المحرر موضوع: أين المثقف العراقي مما يجري الأن ؟  (زيارة 1210 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Dawood Amin

  • عضو
  • *
  • مشاركة: 13
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
مداخلة ممثل جمعية تموز للتنمية الاجتماعية / الدنمارك في الكونفرنس الثاني لشبكة العراق الجديد
أين المثقف العراقي مما يجري الأن ؟

لن أدخل في مادتي القصيرة هذه في إيجاد إجابات نهائية لأسئلة أعتبرها ثانوية عن : من هو المثقف العراقي ؟ وهل هناك ثقافة عراقية في الداخل وأخرى في الخارج ؟ وهل هناك صراع بين السياسي والثقافي في الواقع العراقي الأن ؟
سأهمل هذه الأسئلة وإجاباتها , والتفت الى حقيقتين أجد من الضروري أن أؤكد عليهما :
الحقيقة الاولى هي ان بلادنا العراق , أو أرض ما بين النهرين , كانت أول أرض للثقافة ألأنسانية , ففيها كان الحرف ألأول , والحرف ثقافة , وفيها الملحمة ألأولى , أعني ملحمة كلكامش , والملحمة ثقافة , وفيها قصيدة الحب ألأولى والأغنية ألأولى والترتيل الديني الأول , وهذه جميعاً تجسيدات لثقافة , وفي أرض العراق ظهرت أول قيثارة وأول مزمار واول طبل , وهي جميعا تجليات لثقافة , وفي أرضنا شيدت المعابد ونحتت التماثيل , وطرزت الثياب وزينت الأعناق والمعاصم بالفضة والذهب والآحجار الكريمة , وهذه جميعاً ثقافة , وفوق ترابنا صُهرت المعادن , وشُيدت القرى والمدن , ونشأت اول الدول , وسُنت اول القوانين والاحكام , وهذه جميعاُ مظاهرثقافة .
وأنا حين أعود حوالي ستة الاف سنة الى الوراء , أعيد الذاكرة فقط لجذر لا يزال يلهمنا حتى دون أن نعي هذا الزخم وهذه الحيوية والنشاط !
ورغم إنكسار الدور العراقي القديم وتراجعه بسقوط ألأمبراطورية الأشورية قبل حوالي 500 سنة من ميلاد السيد المسيح على يد الفرس , إلا ان الدور العراقي عاد ليتجدد مع ميلاد الدولة العباسية , عندما تحولت بغداد لعاصمة الدنيا من جديد , وأصبحت المدرسة المستنصرية جامعة العالم القديم , فالترجمة وعلوم اللغة والفلسفة والمدارس الفقهية والجدل والأجتهاد والشعر والموسيقى والتصوف والعمارة والخط , كانت علامات فارقة ومحسوبة للثقافة العراقية ومركزيتها حينذاك . ولم يكن تجدد هذا الدور بمعزل عن خصائص هذا الشعب وثقافته العميقة والراسخة . ورغم عصور ألانحطاط التي رافقت فترة ألاحتلال العثماني للعراق , إلا ان جذوة الثقافة العراقية ظلت متقدة , وكانت شراراتها تندلع بين فترة وأخرى , كاشفة عن شاعر كبير أو موسيقي عبقري أو عالم لغوي أو مصلح اجتماعي كالشعراء الكاظمي والحبوبي أو الموسيقي ملا عثمان الموصلي أو ألاب انستناس الكرملي ... الخ
وما ان أزيح الهم العثماني حتى تفجرت الثقافة العراقية , وخرجت من قماقمها لتقدم شعراء بحجم الرصافي والزهاوي والجواهري , ومطربين ورسامين وكتاب وصحفيين ونقاد وباحثين ومسرحيين , وكان دور هؤلاء المثقفين مركزياً وهاماً في الحياة السياسية في البلد .
اذن نحن نتكأ على ثقافة عميقة , بل غائرة في العمق , وهذه ميزة تحسب للمثقف العراقي , فمن يكون جذره عميقاً وأصيلاً كمثل هذا الذي تحدثت عنه , يُفترض ان يكون له دوره الذي يستحقه في الحاضر والمستقبل .
الحقيقة الثانية , تتجسد في تنوع ثقافتنا العراقية وغناها , فالشعب الذي سكن بلادنا , هو نتاج شعوب عديدة , شعوب كبيرة وصغيرة , سكنت هذه الارض , وأقامت بها , وكان لكل منها ثقافته الخاصة وأحياناً لغته الخاصة وطقوسه , فالعراقيون اليوم هم أحفاد السومريين والبابليين وألاشوريين والعرب والكرد والتركمان والفرس والارمن والمندائيين , من عبدة النجوم والاوثان والنار والالهة , ومن المسلمين والمسيحيين واليهود والصابئة واليزيديين , ولكل شريحة من هذه الشرائح العراقية الاصيلة خصوصياتها وثقافتها المتميزة , وقد أعطت للثقافة العراقية ملامح مما تحمله . ولذلك فإن هذا الغنى والتنوع هو نتاج هذه الثقافة المتنوعة , وهو سر ديمومتها وصمودها وإزدهارها , ولذلك من الضروري الانتباه لمحاولات فك هذه الوحدة , وضرب هذا التنوع الذي يلجأ اليه البعض ألآن , من أجل إجهاض الثقافة العراقية المتنوعة , ومحاولة تجزئتها لقتل غناها , وخنق تفاعلها وتفردها .
