المحرر موضوع: المؤسسة الدينية والسياسة  (زيارة 5108 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

المؤسسة الدينية والسياسة
« في: 12:13 21/06/2005 »
المؤسسة الدينية والسياسة



الأب بشار متي وردة
أستاذ الأخلاق في كلية بابل للفلسفة واللاهوت

قد يبدو العنوان غريباً بعض الشيء لكثيرين، فبعضهم، لا سيما في دول العالم الثالث، يفتكرون أنه من الطبيعي جداً لأي مؤسسة دينية أن تتدخل في قيادة سياسة البلاد، غير واعين لاستحالة وجود علاقة حقيقية ما بين تجمع ديني ثابت ومؤمن بالقيم وما بين تجمع متقلّب كالسياسة. فيما يرى آخرون أن الطلاق لا محالة صائر أن يكون ما بين الدولة والمؤسسات الدينية، فزواجهم باطل.

واقع بلادنا يكشف غير ذلك، فما بين معارض ومؤيد للقضية نتطلع إلى حوار مُتبادل ما بين الساسة والمؤسسات الدينية، فهذا من شأنه خدمة البلاد والمواطن بشكل حقيقي وصحي، إذا ما حافظ كل منهم على رسالته ومَهامه في المجتمع. ورغم أن أصوات عدّة بدأت تعلو مُطالبة بعلمنة المؤسسات المدنية والرؤية السياسية للبلاد، إلا أنني ما زلت أرى أن هناك دوراً يُمكن أن تلعبه المؤسسات الدينية في عراقنا، ويؤول حتما إلى خير مواطنينا، لا سيما إذ ما فُسح لها المجال لتُسهم في تثبيت قيم ومفاهيم تُعلي من كرامة الإنسان ونُبل اختياراته. فلا نريد زواجاً أبدياً ما بين الدين والدولة، إلا أننا لا نطمح لعلمنة مُطلقة لتُراثنا وحضارتنا العراقية التي كان ومازال للتدين تأثير بالغ عليها.

نؤمن كلنا بالله الواحد والذي دعانا لأن نعيش على هذه البسيطة ونُخضعها ونطوّرها لخير الناس، فيعيشوا بكرامة وشرف مُصان بما نسنّه من قوانين ومُشترعات تُنظم الحريات والتعايش السلمي ما بين شعوب تختلف في توجهاتها وتراثها. فواقعنا يشهد لحقيقة عالم اجتماعي وحضاري واقتصادي وثقافي مُعقّد ومتأزم أكثر منه سياسي اليوم. ويشهد عالمنا أيضاً تغيرات جذرية غير مُتوقعة لاسيما في المواقف السياسية، فمَن كان إرهابياً حتى الأمس القريب، أصبح اليوم حليفاً يُفاوض ويُستشار. هذه وغيرها تُشكل أحياناً كثيرة تهديداً وتحدياً يقلب كل الموازين وما كان يُعتقد أنه من الثوابت. فالثابت اليوم هو التغيير الدائم. وتجعلنا هذه الحقيقة نواجه العديد من الفرص والمسؤوليات إزاء عالمنا، ويسألنا موقفا ملتزماً مسؤولاً من اقتصاديات وسياسات له تأثيرها البالغ في حياة إنسان اليوم والغد.

إننا مدعوون إذن لأن نُقيم ناقدين هذه السياسات وتلك الاقتصاديات وهاتيك التحالفات، لا فيما تُنتجه فحسب، بل تأثيراتها على حياة الإنسان سواء أكان يحفظ للإنسان كرامته وحقوقه الفردية أم يستهين بها. فلكل القرارات السياسية عواقب إنسانية ومضمون وعواقب خلقية تَمُسُ جسده يف الصميم وتأتيه إما عونا أو جرحاً، تقوي عائلته أو تُضعفها، تنمي العدالة أو تُزيلها من أرضنا. ترانا إذن جميعاً أمام مسؤولية الانتفاع من ينابيعنا الدينية والإيمانية، وقوة الاقتصاد العالمي، وروح المسؤولية المُتنامي لدى الكثيرين، لنُشكّل مجتمعا يحمي ويصون الكرامة والحقوق الأساسية لأخوتنا وأخواتنا أينما كانوا؛ سواء في البيت، المعمل، المدرسة، المُصلى، الجمعيات والمؤسسات الخدمية، الدوائر القضائية … الخ.


