المحرر موضوع: يوميات ايرانية ( 4 )بدايات العمل  (زيارة 1030 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Adel Habba

  • عضو فعال
  • **
  • مشاركة: 30
    • مشاهدة الملف الشخصي
يوميات ايرانية ( 4 )
عادل حبه
بدايات العمل

بعد ساعة جاء الخال من مقر عمله ورحب بي بحرارة، إذ كنا قد إلتقينا قبلئذ بضع مرات في بغداد. وكان أثناء مكوثه في بغداد يستمتع بالذهاب إلى "الجراديغ" التي كانت تنصب على الجزر في وسط دجلة أثناء فترة الصيهود، أي في فترة الصيف وإنحسار فيضانات دجلة. كان الخال رحمه الله شخصية ممتعة ودافئة وكريمة. فرغم بعده عن بلده العراق قرابة نصف قرن الا أنه ظل مشدوداً للتقاليد البغدادية القديمة وحافظ على لهجة البغداديين في بداية القرن العشرين. وكان لا ينسى كأي بغدادي أن يطلب جلب السمك ونحن في "الجزرة" في وسط دجلة لنقوم بشوائه (سكفه) على الطريقة البغدادية. وتلبية لطلبه كنا نذهب إلى مسناة الرصافة–مرسى الزوارق–الواقعة بالقرب من المدرسة المستنصرية الأثرية العريقة، ونشتري "خيطاً" يحوي إثني عشر سمكة أو أكثر. وأتولى أنا النزول إلى دجلة ماسكاً بخيط السمك ومنحدراً مع تيار الماء صوب الجنوب حيث توجد "الجزرات" و"الجراديغ" هناك في منطقة الكرادة الشرقية ومقابل كرادة مريم وشارع أبو نؤاس. كان الخال لا يكف عن طلب السمك فهو غذائه المحبب الذي يربطه بذكريات صباه في بغداد حيث كان بيت جدي المرحوم الحاج محسن الصفار يقع على شاطئ دجلة الساحر في منطقة الشواكة قرب السفارة البريطانية.
بعد الجواب على الكثير من أستفساراته وما صحبها من استغرابه وترحيبه في نفس الوقت لقدومي الى طهران، أصر الخال وعرض علي الإنتقال إلى بيته الذي يسكن فيه مع أبنه وبناته الخمس وزوجته الإيرانية وعدم البقاء في الفندق. وما كان علي ألا القبول، ولو مؤقتاً، بعرضه خاصة وإن مهمتي كانت تفرض علي التعرف على المدينة بشكل أكثر وفي مكان أمين وبعيداً عن عيون رجال الأمن الإيراني الذين يكثر تواجدهم في الأماكن العامة وخاصة الفنادق. وهكذا إنتقلت إلى بيته حيث إنفردت بغرفة صغيرة في الطابق الثاني من البيت إلى حين تدبير أمري وأقوم بتأجير مسكن أمين بعيداً عن أعين رجال الأمن ورجال الساواك. وللتمويه كنت أخرج معه صباحاً أما بحجة البحث عن عمل أو مرافقته إلى محل عمله وهو مخزن لبيع الأدوات الإحتياطية للسيارات في قلب طهران العاصمة الإيرانية وفي محلة شعبية وصناعية كانت تعرف بـ "جراغ برق"، اي "المصباح الكهربائي"، قرب مركز المدينة المعروف بأسم "ميدان طوبخانة"، اي "ساحة المدفعية"، والتي أصبحت تعرف بعد الثورة بـ "ميدان الخميني". كنت أجلس في محل الخال وأنا أراقب المارة والمشترين الذين يترددون على المحل وأحاول أن أفهم ما يدور من حديث وتعامل بين الخال وهؤلاء الزبائن. وبالنظر لأصول الخال العراقية فقد كان يتردد على المحل على الدوام بعض العراقيين والعرب وعدد من اليهود العراقيين الذين فضلوا الهجرة إلى إيران بدلاً من اللجوء إلى إسرائيل. وكان من بينهم شخص يهودي عراقي صديق لوالدي وإسمه "ألياهو بخاش"، الذي كان يعمل "وكيل إخراج" في الكمارك العراقية في شارع الرشيد في بداية الخمسينيات. وقد كان أول عملي، وأنا صبي يافع في الثانية عشر من العمر، عند هذا الشخص الطيب الذي يحب العراق والعراقيين ويحن إلى بلده الذي هجره مكرهاً. أتذكر انني إستلمت منه أول أجرة في حياتي في بداية الخمسينيات وكانت تبلغ خمسة دنانير في الشهر، وإشتريت بهذا المبلغ مكتبة مازالت موجودة في بيتنا ولحد الآن. وبقيت أشتغل عنده طيلة فترة عدة عطل صيفية متوالية. لقد عرفني هذا الانسان رغم مرور كل هذه السنوات الطوال. إقترب مني في أحدى زياراته لمحل الخال وهمس في إذني سائلاً فيما لو كنت هارباً من إنقلابيي شباط ؟ وهل إنني بحاجة إلى مساعدة؟ إرتبكت قليلاً للوهلة الأولى ولكنني تظاهرت بالدهشة من سؤاله ونفيت أن يكون لي أية علاقة بالسياسة وكوارثها !!!. ومن الذين كان يتردد على محل الخال وبشكل دائب عراقي كهل تبين أنه من أهالي الموصل الحدباء، وكان ضابطاً في الجيش العراقي وكان محافظاً على لهجته المصلاوية اللطيفة. وللأسف تخونني الذاكرة الآن ولا أستطيع إستذكار إسمه. لقد هرب هذا الضابط، وكان ذي نزعة قومية عربية، من العراق إلى إيران بعد إنهيار ما تعرف بحركة رشيد عالي الكيلاني ومربع العقداء الذهبي في أيار عام 1941. وإختبأ في طهران وتزوج من فتاة إيرانية ثم إستقر في إيران بعد أن حصل بعد فترة على جنسيتها. سألته ذات مرة لماذا لا يعود إلىالعراق؟ فأجابني بلهجة موصلية محببة:" لقد فات القطار...ولا أريد أن أخوض تجربة جديدة مرة أخرى، وإن قدري أن أفارق الحياة وأدفن بعيداً عن تراب وطني"..... وتأوه بعمق وبمرارة.
ولكي أتدبر أموري في إيران كان علي الإهتمام بتعلم اللغة الفارسية. وساعدنني في ذلك بنات خالي في أثناء ساعات فراغهن من العمل أو الدراسة. ورحت أحاول قراءة الصحافة اليومية الإيرانية بهدف زيادة معرفتي باللغة. ومما ساعد إلى حد كبير على تحسن لغتي بسرعة نسبياً هو أن الأحرف الفارسية هي نفسها الأحرف العربية، وإن حوالي 40% أو اكثر من المفردات الفارسية هي أما كلمات عربية أو مشتقة منها، اضافة الى وجود الكثير من المفردات الفارسية التي نتداولها يومياً في لغتنا المحلية العراقية. ويبقى الخلاف بين اللغتين العربية والفارسية مقتصراً على نحو اللغتين وقواعدهما اللذين يختلفان جذرياً. أما المهمة الثانية التي كانت تواجهني فهي تنظيم الصلة مع العراقيين الذين فروا بأعداد كبيرة إلي إيران هرباً من بطش إنقلابيي شباط والعمل على تهريب البعض منهم إلى الإتحاد السوفييتي عبر الحدود الشمالية لإيران خاصة ممن كان مصاباً أثناء التعذيب أو مريضاً. وعلاوة على ذلك كان علي مهمة تنظيم الصلة ومد الجسور مع من تبقى من كوادر الهياكل التنظيمية للحزب في كل من بغداد والبصرة وكردستان وربطهما بالمركز القيادي للحزب في الخارج. وتندرج في إطار هذه المهمة أيضاً مسؤولية إيصال الكوادر الحزبية الموجودة في الخارج إلى داخل العراق وتهريبهم عبر الحدود العراقية الإيرانية.
لقد تم ترتيب ذلك قبيل سفري إلى إيران حيث كان من المقرر أن يتم اللقاء مع مسؤول التنظيم الحزبي للشيوعيين اللاجئين إلى إيران بمساعدة من موظف في السفارة الجيكوسلوفاكية في طهران. تم اللقاء مع الموظف التشيكوسلوفاكي في تاريخ محدد حسبما هو مقرر سلفاً في أحد فنادق الدرجة الأولى في طهران وهو فندق "رويال بارك" في الجزء الشمالي من المدينة، وضمن إشارة محددة. وتم الإتفاق على تحديد لقاء أخر بعد أيام في أحد شوارع طهران لتنظيم الصلة بمسؤول الرفاق اللاجئين الى ايران.
