الرسالة 16 من تحت الأنقاض
صديقي العزيز:
بعد التحية والسلام، أبعث لك مع هذه السطور أنيني وآهاتي المنبعثة من القلب المنكسر جراء ما يراه ويسمعه بل ما يعيشه على أرض الواقع في عراقنا الذي أحببناه وتمنينا يوما أن نعمل معا من أجل أن يكون مع دول العالم الأخرى متساويا ومتنافسا بشرف لكي يعتلي سلّم المجد، ومَنْ سيرفع من شأنه غير أبنائه البررة المخلصين؟
عزيزي: شاءت الأقدار لي أن أتحرك قليلا من الموضع الذي احتضنني طوال عمري الذي تجاوز الخمسين، لم اتزحزح منه إلا عند الضرورة القصوى لأبقى متواصلا معه بروحي وجسدي، أعمل واجتهد كي أكون عنصرا نافعا يُشار له بالبنان؛ استخدمت المعول والمطرقة والقلم والكومبيوتر وحسب مراحل عمري لكي أطاوع كل هذه من أجل لقمة العيش الشريفة لي ولعائلتي ولكي تكون النتائج مع ما يرشح من نتائج أخوتي الآخرين تكون محصلتها خدمة جليلة للبلد الذي أحببناه.
وكان تحركي هذه المرة للبلد المجاور سوريا من أجل الصحة والنقاهة ولأيام معدودة، ورغم أن هذا البلد جميل بقياسات كثيرة لكنني تألمت كثيرا لما شاهدته من أحوال من هرب من الأنقاض التي تحاصرنا في بلدنا العراق، حيث وجدت هاربين بالآلاف كل من أجل غاية في نفسه أو لسبب دفعه للهروب، فهناك وجدت هاربا من القتل وآخر من الخطف وثالث من التهديد ورابعا من السلب وهكذا تعددت الأسباب والهرب واحد!!!
وجدت أحيائا بكاملها أصبحت عراقية صرفة بحيث تجد تسميات عراقية في كل مكان؛ فالمحلات والشوارع أصبحت مألوفة من أسمها وحتى الباعة عراقيون والذين يتحدثون في الأزقة هم هكذا ولهجتهم عراقية ... كل شيء عراقي، شارع الفلوجة في دمشق وشارع بغداد أيضا وقاسم أبو الكص ومطاعم كثيرة بنفس تسمياتها العراقية، محلات للحلويات، بقلاوة عراقية وزلابية وغيرها، صالات للإنترنيت كامل من يرتادها عراقيون، جوامع وكنائس تغص بهم، عندها قلت مع نفسي الله يساعد هذا البلد وهذا الشعب على الثقل الكبير الذي يحدثه العراقيون بوجودهم على هذه الأرض الخالدة.
تصور أيها العزيز أن اعدادهم أصبحت بالملايين وربما سيصبحون رُبع سكان سوريا، هذا البلد الذي كان يعاني من قلة الموارد وفرص العمل وأمور كثيرة، أصبح بلداً كريما مع أهلنا الذي يتمزق قلب أي إنسان يحمل أبسط المعاني الإنسانية عندما يتعرف على تفاصيل المعاناة ومقدار الضغوط التي مورست ولا زالت تمارس ضده.
إنَ حرَّ هذا الصيف هو الذي دفعني لكي أهرب لأيام من بغداد هذه العاصمة الحبيبة التي شهدت تخرجي من الابتدائية والمتوسطة والثانوية وحتى الجامعة الذي كنت انا أحد خريجي دفعتها الأولى عام 1976، واعتقد أنك لم تنسى مقولة الشيوخ عن شهر آب، عندما كانوا يتحدثون بقولهم أول عشرة من الآب تموّع (تُذيب) البسمار في الباب!!! وثاني عشرة من الآب تقلل العنب وتكثر الأرطاب (التمر) وثالث عشرة من الآب تفَتّح من الشتا باب، هكذا كان آبنا (شهر آب) هذه السنة بل أكثر شراسة بحرِّه من أي شهر آخر في السنة ومما زاد الطين بلّة هو انعدام الكهرباء كليا وأصبحت تأتي حسب أغنية فيروز (زوروني بالسنة مرة!!) أصبحت الكهرباء تزورنا بالأسبوع مرة ولمدة 90 دقيقة لا غير ومتقتطعة، والأمر الذي فاقم مشكلتنا هو عطل المولدة المحلية التي تغذي زقاقنا جراء عطب أدى لتوقفها هي الأخرى ومولدة البيت الصغيرة لم تعد تحتمل التشغيل الطويل فازادت عطلاتها فضلا عن مشكلة توفير الوقود لها الذي اختفى تماما حتى من السوق السوداء مما أصاب جسدي بعدوى الحمى وانتشرت فيه بثور حمراء عزاها المختصون للحر الشديد ونصحوني بالسفر والنقاهة، وهكذا سحبت جسدي من الانقاض المتكدسة حولي لأكون مرغما بعيدا عنها وكانت لي هذه الفرصة مناسبة لأستكشف حال الهاربين الذي لا يسرُّ لا عدو ولا صديق مطلقا.
