المحرر موضوع: المسيحيون العرب..طليعة النهضة وهمزة وصل التقدم  (زيارة 2296 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Malka

  • عضو مميز جدا
  • *****
  • مشاركة: 4751
  • الجنس: ذكر
    • مشاهدة الملف الشخصي
المسيحيون العرب..طليعة النهضة وهمزة وصل التقدم



 
طارق عثمان*

قال نوبار باشا وهو أحد أبرز موظفي الحكومة (وهو أول رئيس وزراء لمصر فيما بعد) وقد أقامت أسرته في مصر منذ بداية القرن التاسع عشر: \"في ظل خطوات كهذه، فإن حكمة ورؤية سيادتكم سوف تجعل مصر قادرة على قيادة الحداثة في الشرق\". والمخاطب في هذه العبارة هو خديوي مصر وكانت المناسبة هي افتتاح دار الأوبرا بالقاهرة عام 1869 وكانت رابع دار أوبرا في العالم بأسره، وأول دار أوبرا في الشرق الأوسط وافريقيا واسيا.

ولم يكن نوبار باشا –بعيدا عن محاباته للحاكم– مبالغا. فلقد كان هذا العصر واحدا من العصور التي تقدمت مصر فيه تقدما اجتماعيا عظيما وقد شهد تأسيس المؤسسات التعليمية الجديدة والمصانع ودور النشر التي قامت بترجمة الكتب الأجنبية وكذلك تأسيس الهيئات الثقافية. ولقد كان نوبار باشا واحدا ممن كان لهم السبق في هذه الموجة من الحداثة؛ كقادة المجتمع ورجال الأعمال وكبار رجال الدولة الذين ساعدوا أسرة محمد علي الحاكمة في مصر واسياد النظام الاقطاعي في لبنان وباشوات تونس (والعديد من قادة الدول العربية الأخرى) الذين ساعدوا في تقدم بلادهم للأمام. ولقد كان نوبار باشا مسيحيًا كالعديد من هؤلاء النجوم (وكان من أصل أرمنى).

لقد كان المسيحيون العرب في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين لا سيما في مصر وبلاد المشرق في طليعة النهضة العربية التي قادت الدول العربية نحو صحوة اقتصادية وثقافية. لقد أثارت أوروبا عملية النهضة هذه لا سيما عن طريق انفتاح العالم العربي القوي على العالم الحديث ألا وهو فرنسا.

قوة إبداعية

لقد وقعت معظم هذه النهضة في القاهرة والاسكندرية، فعلى سبيل المثال قامت الاسرة المسيحية العربية – تاكلا – بتأسيس جريدة الأهرام عام 1875 وهي الجريدة المصرية اليومية الرائدة (وكانت رائدة في العالم العربي أيضا لعقود من الزمان). لقد شهدت نفس هذه الفترة تقريبا ولادة السينما العربية والمسرح وكان من نتيجة هذه السينما العربية والمسرح ظهور مجموعة من الفنانين العرب المسيحيين البارزين أمثال جورج عبيد. وكذلك وصول ثاني آلة طبع في الشرق الأوسط إلى مصر مع نابليون عام 1799 (وكانت الأولى في لبنان عام 1589).

ولقد كان المسيحيون العرب هم أول من تصور جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة فيما بعد) وهي أول مؤسسة تعليمية في العالم العربي على الطراز الغربي. ناهيك عن \"دار الحكمة\" وهي رمز من رموز القرن التاسع عشر التعليمية التي أسسها وقام بتمويلها المسيحيون العرب. وكان المسيحيين العرب أمثال سلامة موسى وعبد الأنور باشا من أرشدوا عن الانتقال المفاجئ من النظام التعليمي الديني إلى نظام تعليمي ليبرالي.

ولقد كانت المرافق الصناعية الآلية ودور الترجمة والمصارف الأولى في المنطقة هي أيضا وليدة أفكار المسيحيين العرب خاصة في مصر وبلاد المشرق. على سبيل المثال نجد أن معظم الشخصيات الرائدة في الاقتصاد المصرى هي شخصيات مسيحية من صعيد مصر أو أبناء العائلات الأرمنية والمشرقية التي أقامت في مصر منذ عقود من الزمان.

