المحرر موضوع: الـــعـــراق يــكــــــاد يـــفــــقـــــد مــســيــحــيــيــه  (زيارة 2615 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Malka

  • عضو مميز جدا
  • *****
  • مشاركة: 4751
  • الجنس: ذكر
    • مشاهدة الملف الشخصي
الـــعـــراق يــكــــــاد يـــفــــقـــــد مــســيــحــيــيــه


 عند سقوط النظام السابق، وككلّ مكوّنات المجتمع العراقي، استبشر مسيحيو العراق خيرا، بدخولهم مرحلة جديدة من حضورهم المتواصل عبر أزمنة شهدت الكثير من الأحداث العاصفة، وفصولا يتداخل فيها التاريخي بالسياسي، والإجتماعي بالديني، وصولاً إلى الحاضر وبما يتبعه من مستقبل مشرّع على احتمالات شتى، من بينها مستقبل مستقر يضمن احترام حقوقهم في دستور تسري بنوده على الجميع، من دون إمتياز لأحد أو ظلم لآخر.
 هذا الاعتبار، كان جوهرياً عند المسيحيين خاصة، نظراً الى الاشكاليات التاريخية التي حكمت علاقتهم بالنظم السياسية للمنطقة منذ الازمنة الأولى للإسلام. فعلى رغم أن النبي محمد (ص) أعطى عهده المعروف تاريخياً إلى مسيحيي نجران والذي يشمل بمفاعيله كل المسيحيين في المنطقة، بما شكّله من وثيقة قانونية ضمنت حقوقهم كمواطنين في الدولة الإسلامية، الإ أن مسار الأحداث اللاحقة، شهد الكثير من المتغيرات التي أملتها إعتبارات عديدة، بعضها سياسي، وبعضها معتقدي أو ظرفي، وكانت النتيجة أن عاش مسيحيو العراق أوضاعاً مغايرة لما كان عليه أمرهم، خاصة بعد إنتقال مركز الخلافة الى بغداد، وما رافق ذلك من متغيرات طاولت المجتمع العراقي عموماً. لقد ظلّ الإعتراف بشرعية الديانة المسيحية قائماً، لكنه إقترن بشروط وتفسيرات أملتها طبيعة المرحلة ومدى قبول الحكام ورؤيتهم الشخصية، وهكذا كانت أحوال المسيحيين تسير بين يسر وحرية حينا، وعسر وتضييق أحياناً أخرى.
 

