بين َرماد التبغ ورماد الذكريات
نَكَثَ رماد غليونه ِعلى حاجز شرفته ذات مساء صيفي غريب ..نفخَ ينثره ُ في الهواء كمن ينفخ في رماد ذكريات لن تعود لتصبح َ حقيقة مرة أخرى ترجعهُ إلى زمن مضى ..كان نظره ُ يتجول في فضاء مدينته التي بدت حزينة شاحبة كعروس غير راضية ً عن عريسها القادم من المجهول بعد َ أن غُصَت ساحاتها بالأغراب .. تنهد َ على ذلك المنظر لتختلط تنهيدته ُ ببعض الصرخات تعلو ثم تخفت ثم يعقبها أصوات لمركبات مسرعة تسابق صوت الرصاص وكأنه فعلا ً عرس غريب يتقاطر بين ثناياه الدم بدلا أن يكون عرسا ً يتقاطر فيه العطر .عبأ غليونه بالتبغ من جديد ..تجولت أصابعه ُ في جيب ثوبه الفضفاض باحثة ً عن علبة كبريته ليشعل تبغه ليقع نظره في تلك الأثناء صدفة ً على شرفة ٍ يتربع فيها رجل وامرأة غطى الظلام وجهيهما بدا له وكأنهما في حالة عناق على صوت أغنية قديمة تحكي عن قمر يكون شاهداً على حبهما ..أشعل عود ثقاب ليحرق تبغ غليونه وكأنه يشعل شيء ما في داخله ِ..لكن نسمة هواء لفَحَت وجههُ فأنعشته ُ وأطفأت عود الثقاب ..تذكر الرجل والمرأة في الشرفة ..مد َ نظره نحو تلك الشرفة كان الرجل والمرأة على حالهما ..بينما عادت أصابعه لتصول في جيبه باحثة مرة أخرى على كبريته ..أعاد الكرة َ مرة أخرى ليشعل تبغه ..توهج التبغ دون أن يشد ذلك من انتباهه ..بينما نظره مازال متسمرا ً على تلك الشرفة متابعا ً المشهد الساكن بفضول ٍ عجيب ..
شَهَقَ النفس ألأول بقوة وكأن به يستنشق هواء العالم كله مستمتعا بلذة تلك اللحظة..أدار َ نظره ليجول في فضاء مدينته حيث سَكَنَ كل شيء فيها بأعجوبة ..لتأخذ أضواء المنازل بالانطفاء الواحد بعد أللآخر ..زَفَرَ ما في رئتيه من دخان التبغ المحترق في الجو لتتشكل منه أشكال غريبة تموج ُ بفعل نسمات الهواء الخفيفة ..راق له ُ ذلك المنظر متابعا ً توهج تبغ غليونه كلما شَهقَ منه..ليبدأ ذلك التوهج بالخفوت وتقل لذته ولتتلاشى تلك الأشكال المريضة من الدخان في الهواء والتي لن تصلح أن تكون خليلته في العودة إلى زمنه الذي مضى كيفما أتفق ..أحيانا ً بهدف وأحيانا ً أخرى بلا هدف..أعاده فضوله مرة أخرى إلى تلك الشرفة حيث الرجل والمرأة على حالهما كأنهما تمثالان أو أنهما غارقان في لحظتهما حد الثمالة بحيث لم يتأثرا بالوقت الذي يمضي بقربهما بل زادا من عناقهما البريء حد ألالتصاق الواحد بالآخر وكأنهما يتحدان الليل العقيم الذي تسكنه صرخات غريبة لم يتعودا عليها من قبل..
كان الزمن يمرمن أمامهما منهزما ًلأصرار هما في ذلك العناق طويلا ً دون أن يكترثا بمن يسترق النظر إلى عناقهما في تلك الساعة المتأخرة من الليل..بدا له أنه ُ يسمع همسهما..أنتبه لخمود نار تبغه وانطفائه ..عادت له تنهيدته من جديد..نكث َ رماد التبغ هذه المرة في راحة يديه..نافخا ً فيه كمن ينفخ في كومة من رماد الذكريات المحترقة لينثرها فوق أمواج النسيان..مبقيا ً نظره متسمرا ً نحو تلك الشرفة حيث الرجل والمرأة يدونان بالهمس والعناق ذكريات تلك الليلة المميزة لهما يرسمان بأفكارهما آمال وأهداف لحياة قادمة خالية من أشكال الدخان......
أمير بولص أبراهيم
برطلة 5حزيران 2008