سلطة الموت والفقد أمام هاجس الحياة
قراءة في المجموعة الشعرية (صراخ القبور) للشاعر نجيب شيخا.
بهنام عطاالله
صدر عن دار ماشكي للطباعة والنشر في نينوى المجموعة الشعرية الموسومة ب (صراخ القبور) للشاعر نجيب شيخا.
لقد عرفت الشاعر بعد العام ٢٠٠٣ حيث كان يقيم آنذاك في العاصمة اليونانية/ أثينا، وكان يعمل حينها في الصحافة هناك فأصبح فيما بعد مراسلاً لعدد من الجرائد والمجلات حيث رفدها بكل ما هو جديد وجميل عن حضارة وثقافة وأخبار تلك البلاد. ولكن قبل سنوات مضت بدأ بكتابة القصيدة النثرية، حيث كان يرسل بين آونة وأخرى نصوصه لقراءتها وإعطاء ملاحظات حولها، الى أن حانت الفرصة وجمع نصوصه بغية نشرها في مجموعته البكر هذه.
تتمحور أغلب نصوصه حول الموت والوجع والألم والهم الإنساني الذاتي والآخر، حيث ان الذين رحلوا هم ضمن دائرة القرب منه، حيث كان لفقدان أخية الشهيد موفق بحادث تفجير إرهابي، ثم رحيل والده ووالدته، كل ذلك إنعكس بلا شك على موضوعة نصوصه، فكانت مرآة عاكسة لنفسيته وأحاسيسه وعقله، دونها على الورقة بقالب الفجيعة والحزن والفقد.
يتحدث الشاعر في نصوصه عن الفقد الكبير لأحبائه، فهم اليوم تحت الثرى بعد أن رحلوا عنه بعيداً، ولكن بالرغم من هذا البعد إلا أنه مازال يحتضن روحهم، أملاً بلقاء جديد يرتوي فيه من عطش الحب الذي لف حياته منذ صباه الى يوم فقدانهم، فها هو يرثي والدته ووالده قائلاً:
" كان أبي ملك الزمان
وأمي ملكة الحنان
طلبا الرحيل الى عالم الممات
بإنتظار أن يريا إبنهما بفارغ الصبر"
هنا تكمن الإنسانية النابضه، حيث الأب والأم يرحلان بغية لقاء إبنهما الشهيد الذي رحل قبلهما هناك.
والشاعر يطلق تساؤلاته المشروعة وهو يسير في هذا الركب الحزين، فيجمع لهما أغصان الزيتون وعطر الزهور ليقدمها عربونا للحب والوفاء، كما ويود البكاء والصلاة عليهما فيتساءل قائلاً:
" هل سأبكي وأنا مكسور الجناح
أم أصلي وأنا مرتاح الضمير كل صباح؟"
إنه ما زال تحت وطأت الفقد حيث يظهر ذلك وهو ينشر كل هذياناته وتساؤلاته المشروعة بسبب سلطة الموت القاهرة، بينما هما في سبات عميق وفي ضريح تفوح منه رائحة الموت الجميل.
ثم يتحول بنصوصه نحو لوحة بكائية، فيصوب عباراته نحو أخيه الشهيد، الذي رحل عنه ذات صباح، ملأ الدخان أرجاءه وبعثر كل شيء جميل، وهو ينشد مع الملائكة أناشيد السلام، حالماً أن يشرق النور من جديد ويقص للناس حكايات الفقد والفجيعة، فيقول:
"نم قرير العين فمسامع الرب تناديك
وأجواق الملائكة تزمر انشودة السلام مع تلك الحمامات
وهي تمسح جبهة الروح فيشرق النور عليك"
الى أن يقول:
" يتعزى أهلك بإسمك النبيل
ونصلي: أبانا الذي في السماوات"
أما في قصيدة صراخ القبور فهو يسأل الموت عن أخيه ويوقد الشموع عند الضريح ..نعم أخوه الذي خيل له وكأنه نائم وليس ميت، إنه يسمع صراخ الحزانى وصمت الحجارة يوم إحتل الأشرار الدواعش بلدته ونشروا الظلام في أرجائها وعاثوا فيها فساداً فيقول مخاطبا الشهيد:
"اخي ..
