للمتابع للشأن العراقي و المسيحي بشكل خاص يلاحظ في الآونة الأخيرة لغطاً ملموساً لملابسات مفتعلة و مقصودة تستهدف شخصية الكاردينال ساكو، بطريرك الكنيسة الكلدانية في العراق و العالم. و بنظري انها تتناسق و المجرى العام لسياسة الحاكمين في العراق و الهادفة لكم الافواه و اسكات الاصوات المعارضة.
هناك عوامل و تفسيرات عديدة متداخلة في الظاهرة قيد البحث هنا الا وهي تبادل الاتهامات بين نيافة الكاردينال ساكو بطريرك الكنيسة الكلدانية و السيد ريان رئيس كتلة البابليون ظاهرها يتمحور حول التصرف بالوقف الكنسي و ما يترتب على ذلك. اما باطنها فأعمق بكثير.
فهي اولاً : يرى البعض انها ليست اكثر من خلاف شخصي بين الطرفين مبعثه المصالح و المردودات من التصرف بالوقف المسيحي و المنتفع منها حيث يجري توجيه اصابع الاتهام لغبطة البطريارك بأنه المستفيد. و في هذا الإطار لابد من الإشارة الى أمر غير مستبعد ان هذه الاتهامات جاءت بعد فشل محاولات شراء ذمة البطريارك الذي صرح في اكثر من مناسبة ان الكنيسة ليست للبيع و الشراء و ان هناك لجنة مشرفة على الوضع المالي الكنسي . السياق العام لنهج غبطته في استقلالية الكنيسة الكلدانية ليس بجديد. حيث توفرت لسيادته فرصة سابقة منذ ان كان مطراناً في ابرشية كركوك عندما عرض عليه السيد سركيس آغاجان اموالاً و رفضها و لم يقبل المساومة على كنيسته. فنيافته ارفع من ان يتهم بالتصرف باموال الوقف لمصالحه الشخصية. من هذا يتضح بأن الأمر ليس بخلاف شخصي مبعثه المصالح المادية، فلا الكنيسة الكلدانية و لا هو شخصياً بحاجة للاموال.
و ثانياً و هو عامل آخر و مهم و يجب استثناءه الا و هو انه خلاف اساسه قومي/سياسي ؛ اي ان الامر متعلق بالتمثيل المسيحي في البرلمان العراقي و هو خلاف بين الكلدان و الكنيسة الكلدانية لرفض الأخيرة الاعتراف بالتمثيل المسيحي الحالي و بمن جاء تحت لافتة الكوتا المسيحية. و هنا نقول صحيح ان السيد ريان حقق هدف كبير للكلدان عبر انهاء استحواذ الاخوة الاثوريون على مقاعد الكوتا النيابية. و توهم بعض الكلدان ان وضعهم سيتغير و احلامهم ستتحقق لأن غالبية النواب المسيحين هم من الكلدان ناسين او متناسيين بأن مشكلة الكوتا ليست بالنواب بل بطريقة وصولهم الى مراكزهم و هنا تكمن المصيبة. و الذي جرى لم يكن اكثر من تبديل ( ملا حسن ب حسن كەچەل) حيث الاثنان جاءا بدعم خارجي احدهم كوردي و الآخر شيعي و لم يقدموا شيئا ملموساً لخدمة شعبهم المسيحي طيلة العشرين سنة سوى ملئ جيوبهم و جيوب اقرباءهم عداها كانوا مطيعين و منفذين لتوجيهات اسيادهم و مموليهم.
و لابد من الاشارة هنا الى ان بعض الإخوة الاثوريون مغتبطين بالتراشق الحاصل نكاية بالكلدان و كأن ما يحصل لا يخصهم و لاعتقادهم بأن ذلك سيخدمهم الآن و مستقبلاً ، و من هذا المنطلق يعتقدون أن أمر فضح ما يجري هو واجب الكلدان و كتابهم فقط و ليس كل الوطنيين باختلاف مشاربهم السياسية و القومية كما سنرى . و اذا كانوا يتوقعون بأن ما يجري يساعدهم بالعودة الى سدة البرلمان ،اعتقد انهم واهمون ما دام السلطة الحاكمة هي نفسها و بعيدة عن خدمة الوطن والمواطنين.
