المحرر موضوع: لتبقَ محفوظاً في ذاكرة التأريخ يا أبن العراق  (زيارة 1069 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل adel amin

  • عضو جديد
  • *
  • مشاركة: 2
    • مشاهدة الملف الشخصي
لتبقَ محفوظاً في ذاكرة التأريخ يا أبن العراق

(ستبقى  في ذاكرتنا حياً يا أبا عامل )
الزمان تشرين الثاني عام  1970 ’ المكان المدرسة الحزبية في موسكو ’ كان عمري آنذاك بحدود 24 عاماً ’ ولم يكن لي المعرفة الشخصية بقياديي الحزب في ذلك الحين ’ ألا العدد القليل منهم ’ من الذين كنت قد ألتقيتهم وتعرفت عليهم في بعض الأجتماعات الحزبية ’ أو مناسبات معينة ’ أما الأخرين  فقد كنت قد سمعت بأسمائهم دون أن أعرفهم بالوجه (ولعمري لو بقيت بعض تلك الأسماء  في الذاكرة فقط  دون اللقاء بهم ومعرفتهم عن قرب لتجنبنا آنذاك الكثير من حالات الأحباط  بسبب  الشوائب  التي علقت  بهم نتيجة  لتصرفاتهم )
 بعد أيام من وصولي الى موسكو أستدعيت من قبل المسؤول الحزبي للمجموعة العراقية الى غرفته ’ وكان شخصا مهيبا بمظهره الجدي والصرامة التي تكسو محياه ’ طلب مني بعض المعلومات عن وضعي الشخصي ’ المهنة ’ موقعي الحزبي ’ المنظمات التي عملت فيها في بغداد...الخ من هذه الأسئلة ’ طريقة توجيه الأسئلة و الأستماع الى الأجوبة تنقلك الى أجواء بغداد ’ الى شوارع ’ الكفاح ’ الرشيد ’ الشيخ عمر ’ الكرخ ’ الثورة ’ تل محمد ...الخ ’ ثم تلا عليّ مجموعة من الضوابط و القواعد المرعية في المدرسة و ضرورة الألتزام بها وعدم الخروج عنها ’ وأية خروقات تحصل  ستعرّض الرفيق المعني للمحاسبة الحزبية ’ ثم تلا عليّ رزمة من الموانع’ على سبيل المثال ’ المبيت خارج القسم الداخلي ’ العلاقة مع البنات ’ الشرب في القسم ’ ويفضل عدم الشرب خارج المدرسة أيضاً للحفاظ على سمعة الشيوعيين العراقيين ’ أمام الرفاق السوفييت والموسكوفيين .الخ   ’ يجب تكريس الوقت كله للدراسة و بذل أقصى الجهود لأستيعاب المواد الدراسية على أكمل وجه ’ والتفوق على مجاميع الأحزاب الشقيقة’علينا الأستعداد والتهيئة سياسياً و فكرياً لخوض معارك مقبلة ’ للعودة والعمل لأعادة بناء منظماتنا و أسترجاع عافية الحزب .الخ من هذه التوجيهات و النصائح.
 شاب في مقتبل العمر وخارج تواً من بغداد ومن أزقتها الفقيرة وفي ظروف الأرهاب والمطاردات الى أوروبا ’ وللوهلة الأولى وضعت أمامه كل تلك الموانع ! مثل تلك النعجة الجائعة ربطوها في وسط مرج  أخضر و أغلقوا  فمها !  فكرت مع نفسي في تلك اللحظة ’ لقد تعلمتُ بعض فنون العمل السري داخل الوطن لا بأس من الأستفادة من تجاربه في الخارج لأغفال بعض تلك الموانع والتحايل عليها ’ ليكن ساعة لقلبي و ساعة لربي ’ لكن هذا المسؤول صعب المراس هل يمكن الأفلات منه ؟ خاصة إذا طبق تلك الموانع على نفسه قبل الأخرين.
 خرجت من عنده و أنا مذهولُ من شدةّّ المفاجأة ومن تلك الموانع و هذه الصرامة بالتعامل ومن اللقاء الأول .
