المحرر موضوع: النفس الجريحة ( قراءة المعاني الإنسانية في ملحمة كلكامش)  (زيارة 4023 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل الاب يوسف جزراوي

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 311
  • الجنس: ذكر
  • انك انت صانع نفسك بنفسك
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
مقتطفات من كتاب
النفس الجريحة ( قراءة المعاني الإنسانية في ملحمة كلكامش)
(دراسة وتحليل وتعليق  الأب يوسف جزراوي) ( قيد الطبع ).


في البدء كلمة
 ، وما أكثر الكلام  في عالمنا اليوم!
لكنني ابغي كلمة أيضاح، كلمة مقتضبة ، كلمة ذات معنى ومغزى.  فما  فائدة الكلام ان كان معقدًا مبهمًا غير مفهومًا! وما فائدة الكلام أن لم يغدو حوارًا بناءًا مع الطرف الآخر( القارئ)، وما اكثر الكمات الرنانة والهدامة، وما أكثر الكلمات المنمقة والجوفاء في علومتنا اليوم.
لذا ادعوك يا قارئي الكريم لكلمة استهلال نوضح منها غاية دراستنا هذه، لا بل اشارات دالة لتقودنا بأمان برحلة حبّ وبحث واكتشاف واستقراء في عالم إناس نلتقيهم في ملحمة رائعة وخالدة، ملحمة تعكس حياة الكثيرين منا، وربما جميعنا ( لكنني ضد التعميم).
ادعوا كل من يقرأ هذه الرؤية التحليلة ان يسجل ما مسه من الملحمة، فيبدأ يحاكي ذاته ويحاوره، ليكتشف سر الحياة مع كلكامش وسر الإنسان مع أنكيدو الصائر إنسانًا.
اتمنى للجميع رحلة موفقة وممتعة وبناءة مع في رحاب ملحمة  كلكامش وانكيدو، اطلعوا عليها وتأملوا في اشخاصها واحداثها والعبر المتوخاة منها، حينذاك ستقولون شكرًا .... لنبدأ معًا رحلتنا ....

"هو الذي رأى كل شيء حتى نهايات الأرض، الذي خبر جميع الأمور وعد الكل ، الغزير الحكمة الذي عرف جميع الأمور كلكامش"( ملحمة كلكامش اللوح الأول- العامود الأول)
 بهذه الكلمات بداءت ملحمة كلكامش وهي أقدم نص أدبي وصلَ الينا من حضارة العالم القديم في بلاد وادي الرافدين، على الرغم من إن الملحمة تدور حول شخصية مهمة واحدة في الظاهر وهو كلكامش وإنها مليئة بالمادة الأسطورية الآ أنها تعج أيضًا بالمعلومات التاريخية والثقافية المهمة حول بدايات العصور التاريخية . سنحاول أن نبين في دراستنا هذه بأن البطل الحقيقي للملحمة هو أنكيدو وليس كلكامش، انكيدو الذي يعد حدث موته المحرك الاساس في الملحمة ، لا بل موته يعد المادة التي تبنى عليها الاحداث الدرامية في الملحمة، فلولا موت انكيدو لكما انكشف الوجه الآخر لكلكامش ومحاولات سعيه في البحث عن الخلود.لذا ارتأيتُ سلفًا ان اقول ان انكيدو هو المحرك أو علة الاحداث.

دونت هذه الملحمة الإنسانية الراقية قبل نحو 4000 عام ، نقرأ فيها معالجة لقضايا إنسانية تمس الناس في كل زمان ومكان، كقضية الحياة والموت والبحث عن الخلود، وقضية مشاعر الحزن ازاء فقدان كائنًا عزيزًا . أليس الموت هو الشبح الذي يخيف إنساننا ويهزه ويقلقه ويرعبه وجوديًا؟ كما تسلط الملحمة الضوء على قصة إنسنة الإنسان بوجود الآخر في حياته ، واهمية المرأة في حياة الرجل وما تلعبه من دور فعال في صقل حياة الرجل المتوحش الذي جسدته الملحمة بانكيدو الذي كان يمثل رمزًا للهجين الذي كان يحمله انكيدو ما بين عالم البداوة والتمدن وعالم الانسان والحيوان، ناهيك عن صراع البقاء ، فالانتقالة التي حصلت مع انكيدو وانتقاله وتحوله إلى انسان بفضل صاحبة الحانة وتركه للغابة وعالم الصيد والتوحش ، وانتهاء صراعه وقتاله مع كلكامش المتسلط، وتحول صراعهما إلى صداقة عميقة ، إذ تروي الملحمة ان انكيدو صار الساعد الايمن لكلكامش وسيفه الضارب في مواجهة الشر ، حتى صار انكيدو يعيش حياته في سبيل صديقه كلكامش ويقاسمه الحلوة والمرة!