دخول المسيحية الى العراق

 دخلت المسيحية ارض الرافدين، ابتداء من الرعيل الأول لرسل السيد المسيح، الذين طافوا بعده في العالم أجمع للتبشير بما أنزل عليه.
أما عن كيفية دخول المسيحية الى العراق والظروف التاريخية والإجتماعية التي ساعدت على ذلك ومن ثم الإنتشار، فتذكر بعض المصادر التاريخية أنّ التبشير بالمسيحية في العراق بدأ عقب سقوط القدس بيد تيطس عام 70م مباشرة، فيما تشيرمصادر أخرى الى تاريخ أقدم من ذلك بأكثر من عشر سنوات، حيث كانت المسيحية قد دخلت عام 59 م، مدينة أربل وتعني - أربعل -اي الآلهة الأربعة. وأيّا تكن الروايات المعتمدة في دخول المسيحية إلى العراق، فقد اختلف المؤرخون حول المساهمين الأوائل في التبشير وكيفية حصوله على ما تحقق من نتائج. فمنهم من اعتبر أنّ مار توما الرسول أحد التلامذة الاثني عشر للمسيح، كان أوّل المبشرّين بالمسيحية في العراق، فيما ينسب آخرون ذلك إلى تلميذه آدي السليح، أحد الحواريين السبعين للسيد المسيح الذي أرسله مار توما الرسول إلى الشرق، ثم تبعه تلميذه ماري، وبهذا تتفق الروايات على أن حدياب وعاصمتها أربيل كانت القاعدة الأولى لإعلان المسيحية بالعراق، ومنها امتدت إلى باقي ربوعه شمالاً وجنوباً، والمبشرون الأوائل هم: مار توما مار أدي ومار ماري.
ويذهب بعض المسيحيين الى أن التبشير بالمسيحية إنما يعود في بدايته إلى المجوس الذين انطلقوا من العراق، أو من البلاد الفارسية، إلى بيت لحم مهتدين بنجم دلّهم على مكان ولادة المسيح، ومن ثم بشّروا بهذا الحدث الفريد لدى عودتهم إلى أوطانهم، بعد أن تزوّدوا ببعض قطع من قماط يسوع الطفل لليمن والتبرك. وقد أصبحت حكاية تبشير المجوس بالمسيحية، في العراق، تقليداً متداولاً في الكنيسة، إستناداً الى ما ورد في الإصحاح الثاني من إنجيل متى.
يقول التقليد الديني لدى المسيحيين: "إن المجوس الذين قدموا من المشرق يقودهم نجم ليسجدوا للمسيح المولود في بيت لحم، كانوا منجّمين، قدموا من بلد الكلدانيين، أو بلاد فارس، لأن بلد الكلدانيين القدماء كان قد وقع تحت حكم الفرس منذ الفتح الكورشي، فهولاء المنجمون نقلوا البشرى السارة إلى مواطنيهم من بلاد ما بين النهرين وفارس".
هذه الروايات وغيرها تشير بوضوح إلى أن الوجود الأول للمسيحية في بلاد الرافدين، قد تمّ بفعل حركة تبشيرية هادئة، بعيداً عن فتوحات الروم البيزنطيين. لكن في الوقت عينه، يمكن القول إن الخلافات الرومانية الساسانية، قد لعبت دوراُ كبيراُ في نشوء وإختلاف المذاهب المسيحية، كالنسطورية واليعقوبية. فقد شجع الساسانيون المذهب النسطوري على الإنتشار في بلاد المشرق نظراُ لرفضه من قبل الرومان الذين شجعوا بدورهم المذهب اليعقوبي، وعليه فقد استفاد المسيحيون العراقيون من أجواء السلم والحرب بين الفرس والرومان على السواء، ففي السلم يتقدّم الرومان لحمايتهم كشرط من شروط المهادنة، وفي الحرب يدفعهم الساسانيون إلى المزيد من الخلاف المذهبي مع الكنيسة البيزنطية، مقابل تسهيلات دينية.
ارتبطت المسيحية بمختلف أقوام العراق القديمة، من سريان وكلدان وآشوريين وعرب، بإستثناء الأكراد الذين كان أغلبهم من أتباع الديانة الزرادشتية. اعتنق السريان والكلدان والأشوريون المسيحية، بعد سقوط الإمبراطوريتين الآشورية والبابلية، وقد كان من الطبيعي أن العبادات الوثنية لهاتين الإمبراطوريتين بمعابدها الضخمة وطقوسها الرسمية الباهرة، هي صاحبة السيادة والكلمة الفصل بين الأقوام التابعة لهما. لكن سقوطهما واحدة إثر الأخرى، لم يبقِ ما يضمن وجود تلك العبادات واستمرارها، وهكذا أزيلت مع تماثيل آلهتها وعروش ملوكها، وبالتالي لم تجد المسيحية محلاً أكثر خصبا من المجتمع السرياني والكلداني والآشوري للتبشير بدعوتها، رغم أنّ الصابئة المندائية واليهودية كانتا قد سبقتاها الى التواجد في العراق، الإ ان طبيعة هاتين الديانتين الخاصة التي لا تعتمد التبشير إلا في حدود ضيقة، ساعدت المسيحية على التوسع و الإنتشار. أما العرب، فقد اعتنق الكثير من قبائلهم المسيحية، مثل قبيلة تغلب التي ظلّ بعضها على المسيحية حتى بعد الإسلام، كشاعرها الكبير الأخطل، إضافة إلى المناذرة اللخميين، وهم على المذهب النسطوري، وقد أسسوا إمارتهم في الحيرة جنوب العراق، أما الغساسنة، خصوم المناذرة، وهم على المذهب اليعقوبي، فقد أسسوا إمارتهم في شمال العراق وسوريا، حيث تحالفوا مع البيزنطيين بوجه الفرس، كما اعتنق المسيحية عدد من الشخصيات العربية المرموقة مثل ورقة بن نوفل وعدي بن حاتم الطائي الذي أسلم بعد ذلك.
وبصورة عامّة، فإنّ مدوّنات تاريخ المسيحية في العراق تخبرنا عن طبيعة ذلك التنوع والإختلاف الكنسي للمسيحية هناك، علماً أنّ الصورة الحالية ليست متطابقة تماماُ مع الصورة التاريخية، إذ دخل عليها الكثير من المستجدات في الوضع المسيحي، فالطوائف المسيحية العراقية اليوم، يمكن تصنيفها حسب إثنياتها، أي بين السريان والأشوريين والكلدان والأرمن، وهؤلاء هاجروا إلى العراق وغيره من البلاد العربية بعد الأحداث التركية مطلع القرن العشرين كما هو معروف.
أما كنسياً فينقسم المسيحيون بين الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، والكاثوليكية الغربية، وهذا الإنقسام يعود إلى بدايات المسيحية، بعد تأسيس كنيسة روما، التي سعى بعض المسيحيين إلى توحيد الكنائس تحت رايتها، في حين رفضها البعض الآخر.


