المحرر موضوع: الأحزاب الشيوعية العربية وذيليتها للاتحاد السوفيتي (الحلقة الرابعة والأخيرة)  (زيارة 204 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل نبيل عبد الأمير الربيعي

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 304
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
الأحزاب الشيوعية العربية وذيليتها للاتحاد السوفيتي (الحلقة الرابعة والأخيرة)
نبيل عبد الأمير الربيعي
   
    مرت العلاقة بين الحزب الشيوعي وحزب البعث في العراق بكثير من حالات التقارب والتنافر، وبخاصة بعد عودة حزب البعث الى الحكم ثانية في السابع عشر من تموز 1968، إذ دعا البعثيون في البيان رقم (1) الصادر صباح يوم السابع عشر من تموز 1968 الى تناسي خلافات الماضي. كما وعد البيان بتشكيل مجلس يمثل القطاعات الوطنية والشعبية كافة على أساس تكافؤ الفرص وسيادة القانون، ويبدو أن الدعوة الى تناسي خلافات الماضي كانت موجهة للشيوعيين أكثر من غيرهم.
    عقدت حكومة البعث في التاسع من نيسان 1972 معاهدة بالغة الأهمية مع الاتحاد السوفيتي، وكانت هناك ضغوطات من قبل السوفييت على قيادة الحزب الشيوعي العراقي بالتفاوض والموافقة على التحالف الجبهوي مع حزب البعث، وافق الحزب الشيوعي العراقي وقبل أن تخرج مباحثات تشكيل الجبهة بنتيجة، عرض البعثيون على الشيوعيين الاشتراك في الحكومة القائمة بوزيرين، فوافق الشيوعيون على العرض وتناسوا مقتل قياداتهم واعضائهم بشكل وحشي في الثامن من شباط 1963، وبناءً عليه عُين في الخامس عشر من ايار 1972 مُـرشحا الحزب الشيوعي كل من المحامي عامر عبد الله وزيراً للدولة، وعضو اللجنة المركزية للحزب مكرم طالباني وزيراً للري، وقد جاءت معظم أو كل هذه الإجراءات في سياق تقوية موقف الحكومة استعداداً لتأميم النفط، الذي حصل لشركة نفط العراق في الأول من حزيران 1972، ودعم الحزب الشيوعي خطوة التأميم بحماس، لكن تداعيات عملية التأميم قد تسببت بتوقف المفاوضات الخاصة بتشكيل الجبهة من دون التوصل الى اتفاق.
    وبناءً على ما تقدم يمكن القول ان العلاقة بين الحزب الشيوعي وحزب البعث قد شهدت الكثير من حالات الشد والجذب، أو بمعنى أدق انها قد شهدت الكثير من حالات العنف والقليل من حالات العمل المشترك، الذي مهد الطريق لتشكيل ما سُميَّ بـ(الجبهة الوطنية والقومية التقدمية) عام 1973.
    أصبحت الأجواء في خريف عام 1972 مهيأة لعودة الحوار بخصوص تشكيل الجبهة بعد نجاح عملية التأميم، لذا نشطت من جديد المفاوضات بين الحزب الشيوعي وحزب البعث من أجل الخروج بصيغة توافقية لتشكيل التحالف المنشود.
    برزت في أثناء المفاوضات التي نشطت من جديد العديد من نقاط الخلاف، لعل أهمها إصرار حزب البعث على قيادة الجبهة ورفض الحزب الشيوعي لهذه المسألة. لكن هذه الخلافات لم تجد طريقها للحل إلا بعد مرور عدة أشهر تعرض خلالها الحزب الشيوعي إلى العديد من الضغوط ومن عدة جهات في سبيل الموافقة على تشكيل الجبهة بشروط حزب البعث.
    حثت الدول الاشتراكية وفي مقدمتها الاتحاد السوفيتي الحزب الشيوعي العراقي على الدخول في تحالف جبهوي مع حزب البعث من دون تحفظات، إذ بات لهذه الدول في العراق كثير من المصالح السياسية والاقتصادية، لذا سعت بقوة لتعزيز نظام حكم حزب البعث فيه، فيما ساندت الأحزاب الشيوعية العربية عموماً النظام البعثي في العراق، لانتهاجه بحسب ما ترى سياسة معادية للمصالح الغربية، وكان للحزب الشيوعي السوري دور مميز في الضغط على نضيره العراقي، ولا يبدو هذا الأمر غريباً إذا ما علمنا أن الأول قد دخل مع حزب البعث السوري في تحالف جبهوي بشروط مشابهة لما طرحه حزب البعث الحاكم في العراق مثل قيادة الجبهة واحتكار العمل السياسي في الجيش.