الاهم في الملحمة تحول نوعية العلاقة بين كلكامش وانكيدو من علاقة صراع ونزاع ومنافسة وانتقام إلى صداقة عميقة وخطة عمل لمكافحة الشر، وكأن في الملحمة رسالة تقول ان اليد الواحدة لا تصفق ( فكلكامش صنع المستحيل وسطر البطولات مع صديقه انكيدو) ولولا انكيدو لظلت بطولة وانتصارات كلكامش ناقصة. وهذا دليل اهمية الآخر في حياتنا.
كما نستشف من الملحمة أيضًا مدى اهمية حضور الآخر معنا واصغاءه لنا وتقويم خطواتنا، فكلكامش يروي لشخصيات متعددة ومتنوعة صادفها في رحلته عن البحث عن سر الحياة والخلود ، يروي لهم عن حزنه وفاجعته وقصة فقدانه لنكيدو المحارب والاخ والصديق الشجاع، ويعلل لهم الهدف من رحلته الشاقة. فيأتي صوت الآخر( صاحبة الحانة _ الزوج والزوجة الناجيان من الطوفان) كمرشد ودليل وشعاع نور في مسيرة كلكامش. إنه صوت الطمأنينة بعد مشقات الطرق ومتاهات الحياة ، وكأن الآخر هو واحة استراحة وتعاطف وتضامن مع كلكامش الجبار الذي هزمه وارعبه موت خله انكيدو وجعل منه كائنًا مهزومًا !ألستم معي أن قلتُ: أن واحدنا يحتاج ليد تسير معه وربما تقوده في ليل الحياة الدامس، وهذا ما تعلمنا ايه الملحمة التي تعكس حقبة ثقافية وتاريخية ودينية من بلاد وادي الرافدين العريقة.
والاهم في رأيي من زواية إنسانية وفلسفية و لاهوتية هو حجم الذكر الطيب(الاثر) والفراغ الذي يتركه الانسان برحيله إلى العالم الاخر، فبقدر ما يكون الحجم كبيرًا وعميقًا ومؤثرًا، بقدر ذلك سيكون حجم خلودنا. فكلكامش صادف موت المئات من ابناء مملكته، لكنه لم يهتز ولم ينذعر ويحزن ويتألم ولم يتأثر مثلما حصل له على رحيل صديقه وخله انكيدو. فربما أثر الآخرين في حياتنا لا نشعر به الا بفقداننا لهم.
ولعله من المفيد الاستشهاد باللوح العاشر لنؤكد ما ذكرنا اعلاه عن مدى اهمية الآخر في الملحمة .
نجد كلكامش في اللوح العاشر يصل إلى ساحل البحر حيث يلتقي بصاحبه الحانة التي كان للقائه بها علاقة بطريقة وصوله إلى جده أوتو ــ نبشتم الخالد والناجي هو وزوجته من الطوفان الذي تعد احداثه كثيرة الشبه بطوفان نوح الوارد ذكره في الكتاب المُقدس.