 في مساء نفس اليوم ألتقيت بالرفيق المرحوم أبو زمان ( صاحب الحميري ) ’ وأبو زمان غنيٌ عن التعريف ’ هو مثل أمين السجل المدني في معرفته لأغلب القياديين والكوادر القديمة في الحزب ’ يعرفهم أصلاً و نسباً ’ نظراً لأنتمائه القديم للحزب ومروره بالسجون والمواقف ومزاملته  للقيادات المتعاقبة ’ خلاصة القول أنه عليم بكل شئ ’ وهو أرشيف لا غنى عنه .
قلت له ’ رفيق أبو زمان ’ أنا أنتميت للحزب بعد أنقلاب  شباط وفي ظروف العمل السري ولا أعرف الرفاق القياديين إلا بالأسم ’ وأسمع عن بعضهم وصفاتهم ونضالاتهم وبطولاتهم.الخ  ’ لكن أعتقد هناك مبالغة في قسم من تلك المواصفات ’ كنت قد سمعت مراراً عن الرفيق أبو حكمت (يوسف حنا ) بأنه رفيق لطيف و ظريف وصاحب نكتة  ’ ألتقيتُ به اليوم ولم أجد أية صفة من تلك الصفات تنطبق عليه ! رأيته أنساناً جدياً أكثر من اللازم ’  قليل الكلام ’ صارم وحاد ’ حتى أني رويتُ له نكتة لتلطيف جو اللقاء ’ لم يكلف نفسه حتى بأبتسامة لنكتّي ’ سألني أبو زمان :
ـ متى ألتقيت به ؟
ـ اليوم ’ في غرفته ’ التي هي مقر المكتب الحزبي في نفس الوقت.
أندهش أبو زمان في الوهلة الأولى ’ ثم بدأ بالضحك ’ وقال :
ـ هذا ليس أبو حكمت ’ هذا اخوه ’ لكن من غير أٌم وغير أب .
ـ تقصد أخ روحاني ؟
ـ تقريباً ’ لكن في مسلك معاكس ’ واحد صورة شمسية والآخر كهربائية ’ واحد عامل نسيج والآخر عسكري و محامي ’ ولك أبو الهمايون ’ وهذه عبارته المفضلة عند المزح و ملاطفة رفاقه ’ هذا ليس أبو  حكمت ’ هذا أسمه أبو عادل (سليمان ) مرشح المكتب السياسي بعد المؤتمر الثاني ’ عسكري و محامي ومن مجموعة ضباط قطار الموت عام 1963.
كان هذا أول لقائي بالرفيق المرحوم أبو عامل (سليمان يوسف أسطيفان ) ’ رأيته بالشكل ولم أعرفه بالأسم ’ عكس معرفتي بالأخرين ’ وشاءت الظروف أن أواصل الرفقة الكفاحية معه مدة 19 عاماً ’ تخللها الخصام و الودّ ’ الأختلاف و الأتفاق ’ النجاحات و الأخفاقات ’ وفي ظروف متنوعة و أماكن مختلفة ’ في موسكو ’ بغداد ’ بيروت ’ كوردستان و سورية ’ في أوقات الدراسة الحزبية ’ وأيام الجبهة  ’ وفي شوارع بيروت نجمع قطع السلاح من المنظمات الفلسطينية ’ للتهيئة للكفاح المسلح  وفي القامشلي وكوردستان لنقل الرفاق والسلاح الى الوطن ومرة آخرى في دمشق  بعد هجوم النظام البائد بالسلاح الكيمياوي على كوردستان وأنسحاب المقاتلين الأنصار ومقاتلي الأحزاب الكوردستانية من مواقعهم .
خلال تلك الرحلة الطويلة نسبياً ’ كانت العلاقات رغم بعض المنغصات تتعزز بيننا يوماً بعد يوم وتتحول من العلاقات الرفاقية الى علاقات الصداقة و الثقة والأعتزاز والأبوة و الهموم المشتركة.