    تأثر الحزب الشيوعي العراقي كسائر الأحزاب الشيوعية في بلدان العالم الثالث بنظريات التحول اللارأسمالي نحو الاشتراكية التي كانت رائجة في الاتحاد السوفيتي أبان عقد السبعينيات من القرن الماضي، وكان ينظر الى نظام حزب البعث بأنه متجه نحو الاشتراكية من هذا الطريق، غير أن بعض الباحثين يرى بأن تبني حزب البعث للاشتراكية لم يكن نابع من إيمانه بها، بل كان مقدمة لفرض سيطرته على الاقتصاد العراقي بشكل كامل، لأجل توطيد سيطرته السياسية في البلاد.
     ومهما يكن من أمر، فعلى الرغم من كل ما تعرض له الشيوعيين من ضغوط إلا أن قيادتهم ظلت مترددة، وغالبية قواعد الحزب كانت رافضة لفكرة التحالف مع حزب البعث، بسبب ما لها معه من ذكريات مؤلمة، بيد إن هذا الوضع حسم بضغط كبير مارسته موسكو على الشيوعيين العراقيين للقبول بالشروط التي طرحها حزب البعث للتحالف، وبعبارة أخرى إن الحزب الشيوعي العراقي ما كان لينضم إلى تحالف جبهوي يقوده حزب البعث لولا الضغط الكبير الذي تعرض له من جانب الاتحاد السوفيتي، الذي كان يفضل التعامل مع الحكومات أكثر من التعامل مع أحزاب المعارضة.
    اضطر قادة الحزب الشيوعي إزاء هذا الضغط الكبير إلى إبداء المرونة تجاه القضايا الخلافية وفي الجانب المقابل وافق حزب البعث على إعادة صياغة القضايا المختلف عليها في الميثاق، لكن الصياغات الجديدة لم تختلف من حيث الجوهر عن الصياغات القديمة باستثناء وضعها في أطر فضفاضة، وخصوصاً النقطة المتعلقة بقيادة الجبهة التي تم إعادة صياغتها بالشكل الآتي: (إن إقرار ميثاق العمل الوطني بصيغته اليوم، يعتبر الإعلان الرسمي لقيام جبهة الأحزاب.. ويحتل حزب البعث.. موقعاً متميزاً في قيادتها وهيئاتها، ويقود السلطة السياسية في الدولة كما يقود مؤسساتها الدستورية). وإن كانت هذه الفقرة لا تنص صراحة على قيادة حزب البعث للجبهة غير إنها تعني ذلك من حيث الجوهر، وإن موافقة الشيوعيين على هذا الأمر يعد خروجاً على مقررات المؤتمر الوطني الثاني للحزب الشيوعي، أي أنه خروجاً على الشرعية الحزبية، لأن المؤتمر الوطني يعد أعلى سلطة قرار في الحزب الشيوعي، مما يعني إن أي إجراء أو قرار مهم يراد اتخاذه خلافاً لمقررات المؤتمر السابق يستدعي عقد مؤتمر جديد وهو ما لم يحصل.
    أما بخصوص عبارة (تصفية الكيان الصهيوني) الواردة في ميثاق العمل الوطني لعام 1971 فقد عدلت على النحو الآتي: (النضال ضد الصهيونية كحركة عنصرية عدوانية وكنظام عنصري عدواني....)، وإلى جانب ما تقدم هنالك عبارة أخرى تخص الأكراد جاءت في ميثاق 1971 بالصيغة الآتية: (إن ممارسة الجماهير الكردية لحقوقها القومية المشروعة بما فيها الحكم الذاتي تتم ضمن إطارها الطبيعي الذي تجسده وحدة السيادة الوطنية ووحدة الأرض ووحدة النظام السياسي في الجمهورية العراقية.. كما تتم أيضاً على أساس الإقرار والإيمان بان العراق جزء لا يتجزأ من الوطن العربي). وتم تعديل هذه العبارة بحذف الجملة التي تشير إلى أن العراق جزء لا يتجزأ من الوطن العربي، ولم أجد كباحث فيما توافر لديَّ من وثائق ومصادر شيوعية أي ما يشير إلى الاعتراض على ما جاء في هذه الفقرة من ميثاق عام 1971، وعلى ما يبدو إنها عُدلت لكسب ود الأكراد على أمل الموافقة على الدخول في التحالف الجبهوي المزمع تشكيله، وهكذا تم تجاوز أهم العقبات التي كانت تقف عائقاً أمام تشكيل الجبهة من وجهة نظر البعثيين والشيوعيين دون الأكراد الذين رفضوا التفاوض بشأن الجبهة أصلاً.