الدين ناقد السياسة

ليس بمقدور أي دين أن يُقدم برنامجا سياسيا واقتصاديا مُفصلاً يتوافق والواقع الذي يجد فيه المؤمن به نفسه. ولا يستطيع أيضاً أن يُقدم للإنسانية نُظما اقتصادية تفصيلية تضمن للجميع الرخاء والاستقرار. فللدين مبادئ وثوابت عامّة تُوصي بالاعتناء بالفقراء والمُهَمشين والمظلومين، وينتقد بصراحة وشجاعة أي سياسات واقتصاديات تُسهم في زيادة الفقر والظلم، وهذا ممكن فقط كونه –أي الدين- مستقل ومنفصل عن السياسة. فلولا هذه الاستقلالية التي تتمتع بها المؤسسات الدينية لما كان لها الفرصة للنقد والتوجيه والإرشاد. 

فما هو مؤكد، أن رجل الدين، إذا ما أراد الصدق مع الذات، لن يقبل المساومة مع أي سلطة  مهما كانت إذا ما تعلّق الأمر بالفقراء والمظلومين. لا بل أنه مُجبرٌ بأن يُذكّر السلطات برسالتها تجاه المعوزين والمُضطهَدين والمظلومين ومَن قدّمهم المجتمع ضحايا صفقات تجارية مُربحة. هنا نود أن نُشير إلى القارئ المُتدين العودة إلى جذوره الإيمانية ويتأمل في الأصوات الصادقة (أعني الأنبياء) والتي حثّت مجتمعاتها على التوبة لا سيما في إنصاف الفقراء واليتامى والمظلومين. فلا يكفي أن يكون لرجل الدين أن يُوصي بعدم استهلاك الآخر، بل رؤية الآخر الضحية ونجدته. المتدين الصادق لا يفصل أبداً ما بين الإيمان وواقع الحياة اليومية لأن في ذلك مأساة إيمانية واجتماعية. له رسالة وشهادة عليه الالتزام بما لها من متطلبات. فليس هناك أي انفصال ما بين الإيمان ومتطلباته التعبدية ومضامينه الأخلاقية، وما بين الأنشطة المهنية والاجتماعية والسياسية.

الحياة السياسية جانب حيٌّ وفعّال ليُعلن ويعيش من خلالها كل إنسان رسالته الإنسانية ومبادئه وقيمه، وكل مؤمن إيمانه، ومحبته للإنسان مواجهاً تجارب ومحن بثبات ليُتمم إرادة الله للخليقة جمعاء مُحققاً بذلك دعوته الإيمانية بصدق. فيها يُحقق مواهبه أو يخسرها، يُعلي من آماله  وآمال الإنسانية جمعاء أو يحطمها. السياسة كالاقتصاد تجعله في لقاء تعاون مع الآخرين أو يُبعده عنهم غرباء.

فمع أن الدين لا يمتلك مخططا سياسيا أو اقتصاديا مميزاً بورقة عمل مُفصلة تُلائم جميع الأوقات والظروف، إلا أنه يتميّز بكونه حامل رؤية إنسانية تصلح لتكون أساساً في نقد النظم السياسية والاقتصادية المُعلنة. فللدين دعوة والتزام تجاه الفقراء والمُهَمَشين، ويُطلب من رجل الدين، والمؤسسة الدينية أن تكون صوتاً ينادي بالعدالة لمَن أبعدتهم ظروف وبُنى المجتمع السياسية والاقتصادية. ففي مجتمعاتنا الكثير من الذين جُرحوا، وتُركوا ليُعانوا من البطالة والتهميش، لاجئين ومُعذبين بأمراض شتى، عوائل تُجاهد بقسوة لتصون كرامتها. إنهم في كل مكان وأمام أعيننا ولا يُمكن تجاهلهم أو إنكار واقعهم. وبيننا أيضاً أناس تشعر مع هؤلاء ولهم من الغيرة والكرم والسخاء والإرادة الصالحة ليُعطوا ما يُخفف من ألم وعذاب هؤلاء.