  أنه لأمتياز للقائد الحزبي أن يجيد جميع  فنون السياسة ’ الدبلوماسية ’ المناورة والنضالات السلمية  والعنفية والفكرية وربما فنون آخرى لم تخطر ببال ’ لكن لا يقلل من شأن القائد إذا أفتقر الى جانب من هذه الجوانب ’ الفقيد الراحل لم يكن مناوراً ’ ولم يكن يجيد فن تشكيل المحاور و البطانات ’ لكنه  كان مقاتلاً  عنيداً  ضد العدو  و إنساناً صادقاً’ مخلصاً لعقيدته ’ نبيلاً مع رفاقه ’ لم يكن للأنتماء الديني ’ الطائفي ’ المناطقي أو القرابة أي دور في تقييمه لرفاقه ’ النشاط والأخلاص هما المقياس لتقييمه للرفاق العاملين معه ’ لذلك كان حوله الكوردي و العربي والتركماني ’ المسلم ’ المسيحي و الايزدي و مكونات الشعب العراقي الآخرى .
لا يختلف إثنان على نزاهته ’ كان نظيف اللسان والخلق ليس فقط مع الذين يقودهم فحسب ’ لا بل حتى مع رفاقه في القيادة ’ لم أسمعه طيلة فترة عملي معه قد تفوّه بكلمة سيئة على أحد من رفاقه في القيادة ’ كالذين يدونون مذكراتهم هذه الأيام في كتيبات مليئة بالأفتراء والكذب ونهش الأخرين ومحاولات الأخفاء والتشويه بأوسخ الأشكال و الصور أما هم أنفسهم يرتدون أثواب العصمة والتجرد من الأهواء و الغايات والخلفيات الشخصية والمواقف الذاتية والمزاجية .
  لقد كان الفقيد الراحل شديد الأيمان بالقضية التي يناضل من أجلها واثق من أنتصارها عاجلاً أم آجلاً ’ أتذكر كنا في لقاء مع أحدى منظمات الحزب الشيوعي في أرمينيا وألقى كلمة في ذلك اللقاء ’ قال فيها نحن نحسدكم ( أي الرفاق الأرمن ) أنتم بنيتم الأشتراكية قبلنا ’ لكن للأسف ’ عندما نطق بتلك العبارة وهو مليء الثقة بأنتصار قضيته ’ لم يكن قد خطر بباله ولا ببال أحد منا ’ من الذين معه من أن هذا الصرح العظيم ( الأتحاد السوفيتي ) سينهار بعد عقدين ونيف من الزمن يتيماً تحت ضربات البيروقراطية و الفساد ولم يجد من يدافع عنه.
  قد تكون صرامته حول الضبط و النظام و أتباع القواعد العسكرية موضع الجدال عند البعض ’ لكنه كان  منسجماً  في كل تلك الأمور مع ذاته ويفرض تلك الضوابط على نفسه قبل الآخرين ’ وعندما  يـُسأل لماذا أنت قاس مع ذاتك الى هذه الدرجة ’ كان يردد قول النبي محمد صلوا كما رأيتموني أصلي .
   كان مواطناً جهادياً لوطنه و ثائراً لأجله ’ لدرجة الأفراط ’ الحياة بالنسبة له هي العمل و النضال ’ في أحد الأيام في بيروت كنت مرهقاً ’ طبعنا جريدة طريق الشعب السرية ليلاً والتحقت نهاراً بالعمل في المطبعة ’ جاءني الفقيد أبو عامل مساءاً ’  طلب مني مرافقته بعلم الرفيق فخري كريم لجلب عدة قطع من السلاح من أحدى المنظمات الفلسطينية ’ كنت مرهقاً وترجيتُ منه تأجيل الموضوع الى يوم غد ’ لكنه أبى تأجيله وطالب بالذهاب اليوم وليلاً بالتحديد ’ لا أغالي إذا قلت كنت من القلائل الذي يمازحه وأروي له بعض النكات ويضحك لها وأوجه له بعض الأنتقادات حول الأمور التي أراها سلبية ويتقبل مني ذلك ’ الح عليّ بالذهاب ’ وسئمتُ من جديته والحاحه ’ قلتُ له وبأسلوب لطيف رفيق أبو عامل لو الحزب لا سامح الله أستلم السلطة أي موقع ستشغله ’ الى أية مهمة سينسبك الحزب ؟ أحتد قليلا ’ فقال ’ أولاً ’ لا تقل ( لا سامح الله ) فهذا أستهزاء وغير مقبول منك ’  قلتُ له مزحت معك ’  قال ’ ثلاثة أشياء لا يمكن المزاح بها الطلاق والكفر بالله وشهادة زور ’ وقولك هذا ’ كفر ’قلت آسف .
