدرتها الفائقة في أحياء منظومة الكلمة الطيبة، والقصيدة العربية مصدر الفخر والمجد لنا جميعا...