ولأنني من ذوو الرأي من ضرورة إستقلالية المؤسسة الدينية عن الدولة لتتمكن المؤسسة الدينية من أداء مهامها بشكل صحيح، وتبحث عن مصالح المجتمع لأنها مصالح جميع المواطنين، بخلاف ما تبحث عنه الدولة التي تريد دوما وبأي شكل أن تُثبّت سُلطتها. بسبب ذلك، ولأن نجاح أي برنامج سياسي يعتمد بالدرجة الأولى على مقدرة البرنامج على استيعاب وتقديم رؤية اقتصادية واجتماعية عادلة للجميع، يُمكن للمؤسسة الدينية أن تُمارس هنا دوراً هاماً في الدفاع عن حرية وكرامة الإنسان لئلا يُستهلك من قبل أنظمة جائرة، فتكون الصوت الصادق الناقد الذي يُذكر المؤسسات والسلطات السياسية والاقتصادية بواجباتها تجاه مجتمعاتها.

أرى إذن أن مهام المؤسسات الدينية يتحدد بدور الرقيب والناقد لكل ما تُمارسه المؤسسات المدنية والسياسية والاقتصادية في مجتمع يحترم الدين. فيُمكن للمؤسسة الدينية أن:

1.   تُراقب فيما إذا كانت النظم والمواقف السياسة والاقتصادية تحمي وتصون أو تستخف بكرامة الشخص الإنساني. فغاية كل نشاط إنساني هو الحفاظ وصيانة كرامة الإنسان كشخص يُحترم وتُصان كرامته فلا يكون سلعة أو وسيلة أو عدد. فنحن نؤمن أن الشخص الإنسان مُقدسٌ كونه من صنع يد الله الذي ميزّه وحباه بصفات جمّة. كرامته تتجذر في الله لا في نظرية، أو أمة، أو قبيلة، أو طائفة أو جنس أو حالة اقتصادية، أو تبعاً لإنجاز إنساني.

2.   إذا ما ساهمت الدولة في تثبيت وتعزيز العائلة والتي هي المكان الصحي والصحيح لأي إنسان يُترجى منه نموا صحيحاً. فهل تُسهم قرارات الدولة في تشجيع العائلة وصيانة أُسسها فلا يُضطر رب الأسرة على العمل على حساب الحضور بين أبنائه وعائلته.

3.   مدى إمكانية المواطنين جميعاً من دون استثناء للمساهمة في الحياة السياسية والاقتصادية للمجتمع فهاذ حق مشروع لكل مواطن، ويأتي أي نظام سياسي يحرم الإنسان هذا الحق ظلماً وانتهاكاً صريحاً لبسط حقوقه. حق العمل، حق شرعته وثائق حقوق الإنسان، لا سيما لمَن هو قادر على ذلك، وله من الإمكانيات والمؤهلات الفكرية البدنية تُسهم في نمو وتطوير الجماعة.

4.   هل أن الدولة التزمت مسؤولية رعاية الفقراء والمُهَمَشين. فالعدالة في أي مجتمع تقاس وُتفحص بالنظر إلى كيفية تعامل المجتمع مع الفقراء، المُهَمَشين، اليتامى، الأرامل. دفاعاً للضعيف، أن نُقيّم تأثير النُظم والمؤسسات الاقتصادية والسياسية على حياة هؤلاء. وهذا لا يعني إعلاناً صريحاً بشن ثورة جماعة ضد أخرى، بل توطيد أواصر الثقة بين مختلف طبقات المجتمع من خلال مساعدة الأكثر فقراً، فالأكثر حاجة يتطلّب اهتماماً ورعاية أكبر.

5.   حقوق الإنسان هي أقل ما يُطلب من ظروف في حياة أي جماعة. ولا نعني بحقوق الإنسان تلك المتُعلقة بالسياسة والحياة المدنية فقط، بل ما يختص الحياة الاقتصادية أيضاً. فللجميع الحق في الحياة، المأكل، الملبس، المسكن، الراحة، والرعاية الطبية، التثقيف، والعمل. وهذا يعني واقعاً، أنه إذا لم نسعى لتوفير فرصة عمل لإنسان يحصل منها على معيشته، فسنجربه على العيش في جوع وتشّرد، وبالتالي نحرمه من أبسط حقوقه الأساسية. فعلى المجتمع أن يُؤكد على ضرورة وجود أجواء وظروف حياتية تضمن وتحمي هذه الحقوق.