لقد لمس المجال السياسي والقانوني والثقافي و الاقتصادى الاجتماعي مدى تأثير إبداع المسيحيين العرب. كما أن نفوذهم اقترب من الوسط السياسي لمجتمعاتهم في القرن العشرين عندما قامت العائلات المسيحية الرائدة (مثل عائلة الأندراو وعائلة غالي في مصر وعائلات عيضة وخازان بالمشرق) بتقديم المستشارين الملكيين. وكان أول من دعا إلى تطبيق المفهوم الحديث للحكم المدني وفصل الدولة عن المؤسسات الدينية هم شخصيتين مسيحيتين رائدتين من لبنان وهم السياسي البارز \"إيميل عيضة\" والرئيس السابق للكنيسة وهو \"البطريرك أريدا\".

لقد كان حزب \"الوفد\" في مصر وحزب \"البعث\" في المشرق من أهم الأحزاب السياسية العربية الرائدة في معظم العقود المتذبذبة في القرن العشرين والتي أشعلت إلى حد كبير الصراع ضد الاستعمار الأوروبي وتأسيس القومية العربية ؛ فلقد كان قادة هذه الأحزاب شخصيتين مسيحيتين عربيتين بارزتين ألا وهما \"مكرم عبيد باشا\" في مصر و \"ميشيل أفلاق\" في المشرق.

همزة الوصل

لقد لعب المسيحيون العرب دورا بارزا في تطوير المنطقة لقرن كامل من الزمان منذ فجر النهضة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى ذبول الليبرالية في العالم العربي منذ منتصف السبعينيات من القرن العشرين. لقد فاق وجودهم حدود العالم العربي؛ شمال افريقيا (لا سيما تونس) والعراق التى بها مجتمعات مسيحية مؤثرة وفاعلة. لقد كان بروز الشخصيات والعائلات المسيحية مؤشرًا ظاهرا للعديد من الحقائق المهمة وهي أن المسيحيين العرب هم جزء لا يتجزأ من نسيج مجتمعاتهم، وأنهم يرون مجتمعاتهم التي ولدوا وتربوا فيها البيئة الطبيعية لهم من أجل تعزيز وظائفهم وثرواتهم ، وأن المجتمعات العربية هي مجتمعات متسامحة بطبيعتها، وأن هذه المجتمعات العربية اتحدت مع بعضها البعض عن طريق الاعتقاد المشترك بالانتماء لبلد واحد بغض النظر عن الدين، وأن الهوية الشخصية يتم تحديدها إلى حد كبير عن طريق الانتماء الوطني، لقد غرست الهوية والانتماء التماسك.

لقد لعب المسيحيون العرب منذ قرون من الزمان العديد من الأدوار الحيوية في مجتمعاتهم، على سبيل المثال، كانوا همزة الوصل الثقافية بين الحضارة الاسلامية السائدة في الشرق وبين أوروبا، وكانوا أدوات التقدم، وممثلي التنوع الدينامي في قلب العالم الاسلامي وكانوا بوتقة الثراء والتعدد في الهوية العربية أيضا.

\"أنا مصرى بالجنسية، مسلم بالثقافة\" هذا هو الشعار المشهور للمسيحي المصري مكرم عبيد باشا ولعل هذا الشعار هو أبرز وأوضح تعريف لرؤية المسيحيين العرب المستنيرين لهويتهم وانتسابهم الثقافي ودورهم الاجتماعي. لقد أدرك عبيد باشا الذي انتخب عضوا في البرلمان المصري لأكثر من ست مرات أن العالم العربي هو عالم اسلامي بالتاريخ والديموغرافيا ومع ذلك أكد أن المسؤولية التي حملها المسيحيون العرب هي حماية الحضارة الاسلامية من خطر العزلة والانسحاب وفتحها على العالم والقيام بدور الجسر الثقافي بينها وبين الغرب.

