بمناسبة تكريم الصديق ميخائيل ممو
حينما قرأتُ في موقع عينكاوة خبر تكريم الصديق الأديب ميخائيل ممو كأفضل مدرّس للغة الأم لعام 2007 من قبل الجهات السويدية، إنتابني شعور الفرح الطافح وقلتُ في نفسي الّتي تحاول دائماً جاهدة سبر اغوار المجهول في شُتات الغربة، قارات وبلدان ومدن وقرى، بأننا قادرون على صنع المستحيل لأنّ لنا في التاريخ السحيق امتداد طويل. ألسنا نحنُ اول من إكتشف الحرف ومن ثمّ الكتابة وقدّمناها هدية للعالم؟ الم يكُنْ كلكامش من صلْبِ تاريخنا وتراثنا، ذاك الّذي سعى الى معرفة الحقيقة والخلود بعد أنْ إكتشف سرّ الموت؟ ألمْ نَكُنْ نحنُ اوّل من صنع الحب والجمال، أُسّ الحياة وسرها، حيثُ قيثارة ديموزي ما أنكَفَأتْ منذ فجر التاريخ وليومنا هذا تصدح الحاناً وولهاً بالحبيبة عشتار الرمز في اروع صورة لهذا الخلق الأنساني الثنائي المتكوّن من هو وهي؟ أليستْ أنانا ورحلتها الأسطورية الى العالم الأسفل عبر البوابات السبع، نزولاً وصعوداً، امتدادنا في هذا التاريخ السحيق والغني ليعكس قدرة ذلك العقل على صنع الأس الفلسفي والمعرفي للحياة، ولو على شكل اسطورة، اذا اخذنا بنظر الأعتبار انّ الأسطورة كانت مغامرة العقل الأولى على حد تعبير فراس السواح.
هلْ استطيع أنْ لا اذكر حمورابي الّذي علمنا اولى مبادئ القانون كون القانون اساس التحضر؟
ومع ذلك ايها الصديق ميخائيل دعني اردد قول الفيلسوف والشاعر الفرنسي بودلير حينما قال "إنّ كأسي صغيرة لكنّي أشربُ منها". نعم أنّ هذا التاريخ الزاخر وتلك الحضارة الرائعة تجعل من كأسنا صغيراً، لكنّه هو الاخر زاخر، زاخر بالجهد والمثابرة، زاخر كونه يجعلنا ننتمي الى ذلك النصف الحي وليس الى النصف الميّتْ.
ليس غريباً إذن انْ يتمْ تكريمك كأفضل معلّم للغة الأم في هذا الجزء من صقيع العالم، فنحن قادرون على بث الدفأ في هذا الصقيع لأننا نستمدُ زيت سراجنا من ذلك التاريخ المنير، فكما فعلناه قبل عصور سحيقة، فنحنُ قادرون على فعله اليوم فقط إذا توفرت الأرادة والرغبة وأنْ نكون احراراً في تفكيرنا وأنْ ننطلقُ في مواقفنا مما يمليه علينا عقلنا وأن نكون علميون وليس ايمانيون وألاّ انتهينا أنْ نكون حضريون وحداثويون وعلمانيون في كل مواقفنا وسوف نكفُّ انْ نكون فراديون ونتحول انذاك الى مجرد رقم في قطيع. يقول الكاتب الروسي نيقولاي غوغول في رائعته "الأنفس الميتة" ما يلي : "إنّ بعض الناس يعيشون في هذا الوجود لا كشخصيات مستقلّة بذاتها بل كالبقع واللطخ على شخصيات الأخرين".
ايها الصديق ميخائيل.. مناسبة تكريمك هذه علينا انْ نتأمل منها ومنك أنْ تكونَ ذلك الأنسان الّذي عرفته دؤوباً ومثابراً، لكي يستطيع أنْ يقدّم شيئاً يختلف عنْ المألوف السائد والّذي هو في غالبه راكداً. وما اطمح اليه منك شخصياً في مجال اللغة هو الآتي:
• أنْ يصار الى تطوير لغتنا لأنه لا يمكن لأمة انْ تتطور بلغة متاخرة، فكلّما تطورت لغتها تطورت هي الأخرى.
• أنْ لا نحيا في حضارة لا نشارك في صنعها، فقدْ كنّا يوماً صنّاع اول حضارة اعطتْ للعالم ما أعطتْ.