قال’ ثانياً ’ سنستلم السلطة بكل التأكيد.
ثالثاً ’ أنا جندي و تحت تصرف الحزب ’ ثم أضاف بعد أن خفف من لهجته ملاطفا ’ لو أنيطت بك مهمة تنسيبي.
الى أين ستنسبني ؟ قلت من غير تردد ’ أحالتك على التقاعد ! أندهش ’ وسأل ولماذا التقاعد؟
لأنك لا تصلح إذا واصلت العمل على هذا المنوال ’ كنت فاقداً أعصابي من التعب ’ الحياة أيضاً فيها  الراحة و الدعابة و الفرفشة وليس فقط العمل والنضال ومناطحة الصعاب ’ ماذا لو أصبحت وزيراً للدفاع ؟ ستدخلنا في الحروب مع الرايح و الجاي لتصلبك في مواقفك .
 أما لو أصبحت وزيراً للخارجية ’ ستقطع علاقاتنا الدبلوماسية خلال شهر مع كل الدول لأنك لا تجيد أساليب المساومة كما يعرفها اوليانوفسكي ( كان  يتنرفز من  هذا  الأسم  بأعتباره  يمينياً  وعقلاً  مفكراً  لتصفية  الأحزاب الشيوعية في الدول  العربية ) وتأخذ كل الأمور بشكل جدي وحازم .
ضحك بحيث سالت الدموع من عينيه ’ وتساءل ’ ولا مهمة ؟ أجبته ’  نعم ’ إذا أستمريتَ على هذه الوضعية ودون أن تعطي الناس الراحة ’ ورغم ذلك أستمر في الألحاح على طلبه الى أن نفذنا المهمة تلك الليلة ’ وكان يقول دائماً ’ الوقت كالسيف إذا لم تقطعه قطعك ’ علينا الأستفادة من كل دقيقة من الوقت  أما الراحة ستأتي فيما بعد ’ رحل عنا ابو عامل وعيوننا وعيون شعبنا تصبوا الى تلك الراحة  وكلما نسعى اليها تبعد هي عنا  .
عندما كان ينقل ليّ بعض المشاهدات عن قطار الموت عام 1963 وتنازع هؤلاء البشر مع الموت داخل عربات القطار و تشبثهم بالحياة  ’تكاد الأبدان تتقطع لتلك المشاهد ’ ولكن أشد ما كان يذهلني هو هذا الكم الهائل من الضباط وضباط الأركان المحسوبين على النظام ’ وأستطاع نفر قليل من الضباط يساندهم مجموعة من المتسكعين من أخذ النظام  غفلة وأسقاطه وهو لا يزال يتمتع بشعبية واسعة ’ وعندما كنت أسأله عن سبب ذلك بأعتباره كان عسكرياً ’ كان يرد ويوعز السبب الى فقدان الحزب للأستراتيجية ويشبه ذلك بسير السفينة وربانها دون بوصلة الأتجاه .
ودعنا الفقيد الراحل ولم تتحقق الأهداف التي كرس حياته من أجلها ربما  لأخطائنا أو لأخطاء الآخرين  أو معاً ’ لكنها ستتحقق ربما بأشكال وظروف آخرى والجوهر سيكون نفسه ’ العدالة الأجتماعية .   
فقدنا برحيله أنساناً وطنياً صادقاً و ثائراً عصامياً نزيهاً ’ كان يجسد العراق بأديانه وقومياته في لوحة  واحدة هي المرفوعة دائماً أسمها  العراق .
 لتبق محفوظاً في ذاكرة التأريخ يا أبن العراق .

                                                                      عادل  أمين
adelamin83@hotmail.com