6.   ضرورة توفّر الأجواء الصحيحة ليُمارس كل مواطن نشاطه السياسي لضمان حقوق كل الأفراد وواجباتهم في ممارسة الحرية المدنية بكل جوانبها، ساعين نحو الخير العام للبلاد. فيُدافع عن حق كل فرد في التجمع والشراكة والتعبير عن آرائه الشخصية وممارسة دينه سرا وعلانية، يبذل كل ما في وسعه لحماية حقوق الأقليات ضمن البلاد، فتسود وتعلو صفة المُواطنة لدى الأفراد، ليتساوى الجميع أمام قانون وضعي يضمن حقوق الجميع مُعتمدين صفة الكفاءة في توزيع الوظائف والمهام والوجبات.
 
في ضوء ما جاء أعلاه، تستطيع المؤسسات الدينية أن تُمارس دوراً ناقداً لتفضح سياسات وتُخزي اقتصاديات، كل ذلك لا من أجل إشاعة فتن وحروب، بل تثبيت دعائم سلام حقيقي بين طبقات المجتمع. فالسلام والعدالة وجهان لعملة واحدة، والحروب التي عانت وتعاني منها منطقة الأوسط ناتجة عن الظلم والتعسف الذي يختبرها شعبنا ، فحيث الظلم، ينشأ الغضب والعنف. فبمقدور المؤسسات الدينية أن تتقاسم رؤية مُشتركة لمجتمع تؤدي رسالتها فيه، لتكون هذه الرؤية معيار حقيقياً تفحص "اختبار" وتقيم النُظم الاقتصادية والسياسة المُتبناة من قبل صنّاع القرار السياسي والاقتصادي، فيُعرف ما لهذه الأنظمة من واقع وتأثير وعواقب على حياة الجماعة بشكل عام وعلى حياة الفقير والمتروك بشكل خاص، وبشكل أساسي على توازن العائلة وسلامتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فالعائلة تبقى دائماً القلب النابض، والمؤسسة الإنسانية الصحية والصحيحة لنمو الفرد السليم. لذا يُمكن أن نقول أن لمثل هذه الرؤية إمكانية توفير خطوط عريضة في تحديد البُنى الاقتصادية والسياسية لذوي العلاقة، أعني صُنّاع القرار. فهي لا تُقدم قرارات جاهزة، وحلول سحرية، بقدر ما تريد أن تخدم إطاراً للعمل الاقتصادي لأي تجمّع أو رابطة أو حزب.   


نفكر بشكل مختلف

أن نفكر بشكل مختلف ومن ثمة نتصرّف بشكل مختلف أيضاً، هذا ما تصبو إليه المؤسسات الدينية وتترجاه من مؤمنيها. أي تجديد للحياة السياسية والاقتصادية سيعتمد بالدرجة الأولى على اختيارات المؤمن الواعية والتزاماته الذي يحاول جاهداً أن يعيش ويمارس إيمانه في العالم. فلا تستطيع فصل وتمييز ما نؤمن به عمّا نمارسه في جماعتنا العاملة. وهذا يتطلب من كل مؤمن تثقيفاً مستمراً، ومواطنة فعّالة، مستخدمين أصواتنا لنكون صوتاً لمَن لا صوت لهم، أملاً للمظلوم، ولنحمي الفقير والمُهمّش ونتعاون ونطوّر كل ما من شأنه تعزيز الخير العام. لنا كمسيحيين دعوة التدبير ، والخدمة والمواطنة. علينا تقع مسؤولية التثقيف والحوار والقرار والسلوك المتجدد دوماً. 

إننا واعون، كمؤمنين، إنما التزمنا مسؤولية مُعقدة جداً تتطلب تثقيفاً متواصلاً، وحواراً آت عن ذهنية وموقف منفتح، وسلوك يتطابق ويتوافق مع ما نؤمن به. مسؤولية تحاور كل فكر وفعل خلاّق. مسؤولية تجعلنا نُبشر اليوم بحضارة الاعتذار، السلام، الامتنان، العدل، السلام، المساواة والحرية. فلجميعنا مسؤولية لا في رفاهية العالم فحسب، بل فيما يعيشه من سقطات وهفوات وأزمات.

