الباعوثا صومنا القومي
سـامي بلو
قد يجهل الكثيرين ، وقد يغيب عن بال الاخرين بان صوم نينوى او كما يطلق عليه ابناء شعبنا "صوم الباعوثا" هو صوم قومي لامتنا الاشورية بالاضافة الى ارتباطه بمسيحيتنا ، وقد انفردت به كنيستنا المشرقية دون سواها من كنائس اللـه الاخرى .
إن صلوات هذا الصوم ، او كما تسمى كنسيّا (ميمري دباعوثا) تنسب الى الملفان الكبير مار افرام بحسب ما مذكور في كتاب الصلاة لطقس السريان المشارقة (الحوذرا) ، ولكن بحسب معلوماتي فان ميامر الباعوثا هذه ، قد كُتبت ووُضعت الحانها من قبل اكثر من كاتب من اباء الكنيسة ، وجمعت على مر فترات زمنية متعاقبة ، حتى وصلت الينا بهذه الصورة الجميلة المتكاملة .
ووزعت هذه الصلوات على ثلاثة ايام التي تمثل هذا الصوم تبدأ بيوم الاثنين وتنتهي الاربعاء ، ويبدأ صوم الباعوثا قبل الصوم الكبير بثلاثة اسابيع . لقد ابدع اباؤنا في كتابة صلوات الايام الثلاثة لهذا الصوم ، ورغم عمق ايمانهم المسيحي ، فان هذا لم يمنعهم من اظهار انتمائهم الى هذه الامة بحسب مفاهيم زمانهم ، وقد لا يكون شعورهم هذا يتطابق مع مفاهيمنا القومية الجديدة ، وخاصة بعد تصاعد الوعي القومي بين ابناء هذه الامة ، ولكنه يفي باضهار انتمائهم .
وقبل الخوض فيما كتب اباؤنا لهذا الصوم ، يكفي ان نقول لولا شعورهم بالانتماء لما اوجدوا هذا الصوم دون سواهم من الكنائس الاخرى.
بالامكان النظر الى صوم نينوى من منظورين ، ومن كلاهما نستنتج بان هذا الصوم مرتبط ارتباطا كليا بنا كأمة ، وقد تبنته كنيستنا المشرقية ، كاعتزاز بهذا الانتماء .
والمنظور الاول هو العهد القديم الذي عليه بنى اباؤنا قصة هذا الصوم . اذا لنلقي نظرة على ما يقوله العهد القديم : (وامر الرب يونان بن أمتاي " هيا امض الى نينوى المدينة العظيمة وبلغ اهلها قضائي ، لان اثمهم قد صعد اليَّ "
غير ان يونان تأهب ليهرب من الرب الى ترشيش ، فانحدر الى مدينة يافا حيث عثر على سفينة مبحرة الى ترشيش .......... .) ومن حقنا ان نسأل لماذا حاول يونان ان يتهرب من امر الرب ؟ واستنتاجنا يقودنا الى ان يونان لم يكن يرغب في ان يبلغ رسالة الرب وانذاره الى اهل نينوى لئلا ينجووا من غضب الرب ، بل على العكس فانه كيهودي اسرائيلي ، كان يتمنى ان تتدمر المدينة واهلها ، نظرا لكراهيته وحقده عليهم بسبب احتلال الاشوريين لارضهم ، ولسنا نلومه على هذا ، لانها تعكس مشاعر مَن تكون ارضه محتلة . وربما ان استنتاجنا هذا لن يرضي او يقنع البعض ، لذا نورد هذا النص الاخر من العهد القديم الذي يوضح بجلاء مشاعر يونان وتمنياته بان تتدمر نينوى .
ويمضي العهد القديم بالقول في كتاب يونان
فلما رأى اللـه اعمالهم وتوبتهم عن طرقهم الاثمة عدل عن العقاب الذي كان مزمعا ان يوقعه بهم وعفا عنهم. فأثار ذلك غيظ يونان وغضبه الشديدين .
وصلى الى الرب قائلا : " ايها الرب، اليس هذا ما قلته عندما كنت في بلادي ؟ لهذا اسرعت الى الهرب الى ترشيش، لاني عرفت انك إله رؤوف رحيم بطئ الغضب كثير الاحسان ، ترجع عن العقاب . والان دعني ايها الرب الفظ انفاسي لانه خير لي ان اموت من ان احيا " ...........) .
فهل بعد هذا مجال للشك في ما كان يونان يضمر في قلبه من حقد وكراهية على نينوى واهلها ؟ انه يتمنى الموت على ان يرى اهل نينوى قد نجوا من عقاب الرب !
