المحرر موضوع: اكيتو رأس السنة البابلية الكلدانية  (زيارة 1780 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل M.T.Yako

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 133
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني

مع حلول الأول من نيسان ، يحل التاريخ والجمال ، النظام والإنبعاث ، في هذا اليوم وخلال لحظة واحدة تكاد تكون معدومة في قياسات الزمن ، فإذ بفكرنا يختزل الزمن والمكان معآ ، ويقودنا مباشرة الى الأصول والاساسات الأولى للإنسان والحضارات والى كل القيم الانسانية والحضارية السامية التي تلف كل التاريخ الكوني . ألا وهو الإنسان الكلداني البابلي  صاحب الحضارة الرافدية التي كان منبعها ومنشأها مدينة بابل المقدسة .

قبل الغوص في احتفالات أكيتو ، نقول ، لماذا التسمية البابلية الكلدانية ؟
من دون أي مقدمات نقول ، ان التاريخ يشهد و شهادات المؤرخين وعلماء الآثار يؤكدون على مرادفة التسمية  الكلدانية بالبابلية ، وان تسمية البابليين تشير الى العرق الكلداني الذي كان يتسمى باسم عاصمتهم بابل ، تمامآ كأن نقول عراقيين كناية بالشعب او الشعوب الأصلية التي أقامت على ارض العراق منذ القديم ، وهذا لا يعني ان التسمية ( عراق او عراقيين ) هي تسمية قومية ، وانما الشعوب الساكنة فيه كالعرب والأكراد والكلدانيين هي التسميات العرقية والقومية التي تتسمى  ايضآ باسم الدولة التي يقيمون فيها ، كذلك هو الحال مع تسمية ( بابل و بابليين ) فإنها التسمية المكانية لا العرقية ، وان الكلدانيين الذين سكنوها ، هم العرق القومي الذي تسمى بالبابليين نسبة لمدينهم وعاصمتهم العظيمة بابل  . وهذا ما ذكرته الكاتبة مرغريت روثن في كتابها الموسوم – علوم الكلدانيين ص 11 )ترجمة يوسف حبي تحت عنوان علوم البابليين ، إذ جاء فيه ( يقول ديودور الصقلي ( ان الكلدان هم قدامى البابليين لا بل الأقدم بينهم )(**) . ولكون الكلدانية هي التسمية الرافدية الأصيلة والحية التي زينت بحروفها العذبة الجميلة صفحات الدستور العراقي الدائم ، بالإضافة لإعتزاز الكلدانيين اليوم بهذا العمر الزمني الذي يطوي بين ثناياه كل تاريخ وادي الرافدين ، وانهم  ( الكلدانيين )الوحيدين الذين اتخذوابداية تاريخ اول ظهور للكلدانيين البابليين على ارض الرافدين  والذي يعود الى 5300 سنة قبل الميلاد كتقويم قومي و رسمي لهم  وجنبآ الى جنب مع  التقويم الميلادي ، لذلك أينما نقرأ تسمية البابليين فإنها تعني الكلدانيين  .

 الزمن ، وبحسب التقويم الزمني الكلداني البابلي ،  وبعد ايام قليلة سندخل عام 7306 كلدانية والتي توافق 2006 ميلادية ، وإذا ما اردنا ان نحتفل  اجواء احتفالات اعياد راس السنة الكلدانية البابلية ( أكيتو ) ، علينا ان نختزل حوالي  7306 من السنوات الزمنية الماضية ، لنستقر في موطن البابليين ، حيث هناك اجدادنا الكلدانيين .
 
المكان ، مدينة بابل ، عاصمة الكلدانيين الذين تسموا باسمها واطلق عليهم (البابليين) ، محل اقامة الإله مردوخ كبير آلهة البابليين ،الأعلى لوادي الرافدين القديم ، والذي كان هو المحور الأول والأساس  في احتفالات عيد رأس السنة البابلية الجديدة ( أكيتو ) . 