نحن لا ندعو إلى انفصال الدين عن السياسية كلياً، ولا إلى ارتباط مصيري معاً، بل نتطلع إلى الاستقلالية التي تضمن حياة وفعالية المؤسستين معاً. وأكثر من ذلك، تُبقي قنوات الاتصال، فمن ثمة الحوار فعّالة ومثمرة، تؤول في خدمة الصالح العام. وإذا ما حددت دور المؤسسة الدينية بالمراقب، فإني أرى أن للمؤسسة الإمكانية في اقتراح الأفضل للمجتمع إذ أنها في اتصال مع الشعب تسمعه وتُصغي إلى جرواحاته وتطلعاته أيضاً.



مجلس الأديان العراقي 

   
مَنَّ الله على العراق بخيرات عدّة، ولعل التعددية الاجتماعية والدينية التي يمتاز بها مجتمعنا هي واحدة من بركات الله على العراق، فهل لنا الاستفادة منها لخير مواطنينا؟

أجد أنه من الممكن للدولة أن تدعو لتشكيل مجلس أديان عراقي مؤلف من ممثلين عن كل الأديان والمُعتقدات التي ترعرعت على أرض العراق. ويُطلب منها أن تُمارس دورها في إبداء النصح وتقديم الاستشارة ونقد السياسات، وفضح السلوكيات التي قد يغفل عنها ساسة البلاد. كل ذلك من أجل تعزيز وتثبيت إنسانية المواطن العراقي، من خلال أنسنة وتوجيه الأنشطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إيماناً منّا من أن هذه الأنشطة الاقتصادية هي وسيلة ليُحقق فيها الإنسان كمال إنسانيته وليست غاية في حد ذاتها. كما ويتمتع كل إنسان بحق في العمل، وعلى المجتمع أن يُساعد مواطنيه لإيجاد فرص عمل تدر أجراً كافياً للإنسان ولعائلته.

   فكلنا يعي أن مجتمعاتنا الإنسانية تشهد لتغيرات جذرية خطيرة، ويتطالب مواكبتها تأملاً وجهداً ناقداً يطال جميع الميادين. ويحاول البعض نسف الثوابت بحجة أن "العالم في تغير مستمر". ونلتفت إلى الدين مراراً مترجين منه صوتاً يُفهمنا: ماذا يحصل؟ هل لنا الحق أن نبني ثوابت في عالم صار فيه الثابت التغير المُستمر؟

   ويؤمن كل دين بأن من ثوابت الحياة الإنسانية الكريمة هو احترام الشخص البشري ككائن يُحترم في حقه في حياة كريمة، وفي اختياراته الوجودية كافة. فلا مجال لاستغلاله أو استعباده أو التلاعب بمصيره، فليس سلعة أو رقماً في حسابات مصرفية أو استثمارات اقتصادية. ومثلما تُطالب الحكومات والمجتمعات الاقتصادية بواجبات من عملائها، عليها أن تحترم حقوقهم وتُثبتها، فلا تأتي قراراتهم لتستخف بها. هو كائن حُر في كل توجهاته، وهو مسؤول عن اختياراته. كائن اجتماعي يحتاج إلى الآخرين ويميل إلى الاتصال بها، متأثراً بهم، ومتأثرين به. فعلينا الانتباه لهذا الواقع وتعزيزه فهو في إنسان صحيح وصحي إذا ما كان في المجتمع، وهذا سيجعله يلتزم الخير العام معياراً لاختياراته، مُدركاً أهمية تضامنه مع أبناء شعبه، والتزامه بقضاياهم، ومن ثمة النمو لواقع التضامن العالمي. فمن ثمة يبدو من كل ما تقدم أن من حق وواجب كل الأفراد في أي تجمع كان أن يُسهموا ويُشاركوا بشكل فعّال وصحيح في نمو التجمع وديمومة الحياة فيه. ومثلما أكدنا على ضرورة فسح المجال للمواطن أن يُشارك في العملية السياسية وصنع القرار، نؤكد أيضاً على ضرورة السماح للمواطن بالمشاركة في اقتصاد البلاد وتطويرها ليكون اقتصادا مُزدهراً ليس فحسب، بل اقتصاداً إنسانياً قدر المُستطاع، اقتصادا يسعى لضمان العدالة للجميع. 