و ثالثاً : و هو الاهم بنظري و فيه يكمن جذر الخلاف اذ لم يكن العداء؛
الكنيسة الكلدانية و الكلدان في تأريخهم القاصي و الداني معروفون بوطنيتهم و واثقين من أن السبيل الوحيد لضمان عيشهم بسلام هو حكم وطني يحترم الانسان و يعامله على اساس انسانيته بعيداً عن الانتماءات الفرعية دينية كانت ام قومية ام سياسية و ايديولوجية و بأن القوانين و التشريعات الدستورية تكون هي الفاصلة عبر قضاء حيادي و عادل. الكلدان مواطنون مسالمون يقدمون الغالي و النفيس من اجل وطنهم و يخدمونه بتفاني ويبدعون في وطن يضمن لهم الامن و الامان و التعايش السلمى ضمن فسيفساءه الجميل لذلك نرى تأريخه مسطر بأسماء كلدانية/مسيحية لامعة متميزة في عطاءها و ابداعها. و غبطته علاّمة اخرى مضافة لهذه القائمة الطويلة لأنه رغم الظروف القاسية التي يمر بها الوطن فإن تصريحاته و كتاباته و مقابلاته تسير في ذات الخط الوطني داعياً و مكرراً انه لا حل لمشاكل الوطن و معضلاته إلا عبر حكم وطني مبنيُ على الأسس المدنية و الديمقراطية. و انه لم يكتف بالتصريحات و المقابلات بل كان من ضمن المشجعين و قام شخصياً بزيارة المنتفضين في تشرين 2019 و عبر عن دعمه لهم و شجع الكلدان على المساهمة و تقديم الدعم المتنوع لهم متأملاً كما كل الوطنيين تمكنها من تحقيق التغير المطلوب و المنشود.
من جهة اخرى لنتوقف عند مواقف السيد ريان و كتلته البابليون فهي بعيدة كل البعد عن المواقف الوطنية التي يتسم بها الكلدان عموماً ، و لا غرابة في ذلك لانه معروف للقاصي و الداني بأن الذي جاء بريان و نصبه شيخ على الكلدان هم حكام العراق الحاليين اللذين لا هم لهم سوى الاثراء على حساب الوطن و شعبه، فممارساتهم في سهل نينوى اكبر شاهد على خيانته لشعبه. اما في مجال السياسة العامة لكتلته فهي معادية تماماً لطموحات الوطنيين و الديمقراطيين حيث اصطف ضد انتفاضة تشرين و ساهم في انتكاستها اي انه كان ضد العراق و شعبه و طليعته التي رفعت شعار ( نريد وطن) الوطن المسلوب.
اذاً التناقض في الموقف هنا جليُ و واضح حيث طرف غبطة البطرك و مواقفه الوطنية و في المقابل ريان و مواقفه العدائية للوطن. فهل هناك استغراب من استهداف غبطته ، هذا الاستهداف الذي يأتي منسجماً مع التوجهات العامة للحكومة الحالية لتصفية كل صوت معارض و بالأخص لمن كان داعماً و مؤيداً للانتفاضة التشرينية المجيدة.
و من هذا المنطلق فإن ما يقوم به و يمارسه السيد ريان ليس سوى تنفيذ لاجندة معادية للوطن و سهام موجهة للكنيسة الكلدانية الوطنية و راعيها ببساطة لأنه شجاع و مقدام في وقفته مع الوطن و الديمقراطية الحقيقية.
ما يدعوا للإستغراب إن بعض الاخوة الكلدان اللذين يجدونها فرصة للنيل من غبطته في بعض مواقفه القومية و قسم من اجتهاداته و ارى بأن لا مكان لمثل هذه التأويلات عندما يتعلق الامر بالوطن و مستقبله ، ببساطة لأن مستقبل الكلدان و مصيرهم في العراق قائم على المواطنة و الديمقراطية قبل القومية و الدكتاتورية. لذلك اجد نفسي منحازا لدعم غبطته ليس لكونه رجل دين الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية الاول بل لشخصية وطنية ذات مواقف وطنية صلدا رغم المحن و الظروف قاسية التي يواجهها وطننا الغالي.
انها هجمة مبرمجة قد لا يحمد عقباها. و في ضوء الصمت المطبق للمسؤلين و الحكام، ارى ان الرادع الاممي احد انجع السبل للوقوف بوجهها مع ذلك يبقى الدعم الشعبي داخل الوطن و خارجه بمختلف اوجهه وسيلة اخرى ضامنة لفضح المستفيد من الأزمة المفتعلة.
فالكنيسة الكلدانية و راعيها يستحقون ليس فقط دعم أبناؤها من الكلدان الغيورين بل كل الوطنيين في الداخل و الخارج لأنها بمواقفها الشجاعة هذه هي المدافعة الأمينة عن طموحات الشعب العراقي عموماً لغدِ افضل لكل العراقيين مسلمين كانوا ام مسيحيين، صابئة مندائيين ام يزيدييين…. عرباً كانوا ام اكراداً ، كلداناً ام آشوريون ام تركمان…
الحقيقة ساطعة كالشمس لمن لم تعم عيونه بعد و كما يقول المثل لا يمكن حجبها بغربال.