اجتماعيات > التعازي

ذكرى عابرة

(1/1)

كريم إينا:
ذكرى عابرة
كريم إينا

  في نوفمبر 1961 تلك الليلة المشؤومة التي دخل بها الأعداء إلى حياتنا، وحدث بها ما لم يكن بالحسبان، أنا سلوى صاحبة ثلاثة عشرة عاما فقدتُ أمي وأبي من كانا يلونا حياتي، في تلك الليلة  لم أكن وحدي بل الآلاف من الذين في مدينتي فارقوا أحبائهم، كنت إعتقدتُ قبل تلك الليلة بأنني محظوظة لإمتلاكي أب وأم يحباني حبّاً جماً، في ذلك اليوم كان أبي واخيرا بعد أربع سنين متواصلة من العمل أنهى إصلاح واجهة منزلنا، ولكن بعد سبع دقائق سريعة مرت شوهت منزلنا ألف رصاصة، إحداهم إخترقت رأس أبي فسقط من طوله ولم ينطق ببنت شفة، وصدر أمي كان يحضنني لكي لا أصيب بسوء، ليتني أنا كنت أحميهم، وليشهد الله أنّنا كنا أطيب من أن نؤذي أو نجرح أو نخيب ظن أحد، لكن واقعنا الأليم هذا ظلمنا كثيراً وها أنا اليوم صاحبة العشرين عاماً، جالسة أمام المدفأة التي مهما إشتدت نيرانها لن تعوضني حنان الأب والأم، لكنّ رعاية الله لطفت بي رغم كلّ الصعاب والآلام التي واجهتها في الماضي، وقد خففها عنّي جدي الطاعن في السن، وهو الفرد الوحيد المتبقي من عائلتنا، بعد إنتهاء الحرب الدامية، كانت النهاية ولكن هذه ليست البداية، كلّ شي بدا سراب، عندما راودني ذلك الحلم الذي به أيقنت بالمعجزات، إستيقظت في الثالثة فجراً على صوت الرعد الصاعق، الذي كان يشبه تماماً أصوات القنابل في مدينتي المفقودة، كانت كل أجزاء جسمي تؤلمني، وكأنّني لم أكن نائمة وإنّما في حرب شنيعة أنظرهنا وهناك لعلي أجد شخصا يقول لي سلوى لا باس لا داع للخوف، كما كانت تفعل أمي قبل وفاتها، لكن لا لم أجد، كنت كغريق أخرس ألوح بيدي لأعمى، كنت قد قررت من فترة بأنّي سأستسلم للأفكار، وأترك دراستي وكل شي لأنّه لم يعد لحياتي معنى بعد وفاة والدي، كان الماضي يطاردني في كل خطوة من حياتي إنسدت على سريري وأنا غارقة ببحر من الأفكار، متى سأفعل هذا الشي؟، وأترك كلّ شي، لم أكن أدري أي درب أسلك لم أكن من أولئك الذين يصرخون ويبكون بصوت عال، عيبي أنني كنت أنهار على فراشي في الليل والجميع يعتقد بانني نائمة، كنت محاطة بالأوهام، أدّعي الثبات ولست بثابتة أدّعي الابتسامة وقلبي حزين، لا الحلم كان حلمي، ولا الطريق طريقي، وانا مندهشة فجاة، ملأ الضباب غرفتي، ولم أر شيئا.. كأنّ الليل توطن في غرفتي، لكنّني لم أكن خائفة، فما عشته سابقا كان أبشع بكثير من الظلمة الموجودة في غرفتي، أبصرت وقتها ريشة طاووس جميلة زاهية الألوان، ذكرتني بأمي التي كانت ترتدي قبعات تزينها بريش الطاووس، والتي بعد الحرب لم تزينها سوى الدماء الحمراء، كانت الريشة تطير، وكلما أقترب منها تزيد سرعتها، وكأنّها شبح يأخذني لمكان ما، سرت وراؤها وهي محلقة في فضاء غرفتي، لكن عجبي لوسع المكان، وكأنّها لم تكن غرفتي الضيقة ذات الأربع جدران، وأنا أسيرُ يلونُ سمعي عزف ناي عذب، لم أعرف مصدره أنظر يمينا ويسارا فلا أجد شيئا، أبكاني صوت الناي، وكأنّه كان يعزف من أوجاع حرماني، شعرتُ بأنّ الغموض ما زال يكتنفني من النافذة نحو شارع المنزل، إلتفتتُ على الفور لأتحقق من ذلك ، رأيت الريشة الحمراء تحولت إلى رجل يركض بسرعة خاطفة يلتقط أنفاسهُ بصعوبة، فكرتُ ملياً ربّما هو سعيد الحطاب آتياً من عمق الغابة، ولكن سرعتهُ في الركض ظلّت تزداد كشبح لا أميّز منهُ شيء، خلقتُ جواً من الألفة بيني ونفسي حدّ الإقناع، لكنّي أراني كنتُ مخطئة بالحسبان، نظر إليّ وهو يشيرُ بإبهامه الأيمن للذهاب خلفه، بدأت ركبي ترتجف فصعقتُ ممّا أرى لشفافيته، لم يبق أمامي سوى الإقتراب منهُ، حاولت أن ألمسهُ لكن دون جدوى، عشتُ تجربة مذهلة، كل فتاة معجبة بأبيها، وأنا فعلاً كذلك، لأنّهُ كان يواجه الصعاب لأجل أسرته، وما زلتُ إلى الآن أحفظ أقواله الحكيمة، التي تبقى ترنّ في أذنيّ إلى الأبد.     

تصفح

[0] فهرس الرسائل

الذهاب الى النسخة الكاملة