سدوري صاحبة الحانة الساكنة عند ساحل البحر شاهدت كلكامش مقبلاً وكان لباسه من الجلود ووجهه أشعث كمن سافر سفرًا طويلاً ويبدو العناء والتعب ولكن جسمه من مادة الآلهة فنظرت صاحب الحانة إلى كلكامش وناجت نفسها بهذه الكلمات :" يبدو أن هذا الرجل قاتل فليت شعري إلى أين يريد". فأوصدت بابها لما رأته يقترب وأحكمت غلقه بالمزلاج، فسمع كلكامش صرير الباب فنادى صاحبة الحانة وقال :" ما الذي أنكرت فيّ يا صاحبة الحانة حتى أوصدتِ بابكِ بوجهي وأحكمتِ غلقه بالمزلاج ؟ لاحطمن بابكِ وأكسر المدخل، وأردف كلكامش قائلا لصاحبة الحانة من جديد "أنا كلكامش ،أنا الذي قبضت على الثور الذي نزل من السماء وقتلته وغلبت حارس الغابة وقهرت خمبابا ". فأجابت صاحبة الحانة كلكامش وقالت له:" إن كنت حقًا كلكامش الذي قتل حارس الغابة وغلبت خمبابا الذي يعيش في غابة الأرز وقتل الأسود في مجازات الجبال وأمسك بثور السماء وقتله فلم ذبلت وجنتاك ولاح الغم على وجهك؟ وعلامَ ملك الحزن قلبك وتبدلت هيئتك ولِمَ صار وجهك أشعث كوجه من سافر سفرًا طويلاً؟ وكيف لفح وجهك الحر والقر؟ وعلامَ تهيم على وجهك في الصحارى؟
فأجاب كلكامش صاحبة الحانة وقال لها: "كيف لا تذبل وجنتاي ويمتقع وجهي ويملأ الأسى والحزن قلبي وتتبدل هيئتي فيصير وجهي أشعث كمن أنهكه السفر الطويل ويلفح وجهي الحر والقر وأهيم على وجهي في الصحارى وقد أدرك مصير البشر صاحبي وأخي الأصغر الذي صاد الحمر الوحشية والنمور في الصحارى والذي تغلب على جميع الصعاب وغلب خمبابا الذي يسكن غابة الأرز أنه أنكيدو صاحبي وخلي الذي أحببته حبًا جمًا لقد أنتهي إلى ما يصير إليه البشر جميعًا فبكيته في المساء وفي النهار ندبته ستة أيام وسبع ليال معللاً نفسي بأنه سيقوم من كثرة بكائي ونواحي وامتنعت عن تسليمه إلى القبر أبقيته ستة أيام وسبع ليال حتى تجمع الدود على وجهه فأفزعني الموت حتى همت على وجهي في الصحارى.  
إن النازلة التي حلت بصاحبي تقض مضجعي آه! لقد غدا صاحبي الذي أحببت ترابًا وأنا ، سأضطجع مثله فلا أقوم أبد الابدين فيا صاحبة الحانة ، وأنا أنظر إلى وجهك ، أيكون في وسعي ألا أرى الموت الذي أخشاه وارهبه ؟
فأجابت صاحبة الحانة كلكامش قائلة له: "إلى أين تسعى يا كلكامش إن الحياة التي تبغي لن تجد حينما خلقت الآلهة العظام البشر قدرت الموت على البشرية واستأثرت هي بالحياة أما أنت يا كلكامش فليكن كرشك مليئا على الدوام وكن فرحًا مبتهجاً نهار مساء وأقم الأفراح في كل يوم من أيامك وأرقص وألعب مساء نهار وأجعل ثيابك نظيفة زاهية وأغسل رأسك وأستحمم في الماء ودلل الصغير الذي يمسك بيدك وأفرح الزوجة التي بين أحضانك وهذا هو نصيب البشرية. ولكن كلكامش أعادة الخطاب إلى صاحبة الحانة قائلا : يا صاحبة الحانة أين الطريق إلى اوتو – نبشتم، دليني كيف أتجه إليه فإذا أمكنني للوصول إليه فأنني حتى البحار سأعبرها وإذا تعذر الوصول إليه فسأهيم على وجهي في الصحارى.

حزن كلكامش ووفاءه لانكيدو
حوار كلكامش السابق مع صاحبة الحانة يعكس مدى حزنه وتعلقه بفقيده وخله انكيدو، حتى انه يرفض ان يدفن جسد انكيدو سبع ليالٍ ظانًا انه من كثرة بكاءه على صديقه سيعود للحياة! ولكن منظر ظهور الديدان على وجه صديقه، دفعه للعدول عن رأيه، فأمر بدفنه. ووفاءًا له وتخلديدًا لذكره يأمر بأن يصنع له تماثيل في المملكة،. إذ ذُكر في الحقل الثاني من اللوح الثامن ما يلي:
.. اسمعوني أيها الشيبة ( الشيوخ ) وأصغوا لي من أجل انكيدو ،خلي وصاحبي ، أبكي وأنوح نواح الثكلى. أنه الفأس التي في جنبي وقوة ساعدي والخنجر الذي في حزامي والمجن الذي يدرأ عني وفرحتي وبهجتي وكسوة عيدي. يا خلي وأخي الأصغر لقد طارتَ حمار الوحش في التلال واقتنصت النمور في الصحارى. أنكيدو! يا صاحبي ، وأخي الأصغر الذي اقتنص حمار الوحش في النجاد والنمر في الصحاري .تغلبنا معا على الصعاب وارتقينا أعالي الجبال، ومسكنا بالثور السماوي ونحرناه ، قهرنا خمبابا الساكن في غابة الأرز فأي سنة ( من النوم) هذه التي غلبتك وتمكنت منك ؟ طواك ظلام الليل فلا تسمعني.