   فإضافة إلى تعزيز وتثبيت سُبل الحوار المتبادل ما بين الطوائف في العراق سعياً نحو سلام حقيقي بين المواطنين، سيسعى المجلس إلى مراقبة معنوية، لا تنفيذية، للرؤية السياسية والاقتصادية لساسة البلاد خدمة للخير العام وترسيخاً لعدالة تشمل جميع المواطنين بما أنهم مواطنو العراق. غير متناسين الغرباء فلا نغفل عن استضافتهم، ولا نسمح لهم لاحتكار عيش المواطن بـ" مصالح البلاد الستراتيجية".


الكنيسة والمرحلة الراهنة

أن تكون سياسياً أو لا؟ سؤال يُقلق مضاجع الكثيرين خاصة مَن لهم التزامات كنسية ودينية. فالكنيسة والمسيحية في العراق تعيش واقعاً متميزاً فيما يتعلق بالعلاقة مع الدولة والمؤسسات السياسية. فلقد منعت الدولة إلى وقت قريب كل تجمع ونشاط سياسي. فتَوَجَبَ على الرئيس الكنسي ن يلعب دوراً لم يختره شخصياً بل وجد نفسه مُجبراً عليه لألا وهو أن يكون الواجهة أمام الدولة فيما يتعلق بحقوق المسيحيين والتزاماتهم. ومع صعوبة المَهَمة وتعقدها نظراً لتقلبات الدولة وسياساتها، إلا أن بعض رجالات الكنيسة "تونسوا" لمثل هذا الأسلوب الحياتي كونه جاء تقوية وتعزيزاً لسلطتهم على الرعية. فصار رجل الدين المسيحي مَرجِعاً يُستشار من قبل الدولة، ويلتجئ الشعب لديه لحسم قضايا حساسة مع الدولة. ويجدر الإشارة هنا، أن الكنيسة لم تنجح في هذا بشكل تام فهناك حالات كثيرة لا مجال لذكرها في هذا المقال، فشلت الدولة فيها في تثبيت حقوق المسيحيين. هذا من جهة.

من جهة أخرى، رأى رجل الدين نفسه سابقاً مُلزما بالطاعة للدولة وأوامرها فهي مصدر الأمن والأمان فشاب الخوف هذا العلاقة، غير متناسين أن البعض من رجال الكنيسة في العراق كان يعتبر الدولة "وَلي نعمته" إذ تمدوه بالسلطة والمال فحاول التودد إليها وجذب انتباهها لتحتضنه وتلتزمه فيزاد قوة وتسلطاً. ومع الأسف تفرعن البعض منهم على رعيته، وكان عون لتُظلم وتقمع الحريات حتى بين أبناء ورعيته. رغم أن البعض الآخر حاول أن يستغل علاقته بالدولة لصالح رعيته فدافع عن حقوقهم وفَضَّ العديد من القضايا المُتعلقة مع الدولة من دون أن يُحسبَ ذلك له ضررا. أننا وبكل أسف نرى بقايا لروح التفرعن هذه لدى البعض من رجالا الكنيسة، متناسين أن ذاك الزمان انتهى وحياة الرعية تغيرت كثيراً وإذا ما واصل رجل الدين بمثل هذه السلوكيات، فأبناء الرعية سيلجون شاء أم أبى إلى كنائس أخرى تُرشدهم في طريق علاقتهم بالله وبالآخرين.

أما رجال السياسة المسيحيين، وبسبب حظر الأنشطة السياسية في الماضي فراحوا يُمارسونها إما في الخارج، أو سراً، فيما اختار الآخرون الصمت خوفاً على التزامات حياتية واجتماعية مُدركين أن الدولة لن تتسامح مع هذه النشاطات بأي شكل من الأشكال.