التيار الإسلامي والتيار المسيحي

يتضاءل دور المسيحيين العرب في هذه الايام والسبب وراء هذا التضاؤل هو اجتماع عدد من العوامل منذ سبعينيات القرن العشرين منها ذبول (إن لم يكن هزيمة) القومية العربية والصعود المفاجئ للتيار الاسلامي \"Islamism\" وانتشار حركة التبشير \"الوهابية السعودية\" المتحمسة والتي تساندها ثروة غير مسبوقة وإعادة توجيه ملايين المصريين ومواطني المشرق الذين سافروا إلى الخليج سعيا وراء فرص عمل أفضل.

ونتيجة لهذه العوامل المتراكمة كان التغير في عقلية العالم العربي وهي تراجع القومية وترك مساحة عظيمة للدين وتراجع الهوية الوطنية وتقدم الهوية الدينية واستبدال التقاليد التي استوردت من الغرب أثناء عقود الحداثة والتنوير تدريجيا بالقيم الدينية كالروحية والمحافظة وكذلك أصبح الاسلام السياسي هو القوة التي أصبح الشباب يرتبط بها ويدعو لها.

وبمجرد انسحاب القوى الليبرالية الفعالة وتهميش المنتديات والاجتماعات، قامت المجتمعات العربية (مصر والاردن وفلسطين والجزائر ومجتمعات أخرى) بتغيير وجهتهم من باريس ولندن إلى الرياض والكويت وأبو ظبي. علاوة على ذلك، فإن هيمنة التيار الاسلامي \"\"Islamism عمت في كل مكان، ولكن هناك صعود قوى مماثل للتيار المسيحي \"Christianism\" وهو عبارة عن قوة اجتماعية دفاعية محافظة تهدف إلى الحفاظ على هويتها واسلوبها في الحياة ضد التيار الاسلامي.

وهذا بعيد تماما عن التحررية القديمة. ولقد تحللت المجتمعات العربية على أساس الدين بين هذين التيارين، التيار الاسلامي والتيار المسيحي. وخير شاهد على هذا التحلل، على سبيل المثال، هو التضاؤل السريع للمؤسسات التاريخية في المجتمع المدني في مصر (اتحادات التجارة والجمعيات المهنية والنوادي الاجتماعية والجمعيات الخيرية) عندما تواجه النمو الزائد للقوة الدينية. وما هو ملفت للنظر أيضا هو رؤية الصعود الدرامي لنفوذ المؤسسات الدينية في وسائل الاعلام والجامعات، ومنذ الربع الأخير من القرن العشرين سيطرت الجامعات ذات التوجه الاسلامي وباستمرار على نقابات المحامين والمعلمين والمهندسين والاطباء والصحافيين (وكذلك اتحادات الطلاب في جميع الجامعات الرئيسية).

يمثل الأقباط نسبة 15 بالمائة من نسبة السكان في مصر، ودين المسيحية دين متماسك قائم على التجمعات التي نشأت في المؤسسات التعليمية الخاصة والشركات متوسطة الحجم والمهن المتخصصة، وتربطهم روابط قوية بالكنيسة. كذلك استطاعت مدارس الاحد ان تسترد نفوذها بعد أن تراجعت في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، وتعاظمت كذلك الجرائد المسيحية والنوادى الاجتماعية المسيحية والجمعيات الخيرية المسيحية. وفي نفس الوقت بدأت النزعة الطائفية تكتسب بعدًا خطيرًا للغاية.

ففي عام 2006 كانت إحدى المسرحيات التي ادعى البعض أنها تسخر من الاسلام كانت سببا في نشوب صراعات طاحنة في الاسكندرية، وكذلك اهتداء سيدة مسيحية للاسلام أشعل شغبًا عنيفا ومقالات نارية، واشارة قوية لاستياء البابا القبطي المصرى (في عام 2007 أثارت محاولة تحويل ديانة احد المسلمين إلى المسيحية نفس مشاعر الغضب هذه).

تراجع الانتماء

ليس هناك انذار بوجود شقاق طائفي في مصر ولكن تمر الدولة بانسحاب الجزء الرئيسي من مواطنيها الاقباط من قلب الحياة الاقتصادية الاجتماعية. هذه الظاهرة والظاهرة المرتبطة بها وهي الهجرة وتجمع الاقباط لا يبشران بخير للمجتمع المصرى بأسره. إن انحطاط المشاركة الفعالة للأقباط العرب في السياسة والحركات الاجتماعية المحورية في الدولة لهو خسران عظيم وذلك بسبب الثقل الديموجرافي للمجتمع ولأن هذه الظاهرة تمثل تراجعا من المشاركة الفعالة التي لا يستطيع المجتمع العربي الذي يعاني العديد من مشاكل التطور أن يتحملها.