المسيحيون في الدولة الإسلامية

مع دخول الإسلام إلى العراق، فتح الوضع المسيحي صفحة جديدة من تاريخه، فالبرغم من تقلص الوجود المسيحي بفعل الدعوة الإسلامية، إلا أنه حافظ على تواجد ملموس داخل المجتمع العراقي. وتؤكد المصادر التاريخية، أن المسيحيين في العراق، نظروا الى قدوم العرب بإرتياح، فقد وصف أحد رجال الكنيسة الوضع الذي كانوا عليه في العهد الساساني، بقوله: "ولا عجب إذا اتسم موقف المسيحيين بارتياح لمجيء العرب، ذلك أن المسيحيين ملّوا من الظلم الذي تعرضوا له في فترات عديدة من العهود الفارسية، فلعلّ الفاتحين الجدد يكونون أكثر إنسانية ورحمة تجاههم". وقيل إنّ قائد الجيوش العربية في الموصل خاطب المسيحيين هناك قائلاً: أنتم منّا فما الذي يربطكم بالرومان.


المسيحيون في العراق المعاصر

لما كان لمسيحيي العراق إطلاعهم الوثيق على منجزات الحضارة الأوروبية المتصاعدة آنذاك، بحكم علاقات متعددة المستوى، لذا ساهموا بفاعلية في تحديث المجتمع العراقي ونقل أهم تلك المنجزات اليه، وذلك إبتداء من القرن التاسع عشر وما تبعه، فقد افتتح الآباء الدومينيكيون المطبعة الحروفية الاولى في مدينة الموصل عام 1859 وبقيت تعمل لأكثر من خمسين عاماً وبرزت بإعتبارها عاملاً حيوياً من عوامل النهضة الأدبية في العراق، قبل أن تصادرها السلطات العثمانية عند نشوب الحرب العالمية الأولى. كذلك فان اولى المدارس الحديثة التي أنشئت في العراق، انما قامت على يد الآباء الدومينيكيين عام 1861 وفتحت أبوابها أمام التلاميذ من كل الطوائف والأديان، ثم لم تمضٍ بضع سنوات، حتى ظهرت أول مسرحية في العراق عام 1880، وذلك حين نشر الأب حنا حبش الموصلي، كتاباً يحوي ثلاث مسرحيات كوميدية هي على التوالي - آدم وحواء، يوسف الحسن، وطوبيا - و من ثم توالى بعدها ظهور المسرحيات وتمثيلها.
بعد عام 1917، دخل العراق مرحلة جديدة من تاريخه وهي ما سيطلق عليه لاحقاُ  "العراق الحديث" ففي السنة المذكورة، دخلت القوات الإنكليزية الى بغداد منهية قروناً طويلة من الحكم العثماني، ولم يجد المحتلون الجدد، أرضاُ مستقرة وشعباً ساكناً، إذ اندلعت في وجههم سلسلة من الثورات المسلحة. ورغم أن الوقائع الميدانية لم تسجل مشاركة تذكر للمسيحيين في المعارك الدائرة يومها، الإ أن أحداُ لم يشكك بوطنيتهم وانتمائهم، وقد اختير عشرة مندوبين لتمثيلهم في اللجنة التي كانت ستقوم بالتصويت على نوع الحكم وطبيعة العلاقة مع البريطانيين مقابل أربعين مندوباً للمسلمين (شيعة وسنة) وعشرين لليهود.
وعند تشكيل أول حكومة عراقية، أوكل لمسيحي هو يوسف غنيمة وزارة المال، وقد كان للمثقفين المسيحيين العراقيين دور بارز في تشكيل المشهد الثقافي والأدبي والفني العراقي، حيث لمع منهم العديد من الشخصيات البارزة، نذكر منها: اللغوي والأديب المعروف الأب أنستاس الكرملي صاحب مجلة "لسان العرب"، والصحافي البارز ثابت عبد النور والأديب روفائيل بطي والمحاميان الديموقراطيان خدوري وكامل قزانجي، ومن الأدباء يعقوب سركيس ويعقوب مسكوني وغيرهم. ومن الآثاريين المتميزين بشير فرنسيس وفؤاد سفر. ومن العلماء مجيد خدوري ومتى خدوري والدكتور منير بني. ومن الصحافيين المعروفين