وبين ليلة وضُحاها تغيير النظام الحاكم في العراق ووجد رجال الدين والساسة أنفسهم أمام واقع جديد. فرجل الدين الذي تعوّد على الأمر والنهي يُطالب بالصمت في قضايا وشؤون لن تكون من صلاحياته بعد اليوم. والسياسي المسيحي يتصارع ليضمن حقوقه وصلاحياته السياسية والتي يجد أن الكنيسة تتدخل بشكل غير مقبول فيها. ولأنه يريد ضمان تصديق الكنيسة له كي تُقدمه للرعية ممثلاً لهم في أي انتخابات، وبسبب مشاعر الاحترام والمهابة للكنيسة ورجالاتها يسكت عن انتقاد سلوكيات رجال الكنيسة في مواقف يشعر بها بشكل صادق بأن الكنيسة تخبن حقه السياسي. فهناك أزمة علاقة حقيقية ما بين الأحزاب المسيحية والكنيسة. وليس هناك حياة أو مستقبل طويل الأمد للعلاقة الحالية.

فكيف لنا الخروج من هذه الأزمة؟

أختم مقالي بجُملة من الاقتراحات يُمكن للقارئ أن ينقدها ويُوسع أُفقها ويُغنيها بأفكار وطُروحات قَصُرَ المقال عن استيعابها:

1.   قبل كل شيء أن نُطالب الكنيسة بالتزام مَهامها ورسالتها الروحية في توجيه ورعاية الشعب في طريق علاقته بالله والآخرين، أن تُثبت وتُعزز تقواه بكل أبعادها وجوانبها.
2.   أن نُذكر الكنيسة بحدود سلطتها في الحياة السياسة فلها صوتها الصريح الناقد من السياسات ورؤية للحياة السياسية ولكن لن يكون لها برنامج سياسي مُطلقاً.
3.   أن نُشجع المؤمنين ليلتزموا دوراً سياسياً في حياة البلد، وللكنيسة أن توفر لهم قضايا وهموم ستكون لهم مادة في العمل السياسي.
4.   أن يعي رجل الدين قيمة وأهمية الرسالة التي يحملها فلا يحاول بأي شكل من الأشكال التودد "التملق" للدولة فهي ليست ولي نعمة مطلقاً. دولة اليوم لن تكون دولة الغد بسبب انتخابات وطُروحات ومصالح سياسية، أما هو فهو باقٍ على رأس الكنيسة له هيبته واحترامه. فعليه أن يُغير أسلوبه مع الدولة ليُطالبها بقوة وبحزم من دون مساومة أن تُحافظ على واجباتها تجاه مواطنيها، ولن تُسدي معروفاً بذلك، هي تُكمل ما تتعهد به للمواطنين.
5.   بسبب ظروف البلد السابقة وسياسات الدولة، ولأننا أمام تحديات حقيقية، يُمكن للكنيسة أن ترعى مؤتمراً للأحزاب والتجمعات السياسية والاجتماعية والمسيحية ليقفوا بشكل حقيقي وصريح أمام هذه التحديات. على أن لا تلتزم الكنيسة مع أي حزب أو تجمع بأي مُعاهدات مهما كان شكلها أو مضمونها. هذه الرعاية لا تعني "وصاية مُطلقة من الكنيسة على السياسيين" بل هي عون تُقدمه الكنيسة في هذه المرحلة وتنسحب منه بشكل تام ما أن يُثبت السياسيون المسيحيون حقوقهم. فالسياسة هي للسياسيين، وتبقى الكنيسة العين الناقدة للسياسة، فلا تتوسخ طهارة الدين بصفقات السياسيين.
6.   أن يُؤمن الجميع بأهمية التعددية الحزبية فهي من مصلحة شعبنا كوننا أقلية سكانية وسنبقى حتى لو سمحت الكنيسة لا سامح الله بتعدد الزوجات. هذه التعددية الحزبية ستضمن لنا تعددية البرامج السياسية، وتنافس مُحترف ما بين الأحزاب لكسب ثقة المواطنين خدمة للصالح العام. فالشعب لن يُصوت لحزب له أدبيات مثالية، بل لحزب له مصداقية في العهود والمواعيد.