هجّرونا الأوغاد
ومزقوا أشلاءنا
في ليلة بعثروا فيها أحشاء الزمن
مثلما قتلوك دون رحمة".
ويزداد الوجع رويداً رويداً ليدخل قلبه الندي ويسيطر على كيانه برحيل أمه حاضنة الروح، حيث ينعتها بملكة الزمان فيقول:
"يا ملكة الزمان وطيبة القلب
أودعك بين الآهات والحسرات
بين الدموع وقطرات المطر الهاطلة
بين صياح عابر للساحات
فالبكاء أصبح رفيق الزمان
ينقش مراسيم الوداع والذكريات"
وفي الجانب الآخر وهو تحت سلطة الفقد والموت والوجع، نراه قد أنهكه الزمان وأوجعه الحزن تاركاً أحلامه وذكرياته المدفونة في تلك الأمكنة البعيدة .
إنه يشتاق لبلدته الأثيرة، وهو يُكمل مشواره الحياتي تحت ضغط الخوف وهاجس الموت والفجائع التي عليه، فلم يتلذذ يوماً بطعم وطنه وبحبه له وسعادته التي يحلم بها فيقول:
"صباح وبكاء وحسرات
أمام أوتار الموسيقى والترانيم الملائمة وهي تقرع أجراس النواقيس"
إنه يكتنز أنفاسه ليكتب عن معشوقته وبلدته، التي أحبها كثراً ورجع اليها عندما فارقها وغاب عنها ذات يوم مع بلدات سهل نينوى، وبخاصة عندما سيطرت عليها العصابات الظلامية ودمرت كل شيء جميل فيها وحولها الى ظلام دامس لفترة ثلاث سنوات عجاف، حيث البكاء والدموع والأحزان والفراق والبعد والشوق لتلك الأمكنة الجميلة، التي كانت في يوم ما مرتع صباه حيث سلبت حريتها وحولت الى رماد وسخام فيقول:
"غمرتني الدموع والحزن يملأ وجعي
والرياح تعصف بنا
سألت الرماد ما لونك!
فأجابني ..انها دم ..بكاء.. دمار.. سرقة أحلام"
ثم يسرح بعيداً الى ذلك الماضي الجميل، حيث الحديث الشيق في تلك الصباحات الجميلة والمؤثثة بشذى الزهور، ولكن برمشة عين تحول كل ذلك البهاء الى ظلام ودموع وصراخ وعويل، إنه الكابوس المخيف حين جاءه النبأ الصاعق برحيل امه فكتب يقول:
"شقاؤك أغنية المساء
وصبرك منقوش على ألواح تعزف بالقيثارة
فتمسحين دموعي وتطردين الملل والعناء
دمعة صافية وراية وصورة
أرسمها بقلبي صباحاً ومساء
ثقة تطرد الضجر عني بالدعاء والخير والعطاء
معشوقتي أنت وسعادتي وصورة لامعة في كبد السماء"
إن ما نراه في نصوصه الشاعر غلبة النثر فيها، وسهولة معانيها بعيداً عن الرمزية المفرطة، سهلة تدخل في القلب حالاً دون تأويلات أو جواز سفر، فعباراته سلسة طالتها النثرية بإستثناء بعض المقاطع.
----------------------
* نشرت في (اوروك) الجريدة المركزية لوزارة الثقافة والسياحة والأثار وفي ملحقها الأسبوعي الصادر يوم الثلاثاء ٢٨ آذار ٢٠٢٣ في عددها المرقم (٧٨).
رابط الجريدة:
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=530580332577000&id=100068751129271&mibextid=Nif5oz