جحود ... وأي جحود
بقلم : زيا نمرود كانون
لقد أبلانا الطالع ـ نحن أحفاد سرجون وسنحاريب ـ بأسماء متعددة (1) ، لا حاجة لذكرها هنا جميعاً ، فهي معروفة لدى كل مثقف من الناطقين باللغة السريانية. ومن المؤسف أنه بدلاً من العمل على إلغاء أو إبطال الأسماء المرادفة والدخيلة التي اقحمها علينا الأجانب والغرباء من الناس ، سواءً عن قصد أو دون قصد ، والإقتصار على تسمية واحدة لتعبر عن هويتنا القومية وتبلور شخصيتنا وترسخ وحدتنا القومية ، بدلاً من ذلك بتنا نرى ونسمع من البعض ابتكار تسمية جديدة لهذا الشعب المنكود ، مما يزيد الكين بلة ويضيف الى مصائبنا مصيبة أخرى أعظم وأخطر. وهذه المشكلة المستجدة تأتينا اليوم ليس من الغرباء والأجانب ، بل من أبناء قومنا أنفسهم ، وليس بلغة أجنبية ، بل بلغتنا القومية الخالصة.
فمن المعروف لدى الجميع ، ان اسم كل قوم من الأقوام ينتقل بطريقة التوارث من الأجيال السالفة الى الأجيال اللاحقة ، ويتوارثه الأخلاف من الأسلاف ، والأبناء من الآباء والأجداد. ونحن الآشوريين لم نشذ عن هذه القاعدة ، فنحن نعرف اسمنا جيداً. لذا فأنه بلغتنا القومية ــ سواءً الآرامية القديمة أو الآشورية الحديثة ــ لم يحدث وأن سمعت طوال عمري حين ذكر اسم قوميتنا غير لفظة آتورايي ( ܐܵܬܘܿܪ̈ܵܝܹܐ ) وليس غير. هذا كان اسمنا منذ أن خلق الله أول ( آتورايا ) في العالم.
إلا اننا بتنا نسمع مؤخراً ، ومن حين الى آخر ، من يتجاهل هذا الإسم العريق ويستعمل كلمة آشورايي ( ܐܵܫܘܿܪ̈ܵܝܹܐ ) بدلاً من آتورايي.
ولست أدري ما هو الدافع لهذه التسمية المضللة الجديدة ، وما هو المقصود منها ، ولكنني لا أشك بكون الدافع لها هو واحداً من الأمور الآتية :
1. إما أن يكون دعاة هذه التسمية المزيفة من الحاقدين على الآوريين ، ويرغبون في خلق البلبلة فيهم والقضاء على اسمهم الحقيقي ليفقدوا هويتهم الأصلية ، وليتم فيما بعد فصلهم عن تراث أجدادهم العظماء.
2. أو أن يكونوا مضللين ، ويأخذون القضية بسطحية وبساطة ، دونما دراسة جدية للموضوع ، ودون أن يتفهموا مبلغ الخطورة من ذلك.
3. أو أنهم من الذين يجهلون اللغة السريانية القديمة ( الآرامية ) والمعاصرة ( الآثورية ) وتراثها الأدبي والتاريخي والثقافي. ولعل هذه النقطة الأخيرة أكثر إتصالاً بالموضوع.
فإذا كان هؤلاء السادة يعرفون لغة أجدادهم القومية ، لكانوا قد علموا أنه لا توجد كلمة ( آشور ) ولا ( آشورايا ) في هذه اللغة لتدل على بلاد آشور أو المواطن الآشوري إطلاقاً , لا في الكلام الشفهي المتداول ، ولا في الكتب المكتوبة بهذه اللغة ، قديماً أو حديثاً.
فمن ناحية الكلام الشفهي ، لم أسمع من والديّ ولا من جدتي ، ولا من إنسان أكبر عمراً من جدتي ، حينما كانوا يتحدثون عن قوميتنا غير لفظة ( آتورايي ) بالتاء طبعاً.
كما أنني لم أقرأ في الكتب والوثائق الجديدة أو القديمة كلمة آشورايا ، بل آتورايا وعلى الدوام. فهناك العديد من الكتب الأدبية والتاريخية لكتاب معاصرين ، ومنهم من رحل من هذا العالم منذ سنوات عديدة لكبر سنه أمثال مالك ياقو والدكتور بيرا سرمس وبنيامين أرسانيس وروئيل أرسانيس والقس يوسف قليتا والشاعر الكبير جان ألخص وغيرهم ــ طيب الله ثراهم جميعاً ــ لم يستعملوا في كتاباتهم عند ذكر قوميتهم غير لفظة ( آتورايي ) وليس ( آشورايي ).