ولكن أنكيدو لم يرفع عينه فجس قلبه كلكامش فلم ينبض ،وعندك ذاك برقع صديقه كالعروس
وأخذ يزأر حوله كالأسد وكاللبؤة التي اختطف منها أشبالها، وصار يروح ويجيء أمام الفراش وهو ينظر إليه.، وينتف شعره ويرميه على الأرض ، مزق ثيابه الجميلة ورماها كأنها أشياء نجسة.
ثم دعا كلكامش الصناع والنحاسين والنحاتين وقال لهم أصنعوا تمثالا لصديقي وصنع التمثال لصديقه. ونادى أيضًا صناع المدينة وصاح بهم : أيها الصفار والصائغ والجوهري ونحات الأحجار اصنعوا لي تمثالاً لخلي ثم نحت لصديقه تمثالاً جاعلا ًصدره من اللازورد وجسمه من الذهب ونصب منضدة من الخشب القوي وإناء من اللازورد مملوءًا بالزبد وقرب ذلك إلى شمش وشرع يندب صديقه ويرثيه .
سأجعل أهل أوروك يبكون عليك ويندبونك وسأجعل أهل الفرح يحزنون عليك وأنا نفسي بعد إن توسد في الثرى سأطلق شعري والبس جلد الأسود وأهيم على وجهي في الصحارى. ويبدو من سياق القصة إن كلكامش بعد إن قام بشعائر الدفن الخاصة، صار يرثي صديقه ويندبه ويبكيه ليل نهار ، ثم شرع يهيم على وجهه في البراري ويجوب الارض باحثًا عن سر الخلود.

رحلة كلكامش في بحثه عن الخلود
يمرض انكيدو ويموت تحت انظار كلكامش الحزين الذي هزه المشهد بعنف، فتتغير هيئته ويعتريه قلق مرضي، بل خوف بعد مشهد موت الصديق الوفي، فيهرب من منظرالجثة الذي يذكره بالفناء .. فاجعة الموت والتلاشي ومن ثم الرقود في العالم السفلي ذلك العالم الذي احتل موقع الصدارة في الملحمة، فهو العالم النهائي المفزع الذي لا رجعة منه ابدًا فتكون رؤاه الجديدة هي التطلع الى البحث عن خلود الانسان والهروب من الموت والانتصار عليه واذال ذلك اللغز الذي حرمه من رؤية صديقه ثانية.
ونقرأ مستلخصين في اللوح التاسع ( العامود الاول) عمق الحزن الذي عشعش في اعماق كلكامش الجبار الذي لم يعرف الخوف، حزن جعل من ذاته الجريحة مرتعشة من الفناء.
من أجل أنكيدو ، خله وصديقه بكى كلكامش بكاءٍ مرًا وهام على وجهه في الصحارى، وصار يناجي نفسه : " إذا ما مت أفلا يكون مصيري مثل أنكيدو ؟ لقد حل الحزن ولأسى بجسمي خفت من الموت ، وها أنا أهيم في البوادي والى بيت أوتو- نبشتم أابن اوبار – توتو أخذت الطريق وحثثت الخطى إليه.
سيلاحظ القارى الكريم لقد صار موت انكيدو الحدث الذي تدور عليه أحدث ما تبقى من الملحمة. وصار مادة درامية تتوغل في الحديث عن الانسان :" يا صاحبة الحانة أين الطريق إلى اوتو – نبشتم، دليني كيف أتجه إليه؟ فإذا أمكنني للوصول إليه فأنني حتى البحار سأعبرها وإذا تعذر الوصول إليه فسأهيم على وجهي في الصحارى . هذه اللوح كاشف عن وفاء كلكامش لصديقه الانسان انكيدو، الذي فصل بينهما الموت ومدى صدى الفاجعة ، فاجعة الرحيل المفأجئ التي جعلت كلكامش يشعر ويلمس لمس اليد عمق الفراغ الذي تركه رحيل صديقه انكيدو من حياته. شعور بالوحدة ربما والاسى والفقدان والخوف من الموت! انه شعور النفس أو الذات الجريحة.