ربما يتسائل البعض : اذا كنا نستند الى هكذا عمق تأريخي اصيل , ونتسلح بمثل كل هذا التنوع الثقافي القادم من قوميات وطوائف ومكونات شعبنا , فأين هو المثقف العراقي ألآن , ولماذا لا نراه ولا نلمس فاعليته او تأثيره في المشهد العراقي المتشابك والمعقد الذي يعيشه وطننا الان ؟؟
أعتقد أن الأجابة على هكذا سؤال تتطلب بحثاً واسعاً ومستفيضاً لا تستطيع مداخلة سريعة الأيفاء به , ولكن ما اود لفت الانتباه اليه هو تفحص فعلين اساسيين في موضوعة غياب المثقف العراقي وهما فعل ( غُيب ) وفعل ( غاب ) والأول يعني أن هناك عاملاً موضوعياً, خارج إرادة المثقف العراقي , دفع بقصد أو بدون قصد الى إبعاده عن المشاركة او اخذ دوره في ما يجري الان , وهذا الامر ربما يمتد من تموز 1958 حتى وقتنا الحاضر , فالثورة رغم كل إيجابياتها على مستوى التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية , إلا انها قطعت التطور الطبيعي لنمو الثقافة العراقية , خصوصاً بعد سنتها الاولى . إذ إحتل العسكريون الواجهة في الدولة , وتشوهت المدن العراقية ( وهي حاضنة الثقافة وراعيتها ) وفقدت خصوصياتها وتميزها , واختل التوازن الذي كان طبيعيا بين المدن والارياف .
إن النهاية المفجعة للعائلة المالكة يوم الرابع عشر من تموز , كان مقدمة طبيعية لطقس شباط الاسود عام 1963 , ولطقوس العنف والهمجية اللاحقة طوال العقود الاربعة الماضية , ولسيادة ثقافة جديدة وغير مألوفة , لذلك لم يكن غريبا ان يوجه انقلابيو شباط رصاص رشاشاتهم نحو( نصب الحرية ) لأنهم ضد الحرية وضد الفن , ولم يكن مفاجئاً ان تزدحم سجون الانقلابيين بأكثر من 90%من مثقفي العراق , من كتاب وشعراء ومفكرين وباحثين ورجال فكر وثقافة وادب , في حين طغى على السطح القتلة والمهمشون والقرويون والبداة !! وإستمر هذا الوضع , بل تعمق اكثر خلال العقود الثلاث الاخيرة , اذ جرى تدجين الثقافة وتوظيفها كشكل من اشكال الاعلام السلطوي , أو مسخها وتشويهها , ورغم الاتساع الشكلي الكبير للحيز ( الثقافي ! )عدداً وإنتاجاً إلا أنه إتساع أفقي إفتقر للعمق والجدية , إذ لم نلحظ في الحركة الشعرية العراقية ثورة تشبه ثورة الشعر الحر نهاية الاربعينات , ولا جماعة كجماعة بغداد في الفن التشكيلي , ولا فرقة مسرحية كالمسرح الحديث في المسرح , ولا لغويا كمصطفى جواد .. ولا .. ولا... ولا .. وتمتد القائمة وتطول .
وحين بدأت طبخة إسقاط نظام صدام حسين تنضج على نار حامية , من قبل امريكا والقوى السياسية العراقية المرتبطة بها , لم يكن المثقف العراقي بين ( الثاردين أو المغمسين ! ), بل ظل مركوناً ومهملاً , وحين سقط النظام , الذي رسم المثقف الحالم صورة وردية لما سيعقبه , من ديمقراطية وعدالة , فوجيء المثقف بواقع عراقي لا يمكن تخيله حتى في الكوابيس , فالثقافة غائبة كلياً والمثقف منبوذ ومبعد ومحارب وشهيد , والمتاحف تُنهب , والمكتبات تُحرق , والشارع ينوح , والفضاءيات تلطم , والساحات تضج بالسيوف والزناجيل !! وتقسم العراق قومياً وطائفياً ومناطقياً وعشائرياً , فأين يجد المثقف العراقي نفسه وسط هذا الهياج وهذه الفوضى , ومن يسمع ( ضر ... ) في سوق الصفافير الضاج بالمفخخات والتفجير !!؟
ان المثقف العراقي , وبسبب وعيه وحساسيته , يدرك قبل غيره أنه إذا تعمق هذا التقسيم الذي يحفل به الواقع ألآن , فأن سمة التنوع والتلاقح والتكامل في الثقافة العراقية ستتلاشى , اما إذا كرسنا بدأ تأريخنا بثورة الحسين وبفاجعة إستشهاده وعائلته وصحبه في كربلاء , فسنلغي عمقنا التأريخي الممتد الوف من السنين , شاطبين إنجازات حضارية هائلة , ساهمنا بتحقيقها للبشرية والعالم .