وكذالك يقال عن الكتاب الأقدمين نذكر منهم مار عبديشوع الصوباوي ( القرن 13 ) ، والعلامة ابن العبري أي بار عورايا ( القرن 13 ) ، ومار آبا الجاثليق ( القرن السادس ) ، ومار نرساي الملفان ( القرن الخامس ) ، ومار أفرام الملفان ( القرن الرابع ) ، والفيلسوف برديصان ( القرن الثالث ) ، والفيلسوف ططيانوس ( القرن الثاني ) وغيرهم..
ولنرجع إلى أبعد من ذلك .. إلى كتاب مستشار الملك سنحاريب المعروف بإسم أحيقار الحكيم والمدون باللغة الآرامية ، والذي يرجعه المؤرخون إلى القرن السادس أو السابع قبل الميلاد ، حيث نرى أن تسمية ( آتورايي ) هي المستعملة وليس ( آشورايي ). ثم لنعود إلى حدود 1700 سنة قبل الميلاد ، لنسترشد بالكتب المقدسة مزامير داود ، وكذلك أسفار التوراة المختلفة ، نجدها تؤكد لنا هذه التسمية ، بل ونلاحظ بأن الله سبحانه وتعالى يسمي بلاد ما بين النهرين ( آتور ) وليس ( آشور ). ( أنظر : التكزين 2 : 14 ).
وهكذا فأنه كما يعرف جميع قراء اللغة الآشورية القديمة واللغة الآرامية ةالآثورية الحديثة ، فإن اللفظة المستعملة لتدل على أرض بين النهرين القديمة وسكانها ، هي آثور وآتورايي ، وليس آشور وآشورايي.
وإن هذا التسمية يؤكد عليها علم الآثار الحديث ، بدلالة أن المؤرخين الأجانب والرحالة والاآثاريين يؤكدون بأن سكان بلد آشور كانوا يسمون أرضهم قديماً ( آتور ) أو ( آثور ) منهم الآثاري تاشهير لايارد ، والكاتب المؤرخ هيرمان ل. هو ، والمؤرخ أساهيل غرانت والرحالة نيبور الذي زار العراق في القرن الثامن عشر وغيرهم.
وعلينا التساؤل هنا ، على ماذا يستند القائلون بتسمية ( آشورايي ــ ܐܵܫܘܿܪ̈ܵܝܹܐ )؟
هنالك ثلاثة تسميات وهمية لما يستندون عليه ، ندرجها فيما يلي :
1. هناك من يتوهم بأن التسمية جاءت من آشور بن سام بن نوح ، وهذا ليس له دليل بأنه قد تزوج أو خلف ذرية ، فكيف تؤسس شعباً أو أمة؟! ثم أن مؤسس مملكة آشور هو سرجون الأكدي وليس آشور ، وخاصة أنه من المعلوم أن اسم شعب لا يأتي من فرد واحد ، بل من اسم الوطن أو الأرض التي يسكن عليها.
وبالنسبة لتسمية " الآشوريين " فإن النسخة الآرامية من التوراة هي الأصل والأساس في صحة التسمية. فقد كانت أرض الآشوريين تسمى آتور أصلاً ، وهي من " أترا " أي المكان أو الموطن. وللتأكيد على صحة كلامي ، فلنستشر معاً قاموس المطران أوجين منـّا الذي يعطينا معنى هذه الكلمة في الصفحة 46 وبالشكل التالي :
ܐܲܬܼܪ ̤ ܐܲܬܼܪܵܐ : ( أثر ــ أثرا ) : مكان ، محل ( 2 ) بلد ، وطن
اذن والحالة هذه فإن ( آثور ) أو ( آتور ) هي التسمية الصحيحة لما يسمى بالعربية اليوم ( آشور ) والذين سكنوا على أرضها هم ( آتورايي ) ، مثلما وردت التسمية في الكتاب المقدس تماماً.
2. يتعلل البعض من دعاة الإسم ( آشورايا ) ، بأن اليونانيين اطلقوا على سكان بين النهرين قديماً اسم ( سيريان )، حيث انه حسب اعتقادهم حولوا حرف الشين الى السين لعدم وجود حرف الشين في لغتهم.