وبالفعل تمت الصلة وجرى لقاء حميم و طويل مع الرفيق المذكور وهو المرحوم محمد حسن مبارك الذي يكنى بأبي هشام، والذي عمل بعد ذلك في منظمة المنطقة الجنوبية ثم الفرات الأوسط واصبح عضواً مرشحاً في اللجنة المركزية في المؤتمر الثالث عام 1976، وإختفى أي أثر له في عام 1979 بعد هجوم الحكم البعثي على الحزب. "بعد سقوط النظام الدكتاتورى، وبعد حوالي ربع قرن من إنقطاع أخبار الرفيق أبي هشام عنا، التقت عائلته بالرفيق سامي عبد الرزاق وذلك في آب 2003. وعلم منها بأن الرفيق أصيب بفايروس الكبد القاتل، فحفر قبراً له في بيته كي يدفن فيه بعد موته. ولكن إبنه لم يدفنه في البيت، بل دفنه سرا بمساعدة صديق له في وادي السلام، وذلك عام 2001. ولم يكن الفقيد يخرج من البيت وكان شغله الشاغل هو سماع الراديو." * . إتفقنا والمرحوم محمد حسن مبارك على اللقاء مرة أخرى في بيت خربة في أحدى المناطق الجنوبية الفقيرة في طهران والذي لا نتحمل دفع أي إيجار مقابل المكوث فيه. كان من المقرر أن أستلم المهمة من الرفيق المذكور بعد ان تقرر أن يعود إلى مدينة البصرة في العراق لإعادة بناء تنظيم المنطقة الجنوبية.
بعد هذا اللقاء بعدة أيام تعرفت على عدد من الرفاق الذين تتحدد مهمتهم في تأمين الصلة مع تنظيم المنطقة الجنوبية في البصرة إضافة إلى آخرين ومهمتهم تأمين العمل في طهران والمناطق المحاذية للإتحاد السوفييتي لتأمين وصول الذين يغادرون العراق ويلجأون إلى الإتحاد السوفييتي وذلك بمساعدة من عناصر من منظمة طهران التابعة لحزب توده إيران. وشخص لمهمة المراسة مع البصرة إثنان من رفاق ما تبقى من تنظيم مدينة البصرة وهم كاظم غنتاب المالكي و محمد الحمداني. كانت مهمة هذين الرفيقين التسلل إلى البصرة عبر موقع الشلامجة الحدودي والمناطق التي يسلكها المهربون بعيداً عن أنظار حرس الحدود الإيراني والعراقي. ويتولى الرفيقان مهمة نقل ما يحتاجه تنظيم البصرة من أجهزة طباعية وتجهيزات ضرورية للتنظيم السري اضافة الى الرسائل الواردة من المركز. وبالنظر إلى ضياع كل تجهيزات الحزب أثناء الإنقلاب فقد ساهم رفاق حزب توده إيران بتزويدنا بأجهزة إستنساخ خشبية بسيطة لتأمين إستمرار طباعة النشرات الحزبية. وتولى الرفيقان كاظم و محمد أيضاً نقل الكوادر الحزبية الموجودة في الخارج إلى داخل العراق، إضافة إلى نقل البريد الحزبي من قيادة الحزب في الخارج إلى الداخل وإستلام بريد الداخل لكي يتم إيصاله إلى الخارج. كان هذان الرفيقان يؤديان مهمتهما بنكران ذات في ظل مخاطر جدية سواء من قبل الأمن الإيراني أو الأمن العراقي.
كان كاظم يعمل كصاحب متجر صغير لبيع الأدوات المنزلية في حي الجمهورية في البصرة. وإضطر الرفيق كاظم للهروب إلى إيران بعد إنقلاب شباط، ولكنه سرعان ما إستطاع تنظيم الصلة مع رفاق حزب توده إيران الذين تعرف على البعض منهم عند ترددهم على مدينة البصرة كضيوف على الحزب الشيوعي العراقي بعد ثورة 14 تموز ولحين إنقلاب شباط. وكان بيت كاظم مضيفاً لرفاق حزب توده الوافدين إلى البصرة بهدف التسلل إلى الأراضي الإيرانية. وكان رضا رادمنش سكرتير حزب توده إيران في تلك الفترة من بين الذين إستضافهم الرفيق كاظم في بيته. وكان هذا الرفيق على صلة بشبكة حزب توده إيران في طهران والتي كانت تساعدنا على تسريب العراقيين إلى الأراضي السوفييتية عبر الحدود الشمالية الإيرانية. ويتمتع كاظم بخبرة وبقدرة فائقة على التسلل عبر الحدود حتى في فترات العهد الملكي والعهد الجمهوري وذلك للتبضع والأستمتاع بمدن عبادان والمحمرة (خرمشهر) التي تسكنها غالبية عربية لها أواصر من القرابة والترابط العائلي مع أهالي البصرة ولديها تقاليد ولهجة مشابهة لتقاليد ولهجة البصريين. لقد إضطر هذا الرجل إلى مفارقة عائلته وأولاده الذين يتعلق بهم بشدة بعد انقلاب شباط، وهذا ما كان يؤرقه وكان ينفجر غضباً في بعض الأحيان لإبتعاده عن فلذات أكباده وعائلته. ظلت هذه العائلة الطيبة تقدم الخدمات للحزب في أحلك الظروف التي مر بها الحزب بعد إنقلاب شباط عام 1963.