الجمال ، ان مظاهر التنظيم والتنسيق والجمال التي كانت تتسم بها احتفالات أكيتو ، لم تكن معزولة عن جمال الطبيعة ، مع أكيتو يحل الربيع ، رمز القوة والجمال ، الأمل وتجدد الحياة ،  فكما كانت التسميتان ( الكلدانيين والبابليين )  مترادفتان ، كذلك كانت ( أكيتو والربيع ) ايضآ تسميتان مترادفتان تكمل احداهما الأخرى ،  فعندما كان الانسان يتراقص فرحآ في أكيتو ، كانت الأزهار والأشجار تشاركه الرقص فرحآ بالربيع ، وإذا كان الانسان البابلي يعانق مقدساته و معابده ويتواصل بكل محبة وود مع بني جنسه ، كذلك كان  الطير والحشر وكل دواب الأرض ، كل يعانق الحبيبة او يشتاق الى حبيب ، وبعد سنة من المسؤولية وما تخللتها من العمل الدؤوب والذنوب ، يأتي الملك ويلقي على الأرض كل النياشين والميداليات والشارات وحتى الذنوب  ، ثم يلمس يد الإله مردوخ ، يرجوه النهوض لكي يضفي على ملكه الشرعية التي تمكنه من تجديد حكمه ثانية ، هكذا ايضآ وبعد ان يزول صيف وادي الرافدين الحارق اللهاب يأتي الخريف المتقلب المزاج والحال ثم يخيم على الديار برد الشتاء القارص ، وبزواله ( الشتاء) يهل علينا التوأمين ( أكيتو والربيع ) اللذين يسريان الحياة والروح  مجددآ في الانسان والطبيعة . حقآ انها قصة الخلق والموت ، قصة الأمل والألم ، قصة الفرح والأسى ، قصة انتصار الحق والنظام على الفوضى والشر ،  انها قصة الحياة والتعامل بين الانسان والطبيعة والألهة .   

الاحتفالات
تبدأ إحتفالات ومهرجانات رأس السنة ( أكيتو) من 1 إلى 11 نيسان ، ويتولى تنظيم فقرات الاحتفال كالآتي :-
1- في الأيام الأربعة الأولى :- احتفاليات خاصة بالكهنة ، لممارسة بعض الطقوس والواجبات الدينية ، مثل تلاوة الصلوات وانشاد التراتيل الدينية واجراء التطهيرات في المعابد .
2- في مساء اليوم الرابع ( ...يعلن الكاهن الأعلى بدء المراسيم الإحتفالية للسنة الجديدة على مستوى العامة ، مبتدئين بالتلاوة الشعرية لأسطورة الخليقة البابلية الإينمو إيليش التي تعني عندما في العلى ، ...) (*).
(وبعد الانتهاء من تلاوة الاسطورة يمضي الملك الى معبد إله الكتابة وابن الإله مردوخ الإله نابو ليستلم الصولجان المقدس من الكاهن الأعلى ...ثم يسافر الملك إلى مدينة بورسيبا مدينة الإله نابو ...)( *).

3- في اليوم الخامس ،
يعود الملك بصحبة تمثال نابو الذي يتركه عند البوابة الجنوبية الغربية المسماة بوابة اوراش .. ثم يقوم الملك بالتخلي عن شارت ملوكيته وهي الصولجان والحلقة والسيف أمام بوابة معبد الإيساكيلا ، وبعد سلسلة من الطقوس تعاد له شاراته تلك بعد تطهيره بالماء المقدس ، ثم يعاد تثبيته كملك على البلاد لكي يستطيع أن يدخل المعبد ( طاهرآ ) لغرض اكمال الطقوس الإحتفالية ...)(  *).
ايضآ يعتبر يوم  تقديم القرابين ، حيث  يذبح كبش  ويقوم أحد الكهنة بمسح جدران المعبد بدمها اشارة على انتقال جميع الذنوب التي مورست خلال السنة الماضية الى الكبش ويسمى كبش الذنوب  ومن ثم ترمى جثة الكبش في النهر ..

و في مساء هذا اليوم  يكون الأهالي في حالة  قصوى من الاهتياج وخاصة عندما تمر عربة مردوخ في الشوارع دون سائقها كدلالة على الفوضى والعماء الكوني قبل تنظيمه من قبل مردوخ .( *).