حقيقة لا نستطيع نكرانها
كان من الصعوبة على كلكامس ذلك الانسان ان يفقد كل شئ بلمح البصر! ان يخسر حليفه وخله واخيه الصغير وصديق انتصاراته ومغامراته. كان لمن الصعوبة على كلكامش تقبل تلك الحقيقة المرّة. فشكل ذلك الشعور الاحباط واليأس بعد موت انكيدو وصار الموت قضية تشغل بال كلكامش وهزت كيانه المسحوق والذي كان يعتصر ألمًا لموت انكيدو ، ففعل الموت نفسه هو الذي قلب الموازين ، فكان موت انكيدو الصحوة التي كشفت لكلكامش انه انسان فان لاغير .
الإنسان فانن ، هي تلك الحقيقة التي نطقها كلكامش دون وعي لصديقه انكيدو، حين رفض هذا الأخير الذهاب إلى قتل الوحش خمبابا حارس الغابة قبلأان يعنفه جلجامش ويقنعه فيخاطبه مؤنبًا: " ياصديقي من ذا الذي يستطيع أن يرقى إلى السماء . فالالهة وحدهم هم الذين يعيشون إلى الأبد مع شمش اما البشر فأيامهم معدودات وكل ماعملوا عبث يذهب مع الريح ".
لو أمعن القارئ اللبيب النظر في ما قاله كلكامش لانكيدو ، سيرى أن هذا التصريح يشكل اعترافًا غير واعيًا من قبل كلكامش بفناء الانسان واستحالة خلوده، لذا سيعاني كلكامش من تناقض وصعوبة بالغة في استيعابه للحالة التي يصادفها بعد موت انكيدو في رحلة البحث عن الخلود، وتحديدًا لقائه في حانة سدوري التي يسألها : هل استطيع الهروب من الموت ؟
فتجيبه صاحبة الحانة :إلى أين تسعى ياكلكامش ؟ ان الحياة التي تبغي لن تجد . حينما خلقت الالهة العظام البشر قدرت الموت على البشرية واستاثرت هي بالحياة .فكان جواب سدوري صاحبة الحانة يشبه تمامًا ماقاله كلكامش لانكيدو قبل موته.
موت انكيدو ، حدث قهر كلكامش الجبار وسحق ذلك الوحش المقاتل الفذ، حدث قلب الموازين ورويدًا رويدًا تأخذ الاحداث دورها في انسنة كلكامش جاعلة منه انسانًا واعيًا لذاته ولرسالته تجاه مملكته وواعيًا لمصيره، فأيقن ان سر الخلود يكمن بذلك الاثر الذي سيتركه بعده، كعمق الاثر الذي تركه انكيدو في داخله، اثر جرح ذاته وقلبَ حياته وغير مجراها.
الحزن، هو الحقيقة المُرّة التي رفض كلكامش الاستسلام لها، لكنها كانت في اول الامر واخره الضريبة التي دفعها ، فبعد موت أنكيدو يصاب بحزن شديد على فقدان صديقه الحميم، حيث لا يريد أن يصدق حقيقة موته فيرفض أن يقوم أحد بدفن الجثة لمدة أسبوع إلى أن بدأت الديدان تخرج من جثة أنكيدو فيقوم كلكامش بدفن أنكيدو بنفسه وينطلق شاردًا في البرية خارج أورك وقد تخلى عن ثيابه الفاخرة وارتدى جلود الحيوانات. بالإضافة إلى حزن كلكامش على موت صديقه الحميم أنكيدو ولد في قرارة نفسه خوفًا من حقيقة ،أنه لابد من أن يموت يومًا لأنه بشر والبشر فانٍ ولا خلود إلا للآلهة. كان يرفض ان يتقبل حقيقة موته في يوم من الايام والقبول بذات المصير الذي لقيه انكيدو.