إنهم يا عزيزي مُدمني النوم!!! فماذا يفعلون لو صَحوا منه مبكرا؟ فتجدهم يستمرون في نومهم حتى ساعات الظهيرة وينامون متأخرين يسلّون أنفسهم بمراقبة برامج الفضائيات، مختصرين وجبة طعام أحيانا ضغطا للنفقات!!! ومن أين لهم توفير هذه النفقات خاصة في حالة عدم وجود المُنقذ سواء كان من داخل العراق أو من دول المهجر الذين استقروا بعيدا خلال السنين الخوالي تماما كما انت عليه اليوم، فالعمل إن وجد هناك فتعب كبير مقابل أجر زهيد، والكثير منهم تحدث معي حول أرباب العمل الذين لا يعطون لهم سوى نصف ما يعطوه لأبناء بلدهم!!!
وكل هذا والإيجارات مستمرة بالصعود والأسعار كذلك وسعر الصرف يتدنى وفُرص العودة معدومة والخروج بعيدا أيضا بالقطارة؛ فدول العالم لا تستطيع قبول لجوء في بلدانها بالملايين وهذا من بلد واحد فقط هو العراق، فما بالك ببلدان أخرى كثيرة في العالم يهرب منها سكانها نتيجة أوضاع مشابهة لما يشهده العراق، فحتى هذا البلد (سوريا) أحدثنا فيه شحة في الطاقة الكهربائية نتيجة الزيادة المفاجئة بعدد المتواجدين على أرضه من أهله والعراقيون بحيث أصبحت هذه أيضا تنقطع وينظمون لها برمجة كي لا يصيبها الخلل والعطل عند زيادة الأحمال ودون حساب.
شعرت رغم جو الحرية والأهل الكثر الذين التقيتهم هناك بالاختناق وأيقنت أن الاختناق ليس بسبب قلة الهواء دائما أو حتى انعدامه فقط، فقد يختنق الانسان في الازدحام ومن السقوط تحت الأقدام ومن مواقف كثيرة، وإنا شعرت بالضيق كله الذي يشعر به أهلي هناك خاصة عندما جلست في حلقاتهم التي تسيطر عليها الشائعات، فمن همه الإقامة وآخر أخبار اللجوء والأمم المتحدة أو السفارة الكندية أو الاسترالية أو غيرها من السفارات ويتناقلون أخبار التأشيرة الجديدة التي أصبحت سيفا يقلقهم لأنهم يخافون بأن أقامتهم ستصبح غير قانونية بعد نفاذ المدة المحددة كونهم لا يستطيعون المغادرة لأنهم سوف لن يحصلون على التأشيرة مجددا كونهم ليسوا من التجار أو أساتذة الجامعات أو من الكوادر العلمية فغالبيتهم العظمى هي من العناصر الكادحة التي لا حول لها ولا قوة .
عزيزي: إن اهلنا في سوريا انتقلوا من أجل حلم راودهم ومن ظلم طالهم وللابتعاد عن الأيادي والخناجر التي كانت تتربص بهم بحثا عن الحرية والملجأ الأكثر أمنا ليستقروا في حال فيه من المنغصات بحيث يجد بسهولة من يتحدث ان شر العراق كله أرحم من الحالة التي هم عليها لأنهم خسروا كل شيء ولم يعودوا قادرين حتى على العودة وأنهم يخافون ممن يشمت بهم ويقول لهم: بأي حال عدتم يا عراقيون؟
وكأن القدر بالمرصاد لنا أينما نذهب يلاحقنا التعب والظلم ورغم أني قطعت الطريق البري الطويل من الشام إلى ربيعة الذي لم يكن متعبا إلا من طوله، ورغم أنني انتقلت إلى الطريق البري العراقي المليء بالحُفَر والمطبات وأصبح متهرئا يشكو من قلة الصيانة بل انعدامها، لكنني شعرت بأنني عدت إلى الجنة التي انتظرها وأن الانقاض التي تحيط بي في بغداد وأنا أكتب لك أرحم من ذل الغربة وبالشكل الذي وصفته لك، لكنني عدت وجسمي متعافى وفيه من الشحنات ما يكفيني لاستمر بمقاومة الشر والظلم إلى حين آخر، وإلى ذلك الحين لك مني أجمل سلام.