4- في اليوم السادس 
تصطف الجماهير المحتفلة على جانبي شارع الموكب لإستقبال الإله نابو القادم من مدينة بورسيبا . 

5-أ - في اليوم السابع ، ينظف تمثال كبير الآلهة مردوخ ويكسي بثوب جديد كما تنظف بقية تماثيل الآلهة وتكسي ايضآ بثياب جديدة (*).
ب – يقوم الإله نابو بزيارة الإله المحارب ننورتا في معبده حيث يقومان سوية بالتغلب على إلهين من آلهة العماء في تمثيلية طقسية ...ثم يمضي بهما الكهنة ليضما الى كبير الآلهة (*).
6- في اليومين الثامن والتاسع
بعد ان تصل بابل تباعآ آلهة أور وسيبار وكوثا وكيش وأوروك ونيبور والمدن الأخرى يبعث مردوخ من جديد فتتصاعد حدة الإحتفالات الى ذروتها بعد اخراج الآلهة وعرضها على الشعب في طقوس يراد منها تأكيد ولاء بقية الآلهة لإله بابل الرسمي والإله الأعلى لوادي الرافدين القديم ( *).
7- اليوم العاشر
في هذا اليوم يبدأ العيد الحقيقي للشعب ، حيث يدخل الملك إلى ضريح الإله مردوخ ، ثم يلمس الملك يد الإله مردوخ ويرجوه النهوض ، بعدها يقوم الملك بأخذ الإله الى الباحة الرئيسية للإيساكيلا ، وبهذا المشهد يتم الاقرار بشرعية الملك في حكمه .
ثم تتقدم كل آلهة البلدان لمنح كبير الآلهة  السلطة المطلقة عبر تنازلها له عن صفاتها الإلهية .
بعدئذ يقوم الملك بقيادة عربة الإله مردوخ ... تتبعها عربات بقية الآلهة لتطوف شارع الموكب ... متوجهة الى بيت الأكيتو ... ويقوم الملك بنفسه ادخال تمثال الأله الى داخل بيت الأكيتو وسط انشاد تراتيل واناشيد طقسية (*).
8- اليوم الحادي عشر والأخير
يتم في معبد الإيساكيلا حيث ترديد الدعاءات والتمنيات للسنة الجدية وبحضور كافة الآلهة المشاركة في الموكب ، بعدئذ تختم الاحتفالات بوليمة عامة باذخة لجميع سكان بابل والحجاج القادمين من المدن تصاحب هذه الوليمة الموسيقى والتراتيل وكل تعابير الفرح ، وبإنتهاء هذا اليوم تبدأ تماثيل الآلهة بالعودة الى معابدها ويكون تمثال نابو هو اول من يغادر بابل تتبعه تماثيل بقية الآلهة ، وهكذا يعود الكهنة الى معابدهم والحياة الى مجراها الطبيعي (*).

حقآ ما تقدم  ، كان كرنفالآ رائعآ  وعرسآ مهيبآ ، هل من الممكن ولو في الخيال والأحلام ، ان يكون هناك من جنس البشر ، شخص مملوء لحد التخمة  حقد وغضب على الإنسان والطبيعة والآلهة ؟ حيث يقتل الانسان ، ويغرق كل ما بعثته الطبيعة من الروح والحياة ، ويذل الألهة ويغربها عن ذاتها وتاريخها ، وعن اهلها ومعابدها ، يأتينا الجواب بنعم !!! نعم هناك من حكم على الأكيتو البابلي  بالاعدام ، إذ احرق واغرق بيت الأكيتو وبابل ، قتل واجلى البابليين اهل الأكيتو ، وسرق الأله  مردوخ محور احتفالات الأكيتو ونقله الى نينوى  ، ان مَن قام بكل ذلك هو الامبراطور الآشوري سنحاريب ، وكان ذلك عام 689 ق . م ، ومن بعد هذا التاريخ المشؤوم قام سيء الصيت سنحاريب بتقليد احتفالات الأكيتو في عاصمته نينوى ، فبعد ان سجن كبير الآلهة مردوخ في زنزانة السجن في نينوى  ، اطلق الأله  الأجنبي والشوباري الأصل آشور ليكون محور الإحتفالات .