7.   أن يُحاول المؤتمرون تشكيل تجمع يضمن الأحزاب المسيحية يجمعهم رؤية واحدة، وتُغنيه برامج وسياسيات متنوعة في الطُروحات والأفكار. سيوفر هذا التجمع فرصة أصيلة لشعبنا المسيحي ليُسمِع صوته ويُعلن رسالته وتُعالج قضاياه بشفافية. ناهيك عن غنى الأفكار لكل مَن سيُمثلنا في البرلمانات الإقليمية والوطنية. ونتطلع في أن لا يحصر المؤتمرون أنفسهم في طُرق طويلة ووعرة ومُهمة (كالتسمية) ويُضيعون الفرص والطاقات والجهود متناسين الأهم ألا وهو: مَن سيُدافع عن مصالح شعبنا المسيحي؟ والجواب لن يكون بالضرورة حزب واحد أو شخص واحد.
8.   كوننا أقلية في البلاد، وبسبب نظام المُحاصصة، أرى من الضروري في هذه المرحلة أن يُمارس السياسيون المسيحيون دورهم ورسالتهم بشكل يُعطي نموذجاً للدور الحقيقي للسياسة في حياة الشعب من خلال التأكيد على مبدأ المواطنة والكفاءة في تولي المهام والمناصب. هنا، يُمكن للمؤتمر المُومأ إليه أعلاه اختيار ممثلي المسيحيين في البرلمانات العراقية الأقليمية والوطنية وفق:
أ‌.   قراءة صحيحة لتوازن القوى السياسية في البلاد،
ب‌.   اختيار الممثلين وفق ضوابط الكفاءة ومتانة العلاقة مع القوى السياسية في البلاد في أي مرحلة تُذكر. فلن يكون في مصلحة المسيحيين اختيار مندوب سيفشل في انتخابات بسبب ضعف علاقته مع تجمع سياسي يُلاحظ أنه يسير نحو تولي السلطة. نريد أن نُثبت حياة كريمة لشعبنا المسيحي وليس كراسي لأشخاص حتى وإن كان الجميع يشهد لهم بالكفاءة.
ت‌.   دراسة السُبل الكفيلة بضمان أكبر عدد ممكن من الممثلين "المسيحيين" من خلال تحالفات استراتيجية مع القوى السياسية ذات الثقل السياسي والاجتماعي في أنتخابات مُزمع التحضير لها.
ث‌.   تثبيت شكل العلاقة ما بين الكنيسة والسياسيين المسيحيين ومحاورها الرئيسة. ويأتي ذلك من خلال رسم ملامح رؤية مُشتركة تُعين الأحزاب السياسية المسيحية في وضع برامجها في مُحاولة منها لتثبيت حقوق المواطنين الذين يتأملون منها خيراً. علينا أن نوسّع دائرة اهتماماتنا لتشمل الآخر المُختلف عنّا.
ج‌.   أن تُشجع الكنيسة مؤمنيها للانخراط في الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، وتنشغل هي برسالتها وإتمام مسؤولياتها الروحية تجاه أبناء الكنيسة فتٌبشرهم بالأخبار السارة وتُذكرهم بمسؤولياتهم تجاه وطنهم وشعبهم وأمتهم.



غير متصل تيري بطرس

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1326
  • الجنس: ذكر
  • الضربة التي لا تقتلك تقويك
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
رد: المؤسسة الدينية والسياسة
« رد #1 في: 16:07 21/06/2005 »
الاب بشار متي وردة
احييك على هذا المقال الرائع انصح الجميع بقرأته
تيري
ܬܝܪܝ ܟܢܘ ܦܛܪܘܤ

غير متصل michaelgewargis

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 214
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
رد: المؤسسة الدينية والسياسة
« رد #2 في: 04:22 22/06/2005 »
الاب الفاضل بشار متي وردة المحترم.
يبدو طرحا منطقيا في كل ما اشرت له، لكن وصفنا كاقلية فالامة المتكونة من شعوب ليست هي اسواق سوبر ماركت  ودكاكين صغيرة .نحن شعب مثل العرب والاكراد وغيرهم ولا احبذ استعمال كلمة اقلية مسيحية.
وايضا ليس من المنطق  تشجيع الكنيسة للشعب للانخراط في الاحزاب السياسية،لكن من الممكن في مجالات اخرى.
تقبل فائق احترامي.
ميشيل كيوركيس زكريا.
اكاديمي مستقل.