أما الرفيق الثاني الذي كان يساعده في مهمته فهو محمد الحمداني، وهو الآخر أيضاً من أهالي البصرة وينحدر من عائلة كادحة. وكان يعمل ميكانيكياً في أحدى الورشات الميكانيكية في عاصمة الجنوب. ولجأ أحياناً إلى العمل كسائق تاكسي لسد أفواه أفراد عائلته الكبيرة المكونة من سبعة أفراد. كان محمد رجلاً بسيطاً طيب القلب باسم الوجه ومرحاً ومحباً للغناء والحياة إلى أبعد الحدود. ولم تتوفر له الفرصة للتعليم والدراسة في صباه وبقي أمياً حتى تلك الفترة. ظل هذا الطاقم يقوم بنقل البريد الحزبي وإحتياجات المنطقة الجنوبية بجد ونشاط رغم الصعوبات الجمة التي تحيط بالعمل سواء على الأراضي العراقية أو الإيرانية. كما شرع هذا الطاقم بتسريب الكوادر الحزبية الموجودة في الخارج إلى داخل العراق. وتمرس هذان الرفيقان في دراسة الثغرات الموجودة على الحدود وخاصة منطقة الشلامجه الحدودية التي تعد أفضل ممر للتسلل إلى الأراضي العراقية والعودة إلى إيران .
أما في طهران فكان يساعد في إنجاز الأعمال اليومية شاباً من أبناء النجف هو سعيد المسعودي، وهو أخ الإقتصادي المعروف مجيد المسعودي والفنان حسن المسعودي. وقد هرب سعيد بعد ردة شباط إلى إيران لتفادي البطش. وبعد معرفتي به وحديثي معه تبين إنه يمت ايضاً لي بصلة قرابة. كان سعيد قد إتقن الفارسية بسرعة وراح يقوم بدور مترجمنا الرئيسي في طهران رغم بعض المطبات المثيرة للتندر والاحراج احياناً والناتجة من عدم اتقانه التام للغة الفارسية. وتعلم سعيد كيفية التعامل مع الإيرانيين وتعرف على طباعهم وكأنه واحداً منهم. كان سعيد شاب طيب القلب كريم النفس ولم يتوانى عن أداء المهمات المعقدة التي واجهتنا في طهران.
وفي وقت لاحق إنضم إلى طاقمنا رفيق أخر فريد في تاريخه وقدراته. إنه المرحوم محمد حسن عيدان، أبو ثائر، او كاكا احمدي طبقاً للجنسية الايرانية المزورة التي حصل عليها من محافظة إيلام الايرانية بواسطة اقرباء له. لقد وقعت على عاتق ابو ثائر مسؤولية تنظيم الصلة مع من تبقى من كوادر تنظيمات بغداد من خلال عبوره جبال "بشت كوه" على الحدود الإيرانية العراقية في محافظة الكوت. ينحدر محمد حسن عيدان من أب عربي وأم كردية فيلية منحدرة من جبال بشتكوه الإيرانية. وقد ترعرع في أحضان العشائر الفيلية وتطبع بعاداتها وتقاليدها ولغتها، وكانت لغته العربية تمتزج بلكنة كردية واضحة. إنضم إلى الحزب بمحض الصدفة فقد كان معتقلاً في سجن الكوت في عقد الأربعينيات بتهمة تجارة الشاي غير المشروعة عبر الحدود مع إيران. وفي السجن إحتك بالسجناء الشيوعيين وإلتحق بصفوف الحزب. كانت لهذا الرجل الشهم الكريم الأبي غريزة التنبؤ بالاحداث السياسية، ولهذا ورغم عدم اتقانه القراءة والكتابة الا انه كان يناقش الأوضاع السياسية ببراعة تلفت النظر بسبب إحتكاكه بالعديد من قادة وكوادر الحزب الشيوعي وعمله في جريدة اتحاد الشعب. في الخمسينيات وفي العهد الملكي، ساهم ابو ثائر في مساعدة السجناء الشيوعيين على الهرب من سجن الكوت بعد أن حفروا نفقاً تحت الأرض في السجن. وقدم مساعدات جمة للحزب في العهد الملكي في الخمسينيات. وبعد ثورة تموز عام 1958عمل مرافقاً لحماية قادة الحزب و أصبح مرافقاً لعزيز الحاج أحد قادة الحزب في تلك الفترة. وإثر إنقلاب شباط هرب إلى أقرباء له في منطقة أيلام الإيرانية في جبال بشتكوه ثم عاود الإتصال بالحزب لاحقاً.

يتبع
--------------------------------------------------------------------------------
* مقتطف من مذكرات الرفيق جاسم الحلوائي "القمع الوحشي" على المواقع الالكترونية العراقية[/b][/size][/font]