المحرر موضوع: Herpes zoster او امرأة من البعد الماضي  (زيارة 1805 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل بطرس نباتي

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 416
    • مشاهدة الملف الشخصي
قصة قصيرة

Herpes  zoster
او امرأة من البعد الماضي


بطرس نباتي


عبارات متقطعة الاوصال، وكلمات تكاد تكون غير مفهومة تنساب من بين شفتيها بلين وهدوء، تخرجها كهمهمة وكأنها تصوغ مسابقة الكلمات المتقاطعة التي أعتدنا على مطالعتها والاستغراق في حلها، والتي تنشرها بعض المجلات والجرائد على صفحاتها الاخيرة، لم تكن هكذا مطلقا.. كانت قوية ونشطة،تزاول عملها سواء في البيت او خارجه بأتقان ومهارة، كنت أقول عنها دوماً، كم هي قوية، وأن تقدمت في السن بعض الشيء الا انها لا زالت جميلة وناعمة ، أنه المرض الذي الم بها مؤخرا... الاطباء دعوه بـ (Herpes  zoster) الحزام الناري أو الحزام اليوناني القديم، لا أدري من أين يأتون بهذه التسميات ولكن علينا الاعتراف رغم غرابتها أو مطابقتها مع الحالة المرضية، الا ان المنطقة المصابة من الجلد في حالتها هذه تشبه الحزام ببثورها الحمراء المتقيحة وقد نصحوا الاطباء ان تتناول المزيد من المسكنات لتهدئة اوجاعها.. قالت وكأنها استفاقت للتو من سكرة جلسة خمر طويلة.. أنت.. تكتب عن كل شيء.. ما عداي.. ثم تمتمت بشيء من الدلال.. لما لا تكتب عني؟.. لما أنت جاحد هكذا؟.. ألم أحتمل طلية ثلاثون عاماً ونيف، كل حماقاتك وجنونك.. ألم أمسح بدموعي كل خطاياك وآثامك، ليالٍ طوال  كنت أسهر لوحدي، أنتظر قدومك بعد أنتصاف الليل ، لأضعك كرضيع صغير في فراشنا وأحتضنك بين ذراعيّ، ولا أسأل أين ولماذا.. فقط أحمد الله لأنه أعادك لي بسلام، وذلك العم...(جارنا الطيب) كان يصرخ من فوق سطح داره في الليالي الصيفية، بأعلى صوته وهو يقهقه، يا أبنتي ألى متى تنتظرينه؟ أين ياتري مات حماره؟، أتدري كم كنت أخجل عندما كنت أجيبه.. لا ادري ياعماه، صدقني لم أكن أفهم ماذا يقصد بعباراته تلك، عندما أنهت حديثها، تناولت كتاباً ورحت أقرأ لها بهمس، لعلني أعيدها أعواماً الى الوراء.
(اهلا بزوجتي اهلا، تعبة أنت؟ فكيف أفعل؟ لو أردت غسل قدميك، فلا ماء عندي ولا طست من ذهب، وغرفتي مثل وطني، أسيرة وفقيرة، منذ وطئت قدماك غرفتي، أورق البيطون وصار أخضر...)
عندما أنهيت الشطر الاخير، قالت وكأنها تريد ان تتحدي مشاعري أو تمتحن مقدرتي، ما قرأته من أبيات ليست لك طبعاً، والشاعر الذي كتب هذه القصيدة، أن كان حيا سوف لايستطيع كتابتها مرة أخرى.. لأنه كتبها في وقتها لأمرأة واحدة.. واحدة فقط.. ثم أردفت بتقطيع مؤلم.. أريد منك أن تكتب لي.. لي وحدي.. اجبتها، نعم صدقت، هو كذلك، لقد قالها الشاعر ناظم حكمت في زوجته (منور) عندما كان سجينا، أمتحان عسير وضعتني هذه المرأة المعبودة أمامه، والتي من حقها ان تطالبني بما تشاء.. وأن رفضت قد تلجأ الى صفعات أخرى أثقل وأمر من تلك الاولى التي أطلقتها، ولكن أن تطلب أن أكتب عنها بالذات وفي هذه اللحظة.. ياترى من أوحى لها بأن تلح على هكذا؟ هو خيالها أم حاجتها لأن تمدح ، وأن تقال فيها الاشعار وتكتب عنها القصائد، ولكني أقر مرة اخرى، بأن من حقها أن تطلب ما تشاء، وسرحت بخيالي بعيداً وتخيلتها، كانت قبل مرضها قوية وفاتنة،  الشعراء والكتاب يحيطون بها من كل جانب، وكانت كلما ترغب تمد جدائلها لتكتسح المدن والاسوار، أو ترأف بهذا أو ذلك، فتمد يدها لتعطف على الضعيف والمهين، وتهد عروش الاقوياء والمتسلطين، لازلت أتذكر تلك الليلة المفزعة، عندما أرسلتني، لأتقصى لها، عمن يحاول زعزعة أركان بيتها الامن، أو يسبي أو يؤذي أبناءها، تسللت خشية الانكشاف، وبهدوء وقبل أن أصل، وجدتها قد خرجت قبلي، تحمل صواعق آنو، وزوابع مردوخ وقوة وبأس أنكيدو، وجمال وأغراء عشتار، عدت خائبا، أردد مع نفسي أنها لوحدها عندما تقاتل، وكأنها تجيش كل جيوش العالم وتقودها الى النصر، لقد حسدوها وقالوا وكتبوا عن سيئاتها، وصفوها