يا للعجب العجاب!!! هل نتعلم اسمنا بقياس مما يطلقه علينا الأجانب والغرباء من الأسماء ، وننكر أو نتجاهل التسمية الأصلية النابعة من الآباء والأجداد أنفسهم؟!! ثم انه إذا كان اليونانيون وغيرهم يطلقون على شعبنا تسمية ( سيريان ) أو ( آسوري ) ، فذلك لا يعني بأن التسمية الصحيحة هي عند الشعوب الغريبة علينا ، بل بعكس ذلك تماماً. فلكل لغة في العالم طبيعتها الخاصة ، وإن أسماء البلدان والشعوب تختلف بإختلاف ألسنة الأقوام المختلفة.
لتأكيد ذلك نرى بأن سكان بريطانيا يسمون أنفسهم قومياً ( انكلش ) ، وفي اللغة العربية تحولت هذه اللفظة إلى ( انكليز ) ، فهل حدث ذلك لغياب حرف الشين في لسان العرب؟! وقس على ذلك أمثلة عديدة منها ان مصر تسمى باللغات الأوربية ( ايجيبت ) ، فأين هذه اللفظة من تلك؟ وتسمى باللغة الآرامية ( مصرين ) أو ( مصر ِن ) بكسر الراء. وإن ما تسمى بالعربية ( النمسا ) هي ( اوستريا ) أساساً ، فأين هذه من تلك؟! وما يسمى بالعربية ( بلاد الرافدين ) يسمى بالآرامية الآشورية ( بيت نهرين ). كما يسمى الأردن بالآرامية الآشورية ( يوردنان ) بكسر الراء ، وهكذا دواليك.
ويجدر بالذكر هنا ان الأكراد والأتراك وشعوب أخرى من الذين تخلو لغاتهم من حرف الثاء يسمون الآشوري ــ أو الأصح الآثوري ــ بتسمية ( آسوري ) ، ومن المعقول أن نقول بأنهم حولوا " الثاء " الى " السين " ، كما يحولون اسم " عثمان " مثلاً الى " عسمان " .
وهنا أعود الى التساؤل مرة أخرى: هل نتعلم اسم قوميتنا من غيرنا؟ أم تتوارث التسمية بالتداول المستمر من الخلف الى السلف؟ ثم انه إذا كان المستشرقون والآثاريون الأجانب يؤكدون بأن سكان العراق القديم كانوا يسمون بلادهم ( آتور ) فهل تعلّموا ذلك من اليونانيين ، أم مني أنا؟ أم تعلموه من الحجارة التي تصرخ بالحقيقة الناصعة؟
3. النسخة العربية من التوراة : كما يعرف الجميع قراءة اللغة العربية بأن النسخة العربية من التوراة قد أوردت اسم " آتور وآتورايي " بصيغة " آشور وآشورايي " وهذه التسمية ليست دقيقة ، بل الصحيح هو كما ورد في النسخة الأرامية ( السريانية القديمة ) من الكتاب المقدس ، أي ( آتور وآتورايي ). وان هذه التسمية تتفق مع الكتابات الآرامية الآشورية القديمة ، ويؤكد عليها علماء الآثار والمؤرخون المعاصرون ــ كما مرّ بنا القول ــ ، كما ويؤكد عليها الكتاب والمؤرخون العرب القدامى ، أمثال الحموي الذي يقول في معجمعه : ( آثور : بالفتح ثم الضم وسكون الواو والراء ، كانت الموصل قبل تسميتها بهذا الإسم تسمى آثور ). وكذلك الهمذاني الذي ذكرها بإسم آثور وآثورايا ، إضافة لما يؤكده المسعودي (2 ).
ومن الجدير بالذكر هنا انه قد فطن الى التسمية الصحيحة المؤرخون والمفكرون المسيحيون المعاصرون من الكلدان والسريان ، ونذكر منهم أدي شير ( المطران ) ، والقس بطرس نصري الكلداني ، والمؤرخ الباحث سليمان الصائغ ، والمطران يوسف بابانا والمطران اقليمس يوسف داةد والعلامة غريغوريوس الملطي ( ابن العبري) ويوسف رزق الله غنيمة، وأخيراً الأستاذ كوركيس عواد الذي أورد أقوال العرب الأقدمين في هذه التسمية : ( فمنهم من قال آثور ، ومنهم من قال : آقور ، وأما الكتبة المحدثون فقالوا " آشور " ).