     عقدت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي اجتماعاً في السادس من نيسان عام 1973، لمناقشة آخر مستجدات المشهد السياسي وفي مقدمتها العلاقة مع حزب البعث، وأشار التقرير الصادر عن الاجتماع إلى أن الحزب الشيوعي قد قدم بعض التنازلات من دون توضيح طبيعة تلك التنازلات، فيما أكد الفقيد زكي خيري بوصفه عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ومن الذين حضروا الاجتماع على إنه قد تم التصويت في الاجتماع المذكور على نتيجة المفاوضات مع حزب البعث التي تم قبولها من أعضاء اللجنة المركزية للحزب بأغلبية صوت واحد من مجموع الأعضاء الحاضرين في الاجتماع، أما الحزب الشيوعي العراقي فقد ابلغ حزب البعث بموافقته على الدخول معه في تحالف جبهوي على وفق الشروط التي تم التوافق عليها بين الجانبين، غير إن حزب البعث أهمل الموضوع ولم يرد عليه إلا في تموز 1973، على أثر المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قادها مدير الأمن العام ناظم كزار في الثلاثين من حزيران 1973.
     كشفت محاولة ناظم كزار عن أن صراعاً مريراً كان يجري داخل حزب البعث الحاكم حُسم بالنهاية لصالح صدام حسين نائب رئيس مجلس قيادة الثورة، الذي تبنى بنفسه بعد هذا الحدث حواراً سريعاً عجل بالإعلان عن تشكيل ائتلاف جبهوي مع الحزب الشيوعي، ليظهر صدام بمظهر الرجل الحريص على التعامل السلمي مع الأطراف السياسية الأخرى، ملقياً اللوم على ناظم كزار في ممارسة جرائم الاغتيال والتعذيب لكوادر الحزب الشيوعي أمثال كاظم الجاسم وستار خضير وشاكر محمود وأحمد الخضري، غير إن تحميل ناظم كزار لوحده مسؤولية الأعمال اللا أخلاقية التي كان يقوم بها جهاز الأمن مسألة من الصعب قبولها. كما ليس من السهولة بمكان التسليم بأن تلك الأعمال كانت تجري من دون علم القيادات الأعلى في الحزب والدولة.
     اُعدم ناظم كزار في السابع من تموز 1973، وبعد عشرة أيام صدر عن حزب البعث والحزب الشيوعي بياناً مشتركاً أعلن فيه عن الاتفاق على ميثاق العمل الوطني، ولم يختلف هذا الأخير عن الميثاق الذي أعلن عام 1971 باستثناء النقاط التي اشرنا إليها قبل قليل. وقع البيان المشترك في السابع عشر من تموز 1973 كلٌ من احمد حسن البكر بوصفه أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث في العراق وعزيز محمد السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، وبهذا ولدت ما اسماها البيان بـ(الجبهة الوطنية والقومية التقدمية)، وعقب إذاعة البيان ألقى احمد حسن البكر كلمة بالمناسبة. وبقيام الجبهة انتقل الحزب الشيوعي من خنـدق المعـارضـة إلى قصر السـلطـة، الــذي حــل فيــه مجبراً أو مختــاراً ضيفــاً محدود الحركة والتصرف.
     ويبدو مما ذكره حسن العلوي بوصفه أحد الكتاب الذين كانوا على مقربة من مصادر القرار البعثية آنذاك، إن تحالف حزب البعث مع الحزب الشيوعي لم يكن نابعاً من الإيمان بسياسة إشراك الآخرين في الحكم، إذ أكد العلوي على إن القيادة القطرية لحزب البعث قد وزعت في اليوم التالي لإعلان التحالف مع الحزب الشيوعي تعليمات على الجهاز الحزبي تطلب فيها تقديم أفكار ومقترحات لتفتيت الحزب الشيوعي، وكان اخطر المقترحات التي قدمت وأخذ طريقه للتنفيذ هو دس عناصر من حزب البعث في صفوف الحزب الشيوعي، وأكد الشيء نفسه رحيم عجينة ممثل الحزب الشيوعي في اللجنة العليا للجبهة، مشيراً الى اكتشاف العديد من حالات الاندساس من عناصر بعثية بين صفوف المنظمات الشيوعية.