ما زال الاقباط العرب يمتلكون قوة اقتصادية متناسبة مع كل المجتمعات التي لهم فيها وجود (التجربة المأساوية للعراق تعتبر حالة خاصة). وبالرغم من ذلك تم تقييد هذه القوة الاقتصادية فلم تتم ترجمتها إلى مشاركة فعالة في تشكيل مستقبل المجتمع. ولكن ما يحدث هو العكس تماما في حقيقة الأمر فلقد تم تمرير مصالح الاقباط المهمة باستمرار خارج أوطانهم.

التحدي الجديد للتنوع

إن تضاؤل دور الاقباط ليس مشكلة مصرية فحسب، فلبنان تواجه تحديًا كبيرًا في بناء الروابط الحقيقية بين مجتمعاتها العقائدية المختلفة. لقد شهدت العقود الزمنية منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين حربًا أهلية مدمرة وحروبا مع اسرائيل انقسامات طائفية حادة والصعود الدرامي للتيار الاسلامي Islamism (لا سيما حركة حزب الله) كل هذه العوامل ادت إلى ازدياد الوعي الذاتي المسيحي اللبناني وتأكيد الذات. لقد تم تهميش دور أقباط سوريا وفلسطين والأردن واليمن تهميشا حادًا. أما أقباط العراق فهم ببساطة يتركون بلادهم فهناك أكثر من 200000 فرد تركوا البلاد منذ بداية الحرب عام 2003 وقليل منهم سيعود.

لقد كانت كلية البروتستانت السورية هى أول مؤسسة على الاطلاق في بيروت لتعليم الكتاب المقدس باللغة العربية مما أدى في الحقيقة إلى \"تعريب\" المسيحية الشرقية ودمجها في الثقافة العربية وكذلك نسج النزعة العربية \"Arabism\" في المسيحية الشرقية. ويبدو أن المؤسسات العظيمة تحتفظ بعظمتها، فلقد استمرت هذه الكلية التي تحولت الآن إلى \"الجامعة الامريكية في بيروت\" لسنوات طوال في التنوير والتثقيف و الإلهام فكان \"إدوارد سعيد\" من بين مفكريها الرواد القبطى العربى الذي خلق اسلوبا جديدا لرؤية كل من الشرق والغرب من الجانب \"الآخر\" والذي ظل رمزا للجسر الثقافي بين العالم العربي والعالم الغربي.

التنوع هو رمز الثراء ومصدر الحيوية في المجتمعات. فلقد كانت الأندلس رمزا اجتماعيا تنويريا للعرب والاسلام في عصور اسبانيا الوسطى. وكان لهذا أثره عندما كان مجتمعا مزدهرا ضم المسلمين والاقباط واليهود وكان مجتمعًا متفتحا لقبول الافكار الابداعية والليبرالية والتقدمية وكان مجتمعًا متسامحًا. فلقد أثبت الاسلام على مدى تاريخه أنه دين يدعو إلى التقدم لدرجة احتوائه بل وتنشئة \"الآخر\".

ولا ريب أن القوى السياسية الاسلامية سوف تستمر في زيادة تأثيرها الهام على مستقبل العالم العربي من الخليج حتى المغرب. أما الاختبار الحقيقي هو هل سيقدر الاسلام السياسي – عند غلبته – دور الأقباط العرب ودفعهم لدور الشريك الكامل أم لا، وهل سيظل الاقباط العرب يريدون القيام بهذا الدور أم لا؟!

* رجل أعمال مصري مقيم في لندن، والمقال ظهر في الأصل في موقع \"اوبن ديموكراسي\".
xcl4x

موقع العرب اولاين
http://www.alarabonline.org/index.asp?fname=%5C2007%5C10%5C10-03%5C440.htm&dismode=cx&ts=03/10/2007%2009:30:15%20%D8%B5