• أنْ لا نُسْتَلَبْ ونتغرّبْ كوننا لا نستطيع أنْ نخرج من الطوق المضروب على اللغة المثقلة بالقيود وما اكثرها من لاهوت وطقوس واعراف وتقاليد تعيق تطورها.
• أنْ نكونَ في سعينا انصار الفكر والعقل لا انصار العاطفة في موقفنا من اللغة.
أنا اعي ما اقول ايها الصديق العزيز.. فليس من المعقول أنْ ندّعي الأنتماء ألى تاريخ وحضارة وثقافة كانتْ ولا زالت مصدر إلهام لغيرنا في البحث والدراسة والابداع، أما بالنسبة لنا فهي مجرّد إطلال نقف عليها شاكين لها فشلنا ومعلقين على مشاجبها كل اخفاقاتنا وعجزنا. اللغة هي روح هذه الحضارة وذلك التاريخ وتلك الثقافة فماذا عملنا بهذه اللغة اليوم؟. لقد تمّ إثقالها بقيود اللاهوت والتقاليد وأُرهِقتْ لدرجة تمّ نسيانها. إذن نحنُ بحاجة ألى أناس يسبرون اغوار وبطون الكتب ويقلّبون صفحات التاريخ ليزيلوا الغبار الّذي تراكم على اللغة ليعدوا صقلها لتكون كما كانتْ حية، عطرة ومعطاءة تماماً مثلما هبّ يومُ من الأيام علماؤها واساطينها فترجموا علوم الأغريق من طب وفلسفة ومنطق واداب اليها ومن خلالها الى اللغة الشقيقة العربية في اروع حركة للترجمة شاهدتها المنطقة في العصر العباسي.
أنت تتذكر معي ايها الصديق ذلك اللقاء الذي جمعنا مع الشاعر الراحل سركون بولص حينما تحدثنا عنْ الحاجة الى لغة شجاعة وعلمية تستوعب العصر وايقاعه السريع ومتغيراته، لغة تجعلنا داخل التاريخ لا خارجه، نشارك من خلالها في صنعه لا انْ نكون متفرجون على احداثه. وقتها دار مثل هذا الحديث عنْ قدرة وشجاعة لغة شقيقة في انْ تعكس روحية الترجمة من لغة اجنبية وكان ذلك على هامش حوار دار بين الشاعر سركون بولس والشاعر الأميركي آلن غينزبورغ حول ترجمة احدى قصائد الأخير. ما اريد توكيده هنا هو انْ تكون اللغة الّتي نعبّر من خلالها عنْ ذاتنا وهويتنا ووجودنا الأثني والثقافي والتاريخي لغة تبحث في مخاض ونضوج الروح الحية فينا، لغة تتعدد فيها اصواتنا كتعدد اصوات الآلآت الموسيقية في فرقة سمفونية فرغم تعدد الالات وتنوع الاصوات الاّ انها في النهاية تخلق تلك الهارمونية في الوصول الى المنشود من ذلك التنوع. لغة تجعلنا نحس ونشعر باننا جميعاً ودون استثناء قدمنا القربان في سبيل تأكيد الذات الجمعية والفردية، ومن خلالها نجد انفسنا في ذات المركب وآلامنا تكاد تكونً واحدة ويأتينا الرجع من بعيد بأنْ لنا نفس الأوجاع والمسرّات عندما يتعلّق الأمر بالأنتماء.
يقول شكسبير على لسان بطله هاملت: "الآن انا وحدي". هذه اللحظات من الوحدة اعتقدها مطلوبة ممن يتعامل بالكلمة لكي يستطيع انْ يتأمل ويجد من خلال هذا التأمل وجوده تماناً كما كان يقول ديكارت"انا افكر، إذن انا موجود" . شقاؤنا في اننا لا نعطي لأنفسنا متسع من الوقت لكي ننفرد مع ذواتنا لنتأمل ما نشاهده ونراه ونسمعه عندما نكون في زحمة مع الناس، لأنه يالذات هذا الأنفراد سيعطينا المجال والقدرة لكي نحلل كل ما وقع عليه بصرنا وسمعته اذاننا لكي نستطيع ان نقول ما يراد قوله، لا اقول كلّ شئ، لكن ما نؤمن به مقتفين بذلك قول عمانوئيل كانط "إنني لا استطيع انْ اقول كلّ ما شئ، لكنّي لنْ اقول إلاّ ما أؤمنْ به فعلاً".
الدكتور داود كوركيس داود