     يتضح مما تم استعراضه آنفاً إن الجبهة بالنسبة لحزب البعث كانت ضرورة آنية أملتها الظروف الداخلية والخارجية التي كانت تمر بها حكومة حزب البعث، ولم تكن سياسة التحالف يوماً منهجاً استراتيجياً نابعاً من إيمان حزب البعث بتلك السياسة، كما أكد احمد حسن البكر في كلمته التي ألقاها عقب الإعلان عن تشكيل الجبهة، بل إن المسالة معكوسة تماماً، إذ كانت الجبهة بالنسبة للبعثيين تمثل خطوة تكتيكية لعبور مرحلة معينة، ولم يختلف الأمر كثيراً بالنسبة للشيوعيين، إذ كان التحالف الجبهوي يمثل لهم مرحلة انتقالية نحو الاشتراكية لكنه تنازل تحت وطأة الظروف عما أفترضه من دور قيادي في المرحلة الانتقالية.
     وبصرف النظر عن هذه الرؤية أو ذلك التحليل، فقد توجه الحزبان بعد التوقيع على ميثاق العمل الوطني إلى استكمال الجوانب التنظيمية للجبهة، وبهذا الشأن برزت مسألة مهمة وهي طريقة اتخاذ القرارات داخل الجبهة هل تتم بالأكثرية أم بالإجماع، إذ كان الحزب الشيوعي يؤيد طريقة الإجماع وحزب البعث يرفضها ساعياً بكل حرص إلى تأكيد حيازته أغلبية المقاعد في الجبهة، على الرغم من أن السلطتين التشريعية والتنفيذية كانتا تحت سيطرته، ومع ذلك تم الاتفاق على مبدأ الإجماع من دون أن ينص الميثاق أو قواعد العمل في الجبهة على هذا الأمر، وإنما تم الاكتفاء بتعهد من صدام حسين باسم حزب البعث بالالتزام بهذا المبدأ. وفي السادس والعشرين من آب 1973 نشرت صحيفة (الثورة) البعثية النظام الداخلي وقواعد العمل في الجبهة من دون أية إشارة الى طريقة اتخاذ القرارات.
    إن سياسة التراجع التي انتهجها حزب البعث أكدت أن هذا الحزب كان يرمي من الجبهة أن تكون واجهة لنظامه، وأن يؤيد الشيوعيون جميع قراراتهم ولا يعارضونه. وفي ظل هذا التراجع، عقدت اللجنة المركزية اجتماعاً لها في آذار (مارس) عام 1978، وأصدرت تقريراً طالبت فيه وبإصرار من البعث بضرورة وقف حملات الاعتقالات والشروع بإرساء دعائم النظام الديمقراطي. وقد كانت الاعتقالات بصفوف الشيوعيين الذين أقاموا تنظيمات لهم داخل المؤسسة العسكرية العراقية وهو أمر محظور، وتم فعلاً إعدام 31 من العسكريين والمدنيين الشيوعيين لقيامهم بالإعداد لمحاولة انقلابية وفق مفهوم حزب البعث، ومن ذلك التاريخ بدأت الجبهة الوطنية تتآكل شيئاً فشيئاً حتى انهارت بعد بدء الحرب العراقية. الإيرانية ورفع الحزب الشيوعي شعار "انتهاء الحرب بإسقاط النظام"؛ فخرج الشيوعيون من العراق وعقدوا مؤتمرهم الرابع بعد تقليص عدد أعضاء اللجنة المركزية إلى 15 عضوا وترشيح 10 أعضاء ليكونوا قيادة الظل وهو ما أعتبره البعض إنهاءً للجيل القديم من القيادات الشيوعية ومن ذلك التاريخ أصبح الحزب الشيوعي العراقي ضعيف التأثير في محيطه وتعيش أغلب كوادره خارج العراق والقليل منها في منطقة كردستان العراق التي كانت تشكل حليفا استراتيجيا لهم، حتى جاء وقت احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا 2003م ليظهر الحزب الشيوعي مشاركا في النظام الجديد ومتحالفاً مع تيارات إسلامية كالتيار الصدري وسواه وهو ما أفقد الحزب الكثير من تاريخه النضالي الذي كان يرتكز على معاداة الإمبريالية ومناكفة الاستعمار.