وجاءت اعترافات الامبراطورالآشوري والتفاصيل الدقيقة التي دونها لنا في الوثائق التي تركها لنا  حول الحملة الظالمة  التي قادها بنفسه على مدينة بابل،  لتكون  ادلة ادانة ضد ه ، ولتبين مدى بشاعة المجزرة والدمار الذي احدثه بحق الإنسان والطبيعة والآلهة في بابل ، إذ يقول ( هاجمتها كالاعصار وكالعاصفة طحت بها ... لم اترك من سكانها شيبا وشبابا اي فرد فملأت بجثثهم طرقاتها اما المدينة نفسها وبيوتها فقط حطمتها وضربتها وبالنيران دمرتها من اسسها حتى سقوفها .. ولكي ينسى الناس في المستقبل حتى تراب معابدها لذا سلطت عليها المياه وحولتها الى مراع ، ولتهدئة قلب آشور مولاي كيما يركع الناس صاغرين ازاء جبروته الهائل ارسلت عينات من تراب بابل هدايا لاقصى الشعوب واختزنت بعضا منه في جرة مستورة اودعتها معبد عيد رأس السنة الجديدة بآشور ) ، وكان قد نقل تمثال الإله مردوخ الى بلاده ...(**).

ولكن اين المفر من اللعنة ؟  لعنة مَن لحقت بسنحاريب هذا ، حتى ينقلب عليه كل أهل بيته ، ويموت قتلآ على يد احد ابنائه ؟ هل كانت لعنة كبير الآلهة مردوخ ، أم كانت لعنة الطبيعة التي احرقها واغرقها بماء نهر الفرات ، أم كانت لعنة تراب مدينة بابل الذي ارسل بعض منه كهداية لأقصى شعوب الأرض شماتة بها وبسكانها وآلهتها ، أم كانت لعنة الكلدانيين البابليين الذين قتلهم وسبى واجلى من سلم منهم الى الديار الآشورية ، والأرجح كانت لعنة الثلاثة ، الإنسان والطبيعة والآلهة معآ ، ودليلنا على ذلك هو قيام ابن سنحاريب المدعو اسرحدون وخوفآ من اللعنة والمصير الذي آل اليه والده بإعادة تعمير بابل وإعادة طقوس مراسيم الإحتفال بكبير آلهة وادي الرافدين مردوخ .

تهنئة قلبية ووردة نيسانية عطرة ، من ابناء الأمة الكلدانية ،  في عيد راس السنة البابلية الكلدانية  ، نعلقها فخرآ على صدر كل عراقي أصيل ، آملين من الرب ، أن يعيده علينا في كل عام وعراقنا الحبيب ينعم  بالأمن والسلام ، وأن يسود الخير  وروح المحبة والمساواة بين جميع ابناء الشعب العراقي من العرب والاكراد ، الكلدان والسريان ، الأرمن والصابئة ، التركمان والإيزيديين ، وخير ما اختم به مقالي هذا في مثل  هذه المناسبة السعيدة هو ، كل عام وانتم بألف خير بمناسبة اطلالة العام البابلي الكلداني الجديد ، عام 7306 كلدانية . 

(*) كتاب ( الكلدان .. منذ بدء الزمان ) للمؤرخ الباحث عامر حنا فتوحي ، مع اعتذاري الشديد للأخ المؤلف على قيامي بإختصار النصوص لتوافق وحجم المقال ،  انصح الجميع وخاصة اخواني الكلدانيين  بإقتناء هذا الكتاب الرائع ، لأنه كتاب شامل يتناول بالبحث الموثق والمحقق عن كل ما يتعلق بتاريخ وادي الرافدين عامة وحضارة الكلدانيين خاصة .
( ** ) كتاب ( تاريخ الكلدان ، الجزء الأول ) للمؤلف أبلحد افرام ساوا .
 

منصور توما ياقو
16 / آذار / 7305 كلدانية
الموافق
16 / آذار / 2006 م