لقد رحل رضا علي وعباس جميل وسعدي الحلي وجعفر السعدي , واُغتيل قاسم عبد الامير عجام , ومات على الرصيف الشاعر عقيل علي , وهذه الاسماء هي من ترد على الذاكرة الان , فمن إهتم برحيلهم ؟ وكم خرج في جنائزهم ؟ وهل يساوي مجموع من شيعهم تظاهرة طائفية واحدة في عراق اليوم ؟
لقد عاد اتحاد الادباء , وعادت نقابة الصحفيين ونقابات الفنانين المختلفة , ولكن هل اشتم احدكم رائحة ثقافة في الدستور الذي صوت الشعب العراقي على اقراره ؟ ! وهل يتذكر من يتفاوضون الان على تقاسم الوطن , هل يتذكرون المثقفين العراقيين ؟ وهل سمعتم ان خليل زاده قد اختلى بمثقف عراقي ليستمع لرأيه في ما يجري الان في العراق , وهو يختلي كل يوم بالخث والسمين ! بل هل دعي مثقف عراقي لوليمة من تلك الولائم الكثيرة التي اعقبت اقرار نتائج الانتخابات الاخيرة ؟ اذن هناك تغييب متعمد للمثقف العراقي , وليس هناك افق منظور للمدى الذي سينتهي فيه هذا التغييب !!!
أما فعل ( غاب ) المتعلق بالمثقف العراقي نفسه , اعني في قرار المثقف الخاص بالانسحاب والتقوقع , فهذه حقيقة يجب ان نقرها وأن نتلمس ملامحها وتجلياتها ,فبالنسبة للمثقفين الذين عاشوا في الخارج , وهم جمهرة واسعة ومتنوعة من المبدعين في شتى المجالات , فبعد شهر العسل القصير الذي أمضوه في القفص الذهبي ( لرابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين ), التي كانت تجمعاً ثقافياً ومهنياً له مجلته الخاصة وكيانه المستقل , وعلاقاته الثقافية العربية الواسعة , رغم ملامحه السياسية , وهوية من وقف ورائه . أقول بعد شهر العسل القصير هذا داخل كيان الرابطة , حَلَقَ الجميع خارج القفص , فإنهارت تجربة التجميع والتوحيد , وغاب صوت المثقف الموحَد , ورغم كل المحاولات الجادة والنزيهة , وغير النزيهة أيضاً !لأعادة التجميع والتوحيد , التي أعقبت إنهيار الرابطة , إلا أن الفشل كان نصيبها , وظل كل مثقف عراقي يغني منفرداً على ليلاه !! ولذلك لم يُستَشَر المثقفون عندما تم تجميع السياسيين العراقيين في مؤتمر لندن وفي اللقاءات والمؤتمرات التي سبقته او أعقبته .
أما مثقفو الداخل , المفهوم والمبرر موقفهم , فقد مسخت السلطة الفاشية ملامح إنجازاتهم , ووظفت الكثير منها في إعلامها الفاشي , لتمجيد الطاغية ونظامه وحروبه , برضاهم أو بدون رضاهم , وفي الحالتين , فهم يواجهون الحرج بين ماضيهم المحسوب في صف النظام , وبين ان يكون لهم صوت مسموع , وتأثير ملموس في الواقع الجديد , وفي تحديد مساراته , إنهم مرتبكون الان , مندهشون , بين إرهاب وتسلط ودكتاتورية تخنق الانفاس , لم يزل طعمها تحت اللسان , وبين حرية مطلقة , بل منفلتة , لاحدود لأفاقها ومدياتها تهبط عليهم فجأة وبدون مقدمات !! لذلك نشهد صراعات داخلية عميقة , طفت على السطح في الفضاءيات والصحف العراقية والعربية وصفحات ألأنترنيت , داخل إتحادات ألادباء والفنانين ونقابة الصحفيين وغيرها من الجمعيات والأطر الثقافية , وهي مظاهر تشير للتفكك والتشظي , والسؤال كيف يستطيع من لم يَلُم نفسه أن يُسمِع صوته للآخرين , وان يكون مؤثراً وإيجابياً ؟
أخيراً أعتقد أن إعادة دورة الحياة الطبيعية في العراق , أعني ان يذهب التلاميذ الى مدارسهم , والرجال والنساء الى أعمالهم ووظائفهم , والمؤمنون لجوامعهم وكنائسهم , والسكيرون لباراتهم , والعشاق لخلواتهم المنزوية , وان يصدح في ( الكيا ) التي نركبها صوت سعدي الحلي و ( غفه رسمك بعيني من الصبح لليوم !! ) وهو أمر لن يحدث في القريب العاجل , بل ربما يحدث في أفق منظور , إن كل ذلك يحتاج ليس أقل من عقد قادم من السنين , عندها ستعود للثقافة بهجتها , وسيكون للمثقف العراقي مكانته التي يستحقها , و سيضع الصليب الذي حمله طويلاً ليتأمل قليلاً ويرتاح !!

مالمو ــ الســـويد[/b][/size][/font]