لذا فأني أرى جديراً بالقول هنا ، ان الأستاذين اللبنانيين الجليلين فوبوس غبريال ( استاذ اللغة السريانية في كلية الآداب) ، وزميله كميل أفرام البستاني ( رئيس قسم الفنون والآثار في كلية الآداب ) في كتابهما المشترك الموسوم " الأدب والنحو " وهو ــ الكتاب الثاني في سلسلة قسم الدراسات اللغوية السريانية ــ يطلقان تسمية " آثور بانيبال ــ ܐܵܬܼܘܿܪ ܒܐܢܝܼܒܵܐܠ " عوضاً عن ( آشور بانيبال ). (3)
فلماذا اذن لا يقتدي مثقفونا اليوم بهؤلاء العباقرة؟
من هم آشورايي ( ܐܵܫܘܿܪ̈ܵܝܹܐ ) أو الآشوريون؟
آشورايي .. أو الآشوريون هم من إحدى القبائل الأثنتي عشرة التي تسلسلت من ( آشير ) وهو الأبن الثامن بن اسحق ، والثاني من زلفة. ( انظر التكوين 30 : 12 ). وقد ورد ذكرهم في النسخة العربية من التوراة بصفة " الآشوريين " ، وفي
، كما ورد في النص التوراتي باللغة الآشورية الحديثة أو الآثورية بإسم " ܐܵܫܘܿܪ̈ܵܝܹܐ " (انظر (Ashorites)النص الأنكليزي صموئيل الثاني 2 : 9 ).
ومن هنا يظهر الخلط الذي ورد في النص العربي من التوراة بين الـ ( آتورايي ) أصحاب الأمبراطورية العظيمة في بلاد ما بين النهرين قديماً ، وبين الآشوريين الذين تسلوا من آشيرين يعقوب بن اسحق!
فكيف تطلق تسمية واحدة على قومين مختلفين تمام الأختلاف؟!
لا أعتراض على التسمية باللغة العربية :
رغم كل ذلك ، فأنني لا أعارض تسمية " آتورايي " بـ " الآشوريين " في اللغة العربية ، فيما إذا كانت الدوافع السياسية تتطلب ذلك. أما في اللغة السريانية ، فاللفظة الوحيدة المستعملة قديماً وحديثاً إسماً لهذه القومية هي " ܐܵܬܘܿܪ̈ܵܝܹܐ " أي " آتورايي " فقط. ويجب أن تبقى هذه اللفظة ثابتة راسخة في التداول اليومي الآن وفي المستقبل القريب والبعيد ، وحتى انقضاء الدهر ، وإن في تغييرها خطر كبير على قوميتنا.
واجب أحزابنا السياسية :
وهنا أقول لمسؤولي أحزابنا ومنظماتنا السياسية ، فيما إذا كانوا حريصين على مصلحة شعبنا الآشوري حقاً ، بأن عليهم أن يأخذوا هذه القضية بجدية ، وألا يطلقوا العنان للمتلاعبين بالألفاظ بغية أن يستبدلوا اسمنا بإسم آخر مزيف ، بل أن الواجب القومي يدعوهم إلى إصدار بيان رسمي يحذرون فيه ابناء شعبنا من المضي في استعمال هذه التسمية المغشوشة ، حيث ان التسمية الواردة في اللغة السريانية ( الآرامية الآثورية ) من قبل آبائنا وأجدادنا أي " ܐܵܬܘܿܪ̈ܵܝܹܐ ــ آتورايي " هي الأصل والأساس ، وهي التي تربطنا بتراثنا ، تراث الآباء والأجداد ، كما تربطنا بتاريخنا ، ولا يحق لأحد أن يتنكر إليها إطلاقاً.
1. لمن يرغب الأطلاع على هذه الأسماء ، ليراجع كتابي الموسوم " الحلقة المفقودة في تاريخ الآشوريين " الفصل الثالث ص 19 ــ 26 وكذلك مجلة الكرمة ــ المجلد الأول ــ العدد 2 ، 1999 .. مقالة السريان: تسمية ودلالة بقلم سعد اسحق سعدي ، ص 5 وما بعدها.
2. للمزيد من المعلومات طالع كتاب " مروج الذهب " للمسعودي ، والحلقة المفقودة في تاريخ الآشوريين ، الفصل الثالث.
3. الكتاب من منشورات الجامعة اللبنانية ـ بيروت ، 1966