بدأ كلكامش رحلته ومغامرته للبحث عن الخلود والحياة الأبدية. لكن كان عليه في بحثه عن سر الخلود ، أن يجد الانسان الوحيد الذي وصل إلى تحقيق الخلود وكان اسمه أوتنابشتم والذي يعتبره البعض مشابهًا جدًا أن لم يكن مطابقًا لشخصية نوح في الكتاب المقدس. عندما يجد كلكامش أوتنابشتم يبدأ هذا الأخير بسرد قصة الطوفان العظيم الذي حدث بامر الآلهة وقد نجى من الطوفان أوتنابشتم وزوجته فقط! وقررت الآلهة منحهم الخلود. بعد أن لاحظ أوتنابشتم إصرار كلكامش في سعيه نحو الخلود، قام بعرض فرصة على كلكامش ليصبح خالدًا, إذا تمكن كلكامش من البقاء متيقظًا دون أن يغلبه النوم لمدة 6 أيام و 9 ليالي فإنه سيصل إلى الحياة الأبدية!
فشل صاحبنا كلكامش في هذا الاختبار إلا أنه ظلَّ يلح على أوتنابشتم وزوجته في إيجاد طريقة أخرى له كي يحصل على الخلود. تشعر زوجة أوتنابشتم بالشفقة على كلكامش فتدله على عشب سحري تحت البحر بإمكانه إرجاع الشباب إلى كلكامش بعد أن فشل مسعاه في الخلود, يغوص كلكامش في أعماق البحر ويتمكن من اقتلاع العشب السحري .

قرار العودة  
قرر كلكامش العودة إلى أورك مملكته بعد حصول على العشب السحري الذي يعيد نضارة الشباب( لا حظ عزيزي القارى الملحمة تقول يعيد نضارة الشباب وليس تمنح له الخلود)، و يقرر أن يخذه إلى أورك ليجربه هناك على رجل طاعن في السن قبل أن يقوم هو بتناوله، ولكن حصل مالم يكن في الحسبان! ففي طريق عودته وعندما كان يغتسل في النهر سرقت العشب إحدى الأفاعي وتناولته. حزن كلكامش ورجع إلى أورك خالي اليدين( كا تذكر الملحمة). وفي طريق العودة يشاهد السور العظيم الذي بناه حول أورك، ففكر وتمتمَ مع نفسه: أن عملاً ضخمًا كهذا السور هو افضل طريقة ليخلد اسمه. وفي النهاية تتحدث الملحمة عن موت كلكامش وحزن أورك على وفاته.



الخُلاصة
الملحمة تحاكي وتمس كل إنسان و ما يصيبه من أفراح وإتعاب وإحزان ومخاوف وقلق.  
بضع نقاط هي حصيلة دراستي الطويلة لهذه الملحمة والتي امتدت لسنوات ، فالملحمة تعج بالصور والمعاني ووالاحداث الإنسانية النبيلة .
الاولى: فكلكامش يمثل كل إنسان منا.إنه يرمز إلى إنساننا في كل زمان ومكان، في صراعه من البقاء، وصراعه من اجل الحبّ والمال والمناصب،. لابل انه صراع مع الحزن، وصراع مع الموت الذي كسر أنف الإنسان، وكسر اعماقنا  وجرح ذواتنا باختطافه اناس رحلوا عن عالمنا هذا إلى العالم اخر. فمن منّا لم يفقد يومًا كائنًا عزيزًا على قلبه ( أمُّ_ أب _ أخ _أخت _ صديقة _ حبيبة_ حبيب _ مثال اعلى _ استاذ_ رفيق(ة) عمر_ كتاب _ تحفة .... وليضف كل واحد عزيز فقده) وكيف ان الإنسان المدفون في اعماقه   اهتز وصحى من غفوته أو من سباته. وبدأ ينظر للحياة نظرة مغايرة عما سبق. فكل منا محتاج الى زلال أو هزة داخلية ؛ هزة بواسطتها ينهض من سباته وعدم مبالاته للحياة  لينظر إلى الحياة والإنسان نظرة مختلفة. نظرة توجه المسعى لبناء الذات وبناء الآخر، ومعه نسجل ابداعًا في الحياة .
أنها صحوة تكشف لنا سرّ الحياة ومعانيها الجميلة المُخفية.صحوة كشف الوجه الاخر للحياة.