أما المنظور الثاني ، فهو من خلال النصوص التي كتبها اباؤنا لهذه المناسبة ، التي يعتبرونها نصرا عظيما لجدودهم في نينوى ، ان قراءة في ميامر الباعوثا تدل القارئ على عمق مشاعر الانتماء الى هذه الامة من لدن هؤلاء الكتبة ، وكيف يصفون بكل فخر واعتزاز عظمة وعنفوان ابائهم واجدادهم في نينوى العظيمة ، وكيف انهم بحكمة ملوكهم استجابوا لنداء الرب الاله ( الذي كانوا بلا شك يعرفونه قبل مجيئ يونان ، والا لما امنوا) واتخذوا التدابير اللازمة لانقاذ شعبهم من الهلاك .
لقد اخترت ان اترجم للقارئ الكريم شيئا من القراءة الثانية من الجلسة الثانية ليوم ثلاثاء الباعوثا ، ليحكم القارئ على ما كان عليه كاتب هذه القراء من اعتزاز بالانتماء الى هذه الامة . لقد فاتني ان اذكر بان ميامر الباعوثا قد وزعت على الايام الثلاثة وخصص لكل يوم منها ما يصلى في ذلك اليوم تحديدا ، وبتلك الالحان الشجية، اما انواع هذه الصلوات فهي خارج مجال هذا المقال ، واترك شرحها وتصنيفها لاباء الكنيسة وشمامستها :
القراءة الثانية/ الجلسة الثانية/ ليوم الثلاثاء
(هذه ومثلها تحدث اهل نينوى لاحبائهم
بتنبؤهم عن الامان ، عندما رغبوا الافراج عن همهم
وتنبأوا متأكدين ، واسرعوا الى التوبة.......
الخطر يجعلهم يكثرون الصيام ، ومن الخوف يكثرون الصلاة
ونظروا بعين الحكمة ، فاذا كان الابرار لا يهدأون ؟
فكم بالاحرى سيحزن الخطاة ، فاجلهم يقف عند الابواب
خرج الملك ، واضطربت المدينة عندما رأت مسوحه...
والملك ايضا لم يتمالك دموعه ، لان الحزن لبس المدينة باسرها
وبكى الملك امام المدينة.... وبكت المدينة باسرها......
ومن يستطيع ان لا يبكي ، امام الملك الذي يبكي.....
فجأة وجد الملك وأهل المدينة بان حياتهم على موعد مع الموت
دعى الملك قواته ، بكى عليهم وبكوا عليه
وقص عليهم الملك ، كم من الحروب قد انتصروا
واعلمهم ايضا ، كم من صولة كانت لهم الغلبة
صغرت نفسه واصابه الوهن ، فليس من يساعد وينقذ
وبدأ يقول لهم ، لو انها كانت الحرب يا احبابي
لخرجنا وانتصرنا كعادتنا ، وغلبنا بارادتنا
حتى الجبابرة يرهبهم اسم اشور العظيم
نحن الذين انتصرنا على الكثيرين ، وعبراني يتغلب علينا
صوتنا كان يرعب الملوك ، ومن صوته قد اضطربنا
خربنا الكثير من المدن ، وفي مدينتنا ينتصر علينا
نينوى ام الجبابرة ، تخاف من شخص جبان
الاسود في مرابضها ، رهبت من العبراني
زأرت اشور في العالم ، وصوت يونان يزأر فيها
كيف يوهن هذا ، نسل الملك نمرود الجبار
اعطى الملك مشورته السديدة لقواته البطلة
انصحكم يا احبائي ، لا تغفلوا هذه النصيحة
نجاهد كالابطال ، ولا نباد مثل الجبناء
ليتسلح ويتجبر كل واحد بحسب تجاربه
اما ان يموت كبطل جبار ، او يحيا منتصرا
اما ان يموت واسمه مبجل ، او ان يحيا حياة المنتصر
يستفاد الغالب من شجاعته على فائدتين
مثلما يحصل الذي يضعف على الوجعين
فموته يكون خزيا ، وحياته يعيشها سئ الصيت
من يتسلح ويتشجع ، يتجبر وينتصر
حتى اذا لم يفز بشئ ، فانه ينال اسم البطل
من اجدادنا الاوليين ، سمعنا عبر الاجيال
ان العدالة للـه ، وله النعمة ايضا
هو متوافق مع عدالته ، ومن نعمته يرحم ......
................................)
هذا جزء من تاريخنا وتراثنا ، فهل هناك من يشك بان كاتب هذه القراءة لا ينتمي الى هذه الامة؟ ويردني قول العلامة الدكتور الاب يوسف حبي في كتابه (كنيسة المشرق) : " التاريخ تراث ، وحضارة ، ومدرسة ، وفلسفة ، ونبوءة . "[/b][/size][/font]