توفيق السمعاني وجبران ملكون وروفائيل بطي وغيرهم. وكمؤشر على المساهمة السياسية الفعّالة للمسيحيين العراقيين في الحياة السياسية العراقية، نذكر أن مؤسسَيْ الحزب الشيوعي العراقي هما مسيحيان آشوريان: يوسف سلمان (فهد) وبيتر باسيل. أما علاقة المسيحيين العراقيين بالسلطات المتعاقبة في العراق، فقد شهدت مراحل مدّ وجزر، مع العلم أننا لا نستطيع من الناحية المنهجية أن ننظر الى المسيحيين العراقيين ككتلة واحدة متجانسة تحكمها آراء وتطلعات مشتركة. فالمسيحيون العراقيون، موزعون عرقياً وكنسياً بين كلدان كاثوليك يشكلون النسبة الأعلى في الكتلة المسيحية، وتنشط بينهم احزاب عديدة كالمجلس القومي الكلداني والإتحاد الديموقراطي الكلداني وسواها، ثم الآشوريين ويتبعون العقيدة النسطورية، وتقترب أعدادهم من سبعين الف نسمة، أشهر أحزابهم، الحزب الوطني الآشوري والحزب الآشوري - وأخيراً السريان والأرمن، وينقسمون الى كاثوليك وأرثوذكس، وإضافة الى العربية، مازالت اللغة الآرامية السريانية تستخدم بينهم بكثافة خاصة في المناسبات الدينية.
الدارس للتاريخ السياسي العراقي الحديث، سيكتشف أن التشكيلات الحزبية والسياسية للمسيحيين العراقيين، إنما قامت على أسس ومسميات عرقية وليست دينية، مما يدفعنا الى القول أن المشكلة هي في الأساس قومية عرقية وليست دينية طائفية. هذا مع ملاحظة أن الكثير من المسيحيين العراقيين من العلمانيين الذين يمارسون العمل السياسي من هذا المنظار. وتعتبر حركة الآشوريين المسلحة عام 1933 والتي قمعت بقسوة بالغة، من أكثر فصول العنف الدموي التي شهدتها العلاقة مع السلطات المتعاقبة على حكم العراق، بالإضافة إلى ما شهدته فترة حكم البعث من القمع الذي طاول مختلف فئات الشعب العراقي، وهذا ما دفع أعداداً كبيرة منهم للهجرة خارج العراق، حيث واصلوا نضالهم مع باقي مواطنيهم للخلاص من الإستبداد.
 يراوح اجمالي عدد المسيحيين في العراق اليوم، مابين 800 الف ومليون نسمة اي حوالي 3% من سكان العراق،يعيشون على نحو خاص في بغداد (الدورة - الفضل - بغداد الجديدة - البتاويين - الكرادة - شارع فلسطين - المشتل - جميلة - كمب سارة) و في الموصل والبصرة، كما ان لهم حضورا في اربيل والسليمانية ودهوك وكركوك، وهم ممثلون في الحكومة ومجلس النواب والوظائف العامة وان بنسبة لا تتلاءم ومكانتهم في الحياة العراقية.
الخلاصة أن كل مكونات الشعب العراقي تجمع، على أن الوجود المسيحي هنا، هو أصيل وأساسي، حضارياً وإنسانيا ووطنياً، وأن هذا الجزء الحيوي من القلب العراقي النابض، يتوجب حمايته والمحافظة على فاعليته ونشاطاته، التي طالما نشرت أيادي بيضاء على مجمل التطور الحضاري الذي شهده العراق على اختلاف الأزمنة والعصور، لكن المشكلة، ورغم كل النيات الطيبة، فإن العراق يكاد يفقد مسيحييه، فهم يتعرضون لهجمة شرسة من قبل القوى التكفيرية التي تضعهم امام خيارات ثلاثة: اعتناق الاسلام - على الطريقة التكفيرية حصرا - او الموت، او مغادرة بيوتهم، وقد اختارت الغالبية منهم الخيار الثالث انتظارا لتحسن الاحوال.
علي السعدي - بغداد

http://www.annahar.com/content.php?table=kadaya&type=kadaya&priority=2&day=Sun