الثانية: ارى من وبعد دراسة طويلة ان بطل الملحمة ليس بكلكامش كما ذكرت في المقدمة ، بل البطل هو انكيدو. فظهور انكيدو على مسرح الملحمة والاحداث هو الذي غير مسار حياة كلكامش، فلولا ظهور انكيدو لما اخذت حياة كلكامش منحى اخرًا ، ولولا موت انكيدو لما اكتشف كلكامش الحزن والقهر وقيمة الحياة، ولما قام برحلة بحث خارج ذاته( مملكته) ناسيًا ملذاته وكراسيه وعرشه وجبروته، ولما تحول من مقاتل متوحش إلى إنسان مؤنسنن ، ولما تحول من حاكم متسلط دكتاتوري إلى حاكم عادلاً  وخادمًا لشعب مملكته، فحول نظره من بناء المعابد والاسوار والثماثيل إلى بناء الإنسان. لقد عاد كلكامش ومعه سر النجاح في الحياة ( ولعل هذا هو سر الخلود)، فعرف سر الخلود يكمن من خلال رحلة الخروج من الذات وخدمة الناس الذي يرئسهم وليس خلوده بكرسيه و بالبطش والاستبداد، وجعل الشعب بيادق شطرنج جاعلاً منهم خدامًا له. ولذا كان الخلود نصيب كلكماش كما كان بالامس خالدًا كما هو اليوم وسيظل دائمًا وابدًا خالدًا. لقد تعلم كلكامش من رحلته ان قيمته وخلوده ليس بكرسيه ومنصبه ، بل هو الذي يعطي قيمة ومعنى للكرسي والاحداث والاشخاص.
الثالثة:  قلنا سلفًا أن كلكامش هو نموذجًا يحاكي الإنسانية جمعاء في ماضيها وحاضرها ومستقبلها. أما عن الرسالة التي نستلخصها من حياة انكيدو تكمن في : أن الإنسان لا يولد إنسانًا بل يصير بفعل عوامل عديدة أهمها في رأيي دوره الشخصي ودور الآخر( المختلف) .
وانكيدو الذي كان نصفه وحش ونصفه إنسان هو إشارة إلى الحيوان أو البداوة او إلا إنسانية المتراكمة والمطورة في داخلنا، وكيف نعمل على إنسنة ذواتنا لنصير إنسان فعالين في الحياة. واسوق لكم مثالاً من الملحمة : انكيدو لما استانسته وانسنته صاحبة الحانة ذهب لمقاتلة كلكامش ومع الوقت يتحولات إلى صديقين حميمن، فيتعلما ان الاختلاف لا يعني خلافن بل يكمل بعضهما البعض. فأتسأل. أليس كلكامش هو نفسه الذي قاتل انكيدو وكان مبتغاه قتل انكيدو، هو نفسه  الذي سيبكي عليه وينوح  لاحقًا. كم كان انكيدو إنسانًا بكل ما تحتويه الكمة من مقنى حتى احرق فؤاد كلكامش ذو القلب الفولاذي الذي لم يعرف الخوف والحزن من قبل موت انكيدو كخوفه من الموت وحزن الفراق!
لذا اقول حياة انكيدو تعلمنا ان الانسان يصير إنسان ويتأنسن متى وعي ذاته، سيعرف مالذي يريده وما هي رسالته في الحياة. ألستم تتفقون معي في هذا العرض؟!
الرابعة: كتب الكثير من الباحثين والدارسين ومنهم الباحث العراقي طه باقر رحمه الله وفراس السواح و استاذي الراحل العلامة الأب يوسف حبّي ، وغيرهم كثار استنادًا إلى ما جاء في الملحمة : ان كلكامش رجع فارغ اليدين، من رحلة البحث عن الخلود .لستُ متفقًا مع ما ذكره هؤلاء الاساتذة الاجلاء وكل من دارت ارئهم في نفس الفلك. وربّ سائل يتسائل عن سبب عدم اتفاقي. فأجيب: لان كلكامش كان راجعًا وبيده سرُّ الوجود ، حيث يعود لمدينة أورك ويبدأ حياة جديدة فيصبح حاكمًا عادلاً ويهتم بمملكته لأنه أمن بأن الخلود يأتي بالعمل الصالح والذكر الطيب والأمانة بالحكم، فأكتشف ان خلوده بما يتركه من بعده من مآثر ومن آثر حسن.
ففي النهاية يكرس كلكامش حياته في محاولة لان يعيش ما تبقى له من الحياة بالقيام بأعمال عظيمة ليبقى اسمه خالدا؛ فعرف خلوده من خلال خدمة الاخرين وتحقيق الرفاهية لشعبه بعد ان عرف كيف ان يتصالح معهم ويبدل نظرتهم إليه، وعرف ان السلطة خدمة.