بالالحاد والشرك وأنها تعبد الهة متعددة، تأمروا عليها، شتتوا أبناءها. تبعثروا في أرجاء الكرة الارضية، وأصبحت كقوقة أنتزعوا عنها فراخها، ورغم ذلك لم تفقد قوتها وبأسها، الشعراء من حولها تبددوا، ولأنها لاتقوى اليوم حتى على أعالة أبنائها هؤلاء ايضاً، تمردوا عليها، أصبحو يبخلون عليها بزيارة حتى في الاعياد والمناسبات ولم تعد تتلقى التهاني والقبل كما في الزمن الماضي، ورحت أبحث عن قلمي وبعض الاوراق التي كانت مبعثرة على طاولة قريبة، وبينما أهم بكتابة ما طلبته معبودتي الناعمة، تسلل شبح  أمرأة الى غرفة المكتب وقفت قبالتي وأخذت تهمهم بكلمات لم أفهمها، ثم بعد ان أقتربت أكثر أتضحت معالمها، أصبحت كلماتها تصل مسامعي بشكل أوضح اومأت بأصبعها بأن ، لا أصرخ من شدة فزعي ثم قالت بصوت خافت : لقد جئت لأساعدك في كتابة نص مناسب لزوجتك ،ألم تطلبه منك بألحاح ن وأنا أعلم مقدار حبك لها وخوفك عليها وخاصة أنها ... قاطعتها قائلا :بربك ،هات ما عندك أغيثيني .. تناولت يدي وقالت وكأنها تأمرني  ،أكتب  فتاة بعمر الورود احبت فتى ، أهل قريتها أجتمعوا ورجموا الفتاة بالحجارة حد الموت ،فغرت فاهي مستغربا ..  لماذا..لماذا؟ غاصت الاسئلة في ذاتي عميقا ،ولكن  هي  لم تبدي اي استغراب او حتى لم تبدو مهتمة بالامر ..بعدها راحت تقص على مسامعي حكاية ام مسكينة تعرفت عليها أثناء مسيرة طويلة عندما كانوا يهجرون قريتهم الصغيرة بحثا عن الامان المفقود، فهذه المرأة اصبحت من اعز صديقاتها بل انهما متشابهتان في كل شيء ،كان لها ثلاثة ابناء او اكثر رأتهم بأم عيناها يبعون  والدتهم  في سوق النخاسة ، تاوهت من شدة حزني والمي ، فأومأت علي بالسكوت، قلت هامسا :لماذا فعلوا هكذا بامهم المسكينة . أجابتني بكلمات قليلة تشبه تلك الطلاسم والرموز السحرية المحفورة على جدران المعابد والهياكل القديمة . لم تعطني مجالا للأفصاح عما يختلج في داخلي ولكني سمعتها تردد : هذا ماكان يحدث في عهد سومر واليوم عندكم في بابل واشور ..وراحت تكرر قولها بنغمة حزينة ولعدة مرات ، لم أفهم ماذا تعني تمتمتها السحرية تلك ،وظننت بان العمر الطويل وهذه الجدائل الطويلة البيضاء جعلتها على شافة الخرف والعته ،فلم أرغب  ازعاجها بالمزيد من علامات الاستفهام والتعجب ن فسكت على مضض ، ثم قالت مقاطعة تسلسل افكاري ، هل  ا سمعت بخط اقاموه ليفصل تلك الام  عن ابنها الصغير ؟ قلت لا والله لم ... قاطعتني لتروي لي قصتها العجيبة قالت: ( وهي غارقة في الم دفين) ،بينما كنت نائمة بجانب مهد ابني الوحيد صغيري الحبيب فجأة ظهرت طغمة من رجال غلاظ القلوب لا يعرفون الرحمة، واخذوا يرسمون خطوطا وهمية او سحرية اوحقيقية وفجأة فصلو بخط ما ،ابني الوحيد عني وقالوا : أبنك اصبح اجنبيا وهو الان في بلد اخر غير بلدك ، صرخت ،بكيت ، تألمت ، توسلت اليهم ان يعيدوا لي ابني الصغير ن الا أن الرحمة غادرت قلوبهم ، هززتها من اكتافها ورحت اكرر ، لما فعلوا هكذا معك  يا اماه، ولكنها ابت ان تجيبني وظلت تردد ذات العبارة : الرحمة لم ..... وسارت من امامي تجر ورائها خصلات شعرها البيضاء الستة الف خصلة ،وعندما كانت على وشك الخروج من غرفتي تعرفت على ملامح تشبه الى حد بعيد ملامح تلك المراة القوية والناعمة ، أمرأة من البعد الماضي، وكدت امسك بتلابيب ملابسها القديمة الرثة او اتشبث ببعض خصلات شعرها البيضاء الناصعة ، ألا أن استفاقة زوجتي  ، حال دون ذلك ، اقبلت الي وقد عادت جميلة وقوية كما كانت قبل أن تمرض ،شاهدت مرة أخرى تلك الابتسامة السحرية على شفتيها، وهي تشاهدني جالسا في مكتبي مذهولاوماسكا القلم، همست في اذني بصوتها الدافيء : هل كتبت شيئا عني ، تلعثمت وانا أقول لها نعم كتبت، وعندما تطلعت في الورقة ، أبتسمت وزا لت  عنها الاوجاع ورجعت سنين عديدة الى أيام شبابها الاول ، ورايتها وكأنها في ليلة زفافنا  عانقتها ، فأخذتني الى مخدعنا ، كما كانت تفعل في الزمن الماضي ...

* نشرتها جريدة الاديب البغدادية في عددها 147في11/7/2007