الخامسة : كما ان الملحمة تعلمنا درسًا في المسامحة، فبواسطة الكلمة الطيبة والفعل الحسن من الممكن ان تحول عدوك الى افضل صديق لك كما حدث لكلكامش مع انكيدو في الاحداث الاولى من الملحمة ، اذ تحولا من متصارعين متقاتلين الى صديقين يضحي واحدهم في حياته من أجل الثاني! وبكى كلكامش اثر رحيل صديقه ( عدو الامس) بكاءًا مرًا ، ولفقدان صديقه الوفي، يخرج عن عالمه الخاص ليكتشف عالم الحياة والخلود والانسان.  
السادسة : في النهاية تتحدث الملحمة عن موت كلكامش وحزن أورك على وفاته.
سر في الملحمة يكمن  في التغير الحاصل في شعور الشعب تجاه كلكامش. ففي اجزائها الاولى  تحدثنا عن  قساوة وبطش كلكامش لشعب ممكلته ، وتذمر الشعب من حاكمًا مستبدًا قاسي الاحكام. كما نلاحظ  دعائهم المستمر للالهة للخلاص منه، في النهاية تتحدث الملحمة عن موت كلكامش وحزن أورك على وفاته لانه ترك في مملكته وفي نفوس شعبها اثرًا عميقًا وطيبًا جعلهم يشعرون بالفراغ الذي تركه بعده. ووحده العظيم الذي يعرف ان لايكون رقمًا في الحياة ووحده المبدع الذي يعرف ان يتركه بعده بصمة مؤثرة في هذا الوجود الجميل. ووحده العظيم الذي يعرف أن يشعر بخطئه ويسعى لتصحيحه وتغير مسار حياته. وهذا هو تمامًا الذي حصل مع كلكامش.
يقول كلكامش في احدى اللواح ربحتُ ثورة القلقْ ، ربحتُ رهبة المغامرةْ
ربحتُ أن أكونَ هدفاً لأسهم الرماةْ
من حاسدينَ أو طغاةْ
مشكلتي.. ليست كنوزَ الأرضِ  ، ليست بليلٍ أحمر النزواتْ
لا الذهبُ البرّاقُ.. لا الجنسُ
لا الحاناتْ.. هيهاتْ
مشكلتي تكمن في موت صديقي وخلي ولبي انكيدو مشكلتي أرفضُ أن أموتْ
أبحثُ عن حياةٍ بعد هذه الحياةْ..؟!

ختامًا :
أؤمن أن كلكامش اكتشف سر الحياة خلال رحلته الشاقة؛ رحلة البحث عن الخلود، لذلك بعودته لملكته انقلب مجرى حياته، فكرس حياته لبناء ممكلته وناسها، فعاش خلودًا ابديًا . ولنتسأل هل مات كلكامش من حضارة وادي الرافدين وحضارة هذا العالم الجميل.؟ وهل مات من ذاكرة التاريخ؟
الجواب من المؤكد كلا والف كلا، فهو لا يزال حيًا بل خالدًا في كتابات الباحثين والدارسين والكُتاب.
سيبقى كلكامش رمزًا لإنسان، عاني من جرح الفراق  بسبب موت صديقه وغلبة الموت، لكنه أخيرصا تمكن من غلب الموت بتصحيح مسار حياته، لذا سيبقى كلكامش رمزًا على حبّ الحياة ورمزًا لكل الباحثين عن معنى الحياة وسرّها. وسيبقي أيضًا دليلاً لكل الذين ينشدون الخلود.
كلنا سواح في هذه الحياة، ولكن طوبى لا بل هنيئًا لمن يحفر لشخصه البقاء المجيد في هذه الحياة من خلال هذه الرحلة، كما حفر انكيدو وكلكامش قصتهما في ذاكرة الحياة والإنسانية .

مقتطفات من كتاب
النفس الجريحة ( قراءة المعاني الإنسانية في ملحمة كلكامش)
(دراسة وتحليل وتعليق  الأب يوسف جزراوي) ( قيد الطبع ).

نحن خلقنا لنحبّ ولنشهد لحبّ الله بين اخوتنا البشر
على الله أبي إتكالي لإشهد بحبهِ بين اخوتي
الإنسان المُسامح هو الذي